حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
المصير الأخروي لغير المسلمين
الشيخ حسين الخشن



 

ما هو المصير الأخروي لغير المسلمين؟ هل يمكن أن تشملهم رحمة الله أو تشمل بعضهم على الأقل، أم أنهم من أهل الشقاء وخالدون في نار جهنم؟

 

هذا السؤال ذو أهمية خاصة، كونه يرتبط بمصير المليارات من بني الإنسان، وفي ضوء الإجابة عليه تتضح ليس فقط رؤية الإسلام ونظرته للآخرين بل تتحدد أيضاً رؤية الآخرين للإسلام، لأن موقف الآخرين من الإسلام يتأثر كثيراً بالنظرة التي ينظر بها الإسلام والمسلمون إليهم.

 

ولا يتردد البعض في تقديم إجابة حاسمة عن هذا التساؤل ومفادها: أن كل الناس من غير المسلمين هم من أهل النار ومأواهم جهنم وبئس المصير، دون فرقٍ بين المشركين والملحدين أو أهل الكتاب أو غيرهم ممن لم يعتنق الإسلام.

 

ويستند أصحاب هذا الرأي إلى جملة من النصوص الدينية المختلفة، ولا يعيرون اهتماماً كبيراً للاعتراضات التي قد تواجههم وتطلب منهم تبريراً مقنعاً لهذه "النقمة الإلهية" العارمة التي لا تستثني أحداً من غير المسلمين، أترى خلق الله عباده للعذاب والنيران أم للرحمة والغفران؟ وما يزيد البحث إثارة وإشكالية أن الكافر الذي يحكم بدخوله النار قد يكون صاحب أخلاق طيبة وأعمال مفيدة للإنسانية، وربما كان عابداً لله على طريقته فهل من المنطقي أن يُعذّب الله كل هؤلاء ويزّج بهم في نار جهنم دونما تقدير لأعمالهم وخدماتهم؟!

 

والذي نراه أن طبيعة البحث تفرض مقاربة المسألة منهجياً على مرحلتين:

 

المرحلة الأولى: إنه ومع صرف النظر عن أعمال هؤلاء الحسنة أو القبيحة، هل من المعقول أن يعاقبهم الله  على عقائدهم الفاسدة، أو لأنهم لم يؤمنوا بالإسلام ولم يتخذوه ديناً؟

 

المرحلة الثانية: مع التسليم الإفتراضي أن هؤلاء يستوجبون ويستحقون العقاب لكفرهم وفساد عقيدتهم ولكن ألا يمكن أن تشفع لهم أعمالهم الحسنة ونواياهم الطيبة فيدخلهم الله جنته ويشملهم برحمته؟

 

إن الدين عند الله الإسلام:

 

في البدء لا بدّ من التأكيد على قناعتنا وعقيدتنا في هذا المجال، وهي أن الإسلام وبعد بعثة النبي(ص) أصبح الدين الذي لا مفرّ للبشر جميعاً من اعتناقه والانتماء إليه، لأنه خاتم الرسالات البشرية التي أراد الله لبني الإنسان أن يأخذوا بها، ففيه حياتهم وسعادتهم {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً}(النساء:170)، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).

 

قبح العقاب بلا بيان:

 

بعد هذا التمهيد الضروري نعود إلى مقاربة الموضوع طبقاً للمنهجية المشار إليها، أما بالنسبة للمرحلة الأولى من البحث، أعني كيفية التعامل الأخروي مع الناس من زاوية ما يحملونه من عقائد ربما تكون فاسدة وخاطئة، فإن الذي يلزمنا التأكيد عليه بدءاً أن المرجع في هذا المقام هو العقل، فإن حكم بحسن شيء فلا مانع من تبنيه ولو كان مخالفاً لبعض الأذواق، وإن حكم بقبح شيء فلا بدّ من رفضه حتى لو وردت فيه النصوص، وما علينا والحال هذه إلا تأويل النص إن كان قطعي السند كالقرآن أو رفضه إن لم يكن كذلك، ومن أوضح وأبده أحكام العقل أن الخالق الحكيم لا بدّ أن يحاكم عباده يوم القيامة على أساس العدل  وموازينه، ومنطق العدل يقول بقبح معاقبة كل من لم تقم عليه الحجة والبرهان ـ كما أسلفنا في حديث سابق ـ ولا يمكن للنص أن يكون مخصصاً لحكم العقل هذا أو غيره، لأن أحكام العقل آبية عن التخصيص والتقييد، وقد أقرّ بهذه القاعدة العقلية مشهور العلماء واصطلحوا على التعبير عنها بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهي قاعدة وجدانية يدركها كل إنسان سوي وعاقل، وقد أرشد الله إليها في قوله عزّ من قائل {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.

 

الكافر المعذور:

 

هذا ما نقوله عموماً، وهذا الكلام لا غبار عليه على مستوى القاعدة، وإنما الإشكال في التفاصيل، أقصد في تحديد من قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، وما يمكننا ذكره على هذا الصعيد: أن ثمة صنفين من الناس: 

 

الصنف الأول: هو كل من عرف الحق وجحده، فهو المصداق الجلي لمن قامت عليه الحجة، وبالتالي فهم مستحق للعقوبة، ويلحق به الجاهل المقصِّر فهو أيضاً يستحق المؤاخذة، لا بسبب جحوده وإنما بسبب تقصيره في التعرف على الحقائق، ولكن يظهر من الشهيد مرتضى المطهري أن الجاهل المقصِّر مشمول برحمة الله وعفوه، حيث أنه وبعد أن قسّم الكفر: إلى كفر جحود وكفر جهالة وعدم معرفة بالحقيقة جزم باستحقاق الجاحد للعقوبة، أما "النوع الثاني فلا بدّ أن نقول: إن الجهالة وعدم المعرفة الناتجة عن تقصير من قبل المكلف فهي تقع موقع عفو ورحمة الله سبحانه وتعالى"(العدل الإلهي276). ولا نعرف له مستنداً في الحكم بكون المقصر مشمولاً لعوف الله إلاّ أن يكون انطلق من حسن ظنه بسعة رحمته وعفوه تعالى.

 

الصنف الثاني: الجاهل القاصر وهو معذور عقلاً ونقلاً، وكذلك العالم غير الجاحد أعني به كل من بذل الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة مخلصاً في بحثه وموطِّناً نفسه على إتباع الحق أين ما وجده ولكنه لم يوفق، فهو الآخر معذور، هذه خلاصة ما نعتقد أنه الصحيح في المقام استناداً إلى حكم العقل مؤيداً بالنقل، وأمّا النصوص القرآنية أو الحديثية التي قد تكون بظاهرها مخالفة لهذه النتيجة بمعنى أنها تحكم باستحقاق كل من لم يكن مسلماً للعقوبة الآخروية جاهلاً كان أو عالماً، قاصراً أو مقصراً، فلا بدّ من تنزيلها على المعنى المشار إليه، لما قلناه من ضرورة التوفيق بين ظواهر النصوص وأحكام العقول.

 

وقد عالجنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب الإسلام والعنف فراجع، وقد نقلنا هناك نصاً هاماً للإمام الخميني(رحمه الله) يؤكد فيه ليس على معذورية الجاهل القاصر فحسب، وإنما على أن معظم الكفار هم من صنف الجاهل القاصر المعذور عند الله سبحانه، لأنهم بحكم تربيتهم عاشوا أجواء خاصة جعلتهم لا يرون الحقيقة إلاّ فيما ورثوه من أديان ولا يحتملون وجود خطأ في معتقداتهم.

 

لا عذر لمن لا يؤمن بالله:

 

إن التفصيل المذكور بين القاصر والمقصر يمكن تصوّره في الكثير من المعتقدات، ومنها عقائد مثل: النبوة والإمامة والمعاد وغيرها من العقائد، فإن وجود أِشخاص لم تقم عليهم الحجة بشأن رسالة نبينا محمد(ص) أو إمامة الإمامة من أهل البيت(ع) أو بشأن قضية المعاد ـ رغم دعوى فطريته ـ هو أمر ليس ممكناً فحسب، بل واقع ومتحقق خارجاً، سواء أريد بمن لم تقم عليه الحجة الجاهل القاصر أو المجتهد المخطئ، لكن التفصيل المذكور يصعب الأخذ به في مسألة الإيمان بالله، فإن هذه القضية قد لا يتصور وجود معذور في عدم الإيمان بها، لأن الحجة على وجوده سبحانه قائمة على الدوام وهي بمستوى من الوضوح والبداهة بحيث لا تكاد تخفى على أحد، لشهادة كل من العقل القطعي والوجدان بوجوده تعالى، وحتى لو كثرت الشبهات حول وجوده سبحانه فإن الفطرة السليمة التي يغمرها الإيمان بالخالق كفيلة بطرد كل هذه الوساوس والأوهام والشكوك، نعم لو إن الإنسان مات في زمن دراسة الشبهة وقبل النجاح في تفكيكها والتغلب عليها فإنه يكون معذوراً بحكم العقل، كما يستفاد ذلك أيضاً من بعض الروايات التي تحدثت عن معذورية المكلف في "مهلة النظر" أو "الطلب" ففي الخبر عن أحد الإمامين الباقر أو الصادق(ع) وقد سئل عن قول إبراهيم(ع) لما رأى كوكباً "هذا ربي"؟ قال(ع): " إنما كان طالباً لربه ولم يبلغ كفراً، وإنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته" (بحار الأنوار11/87).

 

ماذا عن التوحيد؟

 

لكن ماذا عن التوحيد؟ هل يُفصّل فيه بين المقصّر والقاصر؟

 

الأرجح هو التفصيل، لأن التوحيد وعلى الرغم من نهوض الدليل ووضوحه عليه لا يمتلك وضوح أصل الإيمان بالله سبحانه، ولذا كان مزلة الأقدام ووقع غالبية الناس أسرى الشرك الجلي أو الخفي، الأمر الذي يشهد لإمكانية وقوع الشبهة فيه، ومن هنا رأينا أن كل الرسالات جاءت رافعة لواء التوحيد وداعية إليه، وقد كان لسان حال كافة الأنبياء {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ} (الرعد :36)، إنّ القيمة العقدية الكبيرة والعالية للتوحيد والتي جعلته في مصاف أصول الدين، بل هو الأصل الأول في تلك الأصول، والتي جعلت القرآن يوليه أهمية خاصة، بحيث أننا نجد أن القرآن طافح بآيات التوحيد والتنديد بالشرك واعتباره ظلماً عظيماً}(لقمان:13) أو "ضلالاً بعيداً}(النساء:116)، إلى غير ذلك من الأوصاف، إن ذلك كله لا يلغي إمكانية وقوع الشبهة في الشرك لا سيما بلحاظ بعض مراتبه التي قد وقع الاختلاف فيها بين المسلمين أنفسهم، لدرجة أن ما قد يراه بعض العرفاء أو المتكلمين على أنه توحيد يراه آخرون على أنه شرك ولا تتورع المدرسة السلفية الوهابية عن رمي معظم المسلمين بالشرك، في ضوء ذلك لا يمكن أن يقاس أصل التوحيد بأصل وجود الله سبحانه في الآثار والأحكام، وعليه فما ورد حول عقوبة المشرك واستحقاقه النار، كما في قوله تعالى: {إنّه من يشرك بالله فقد حرّم عليه الجنة} لا بدّ أن يفهم في ضوء ما ذكرناه إمّا بأن يفرض أنه وارد في دائرة الشرك الواضح والبديهي البطلان أو في خصوص ما كان عناداً أو تقليداً للآباء والأجداد دون حجة أو برهان.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon