حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
الكرامات والخرافات
الشيخ حسين الخشن



 


تنطلق بين الفينة والأخرى دعاوى ( كل ما لم يعضده البرهان فهو دعوى) مختلفة عن حدوث كرامة في هذا المقام، أو ظهور "عجيبة" في ذاك المكان، ويتداول الناس ذلك ويصدق ذلك الكثيرون منهم ويندفعون إلى مكان ظهور الكرامة أو "العجيبة" بهدف أخذ البركة، أوطلباً لقضاء الحوائج، والدعاوى المشار إليها لا تختصّ بجماعة دينية دون أخرى، ولا بمنطقة دون أخرى، فهذا ما يحصل عند المسيحيين على اختلاف مذاهبهم، حيث يحدثونك عن رشح تمثال للسيدة العذراء زيتاً معيناً وربما دماً أحمر قانياً، أو نحو ذلك من الأمور، ويحصل عند المسلمين أيضاً على اختلاف مذاهبهم، ومن ذلك ما ادعي حصوله مؤخراً من ظهور دم أحمر في جدران بعض "المقامات" المبنيّة حديثاً في مدينة "بعلبك" في لبنان، وقد أثار الأمر ضوضاء كثيرة بين من كذّب الأمر وادعى أنّه "مفبرك" وقد سمعنا ذلك من غير واحد العلماء وإن اضطر بعضهم ليسحب كلامه لعدة اعتبارات، وبين من صدقّ الأمر وروّج له بشكل كبير، ما دفع بالآلاف من الناس لتتهافت إلى زيارة المقام المذكور، والسؤال: إنّه وأمام ظاهرة من هذا القبيل كيف نحدد موقفنا؟ وما هو تكليفنا؟ وما هي دلالات هذا الأمر؟

والإجابة على هذه الأسئلة وسواها نتناولها في المحاور التالية:



1 - الإيمان بمبدأ الكرامة

مؤكدٌ أنّ المسلم الذي آمن بما جاء في كتاب الله تعالى لا يتسنى له إنكار مبدأ الكرامة، فقد نصّ القرآن الكريم على العديد من المعاجز والكرامات التي جرت على أيدي الأنبياء أو بعض الأولياء.

إلاّ أنّ الأمر الذي علينا أن لا نغفله هو أنّ الكرامة بما تعنيه من خرق لقوانين الطبيعة هي استثناء في حركة السنن الطبيعيّة الحاكمة، وهكذا استثناء لا يحصل اعتباطاً أو جزافاً، بل لا بدّ من حكمةٍ موجبة لذلك، لأنّ الكرامة ليست أحسن حالاً من المعجزة، وكما أنّ المعجزة لا تتحقق إلاّ في حالات استثنائية تقتضيها، فكذلك الحال في الكرامة، ولقد حدثنا القرآن الكريم عن أنّ الله تعالى لم يكن ليستجيب دوماً لاقتراحات الكافرين وطلبهم للمعجزة من النبي (ص)، فعندما رفض بعض المشركين التسليم للنبي(ص) والإيمان به إلاّ إذا جاءهم بمعجزة، من قبيل أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو يسقط السماء عليهم كسفاً أو يكون له بيت من زخرف أو يرقى في السماء، جاء الجواب الإلهي: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً}، أي أنّ ما تطلبونه خارج عن قدرتي، لأني "بشر"، والبشر عاجز عن مثل ذلك إلا بتسديد إلهي، كما أنّ ذلك خارج عن مهمتي، لأنّي "رسول"، ومهمتي الرسالية لا تحتم أن يكون لي مثل هذه القدرة والسلطة التكوينية، يقول السيد محسن الأمين العاملي رحمه الله تعليقاً على كرامة مزعومة حدّثه بها بعض الناس: " إنّ فضائل أئمة اهل البيت(ع) وكراماتهم لا يشك فيها أحد ولكنّ كثيراً من الكرامات التي تنقل على ألسنة الناس هي مكذوبة، لأنّ الكرامة لا تأتي عفواً أو متى شاءها الإنسان، وعلى يد كل أحد، ومع كل مناسبة، وإنما تكون عند موجب قوي يقتضيها.."[1].

2 - موقع الكرامة في إثبات العقيدة

ولكن ما هو موقع الكرامة في إثبات المعتقدات؟

لا شك أنّ للكرامة إذا ما تسنى لنا إثباتها – ولا سيما في زماننا هذا الذي تجتاحه الأفكار والفلسفات المادية – دورأً إيجابياً طيباً لصالح الدين والمتدينين، فإنّها تشكّل دليلاً ومستنداً على وجود عالم من الغيب خارج نطاق المحسوسات، كما أنّها تساهم في تعزيز القناعات الدينية، لأنّها تمثل برهاناً حسياً ينزل الفكرة من تجريدها العقلي إلى عمقها الوجداني، وهذا ما يستفاد من طلب إبراهيم (ع) من الله تعالى أن يريه كيفية إحياء الموتى، قال تعالى:{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمأن قلبي} ( البقرة 266) .

بيد أن الأمر الجدير بالمعرفة والمدارسة هو أنّ الكرامة قد لا تمثّل البرهان الفاصل، فضلا عن أن يكون الوحيد في إثبات صحة المعتقدات والمذاهب، إلاّ إذا ثبت لنا أنّ الله تعالى لا يمّكن أحداً منها إلا إذا كان صاحب دعوة محقة، كما لدينا مثل هذا الجزم والاعتقاد في خوارق العادة التي تظهر في زمان النبوّات، حيث إنّ العقل حاكم بقبح إظهار المعجزة على يد الكاذب وإلا لزم إغراء الناس بالجهل وتضليلهم، ولا تتم الحجة بذلك عليهم، مع أنّ الله تعالى قد توعد بإتمامها، قال تعالى:{ ولله على الناس الحجة البالغة} وبعبارة أخرى: إن إظهار المعجزة على يد مدعي النبوة يؤدي أو أعداء النبي هو خلاف الحكمة الإلهية، هذا في عصر النبوات.

وأما بعد انتهاء زمن النبوات- كما هو حال زماننا هذا- فهل إن ظهور خارق العادة على يد أحد من الناس هو دليل قاطع على صدقية دعوته؟

والجواب: إنّ الأمر ليس بهذا الواضوح، ولا دليل من العقل أو النقل يحتّم ذلك، وهذا ما نبّه عليه بعض الأعلام من أنّه ليس كل خارق لقوانين الطبيعة هو كرامة، إذ ربما كان ذلك على تعبير القرآن الكريم استدراجاً ، يقول السيد التنكابني تعليقاً على بعض الخوارق التي تصدر من الصوفية أو تظهر على أيديهم:" إنّ خوارق العادات تصدر من المحق والمبطل فلا يجب إنكار ذلك من جماعة الصوفية خذلهم الله ! ولا يجوز أن يجعل ذلك دليلاً على حقانية مذهبهم، بل قد ينال بعض الأشقياء هذه المرتبة من باب الاستدراج .. فالفريقان من أهل الكفر والطغيان وأهل الإيمان واليقين يمكن أن يباغا هذه المرتبة على حسب الاستعداد والمصالح الكاملة، كما نلحظ ذلك في بعض أهالي الهند وما يقومون به من الرياضات المختلفة في بيوت الأوثان .."[2].

وخلاصة القول: إنّه لا يمكننا البتّ بأنّ خارق العادة هو كرامة إلهية، وأعود وأكرر إنّ هذا الأمر بحاجة إلى دراسة كلامية متأنية .

وفي ضوء ذلك لا يجوز أن نرهن إيماننا بالنبي(ص) أو الأئمة من أهل البيت(ع) بظهور كرامة أو عدم ظهورها، بل إنّ علاقتنا بالنبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) هي أسمى وأرفع وأجلّ من أن نرهنها لثبوت كرامة هنا أو هناك، فما عند النبي(ص) والأئمة (ع) من خزائن علم ومعرفة تغني العقل والروح وتمدنا بالنور الصافي الذي لا تشوبه شائبة هي خير دليل على سموهم وعظيم شأنهم وارتباطهم بالمبدأ الأعلى، وهي خير مقنع لنا بضرورة اتباعهم والارتواء من معينهم واستلهامهم في كل ما نحتاجه في حياتنا.



3 - "كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان"

وبما أن الكرامة – كما أسلفنا - تمثل استثناءً في حركة السنن، فيتحتم علينا أن نتثبت من حصول الاستثناء وحصول موجبه، قبل أن نتسرع أو نتورط بالإيمان بالشيء وترويجه، دون أن يبرر لنا ذلك التسرع إلى نفي الأمر والاستخفاف به، فلا المسارعة إلى إعلان الإنكار ورمي الظاهرة المفترضة بالخرافة أمر صحيح، ولا المسارعة إلى الإيمان بالشيء وتقديمه على أنّه كرامة وبناء الاستنتاجات على ذلك هي أمر صحيح، فالأمر المنطقي هو أن نضع الظاهرة المفترضة في دائرة الإمكان، طبقاً لما نقل عن ابن سينا: "كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان".

وفي الوقت الذي نخطّأ فيه المسارعة إلى الإنكار والمسارعة إلى الاعتقاد بالشيء دون دليل، فإننا نرفض أيضاً تخوين هؤلاء أو هؤلاء، فمن ناحية أخلاقية وفي ضوء المعايير الشرعية لا يحق لي اتهام من أنكر هذه الكرامة بأنّه ناقص الإيمان وضعيف الاعتقاد أو رميه بـ "الوهابية المقنعة"، وهو الأمر الذي يقع فيه بعض من يقدمون أنفسهم على أساس أنهم "أساتذة الأخلاق والعرفان والحكمة"، وفي الوقت عينه لا يحق لمن لا يؤمن بهذه الكرامة أو تلك أن يتهم من آمن بها بأنّهم خرافيون أو لا عقلانيون.

مع الإشارة إلى أنّه ربما كان ضرر المسارعة إلى التصديق مع ترويج الأمر على أنّه كرامة أكبر من ضرر المسارعة في الإنكار، لأنّ التصديق والترويج سينعكس سلباً على صورة الجماعة والمذهب الذي تنتمي إليه.

4- "قل هاتوا برهانكم"

ثم إنّه وبعد وضع المسألة في دائرة الإمكان تأتي مرحلة لاحقة، وهي مرحلة إقامة الدليل، والمطالب بالدليل في المقام ليس النافي للكرامة، بل المثبت لها، أي الذي يزعم وجود ظاهرة غير طبيعيّة ومخالفة لحركة السنن، والمنهجيّة العلميّة تفرض علينا وضع كل الاحتمالات المتصورة أمامنا دون أن نستبعد أي احتمال منها، لنتساءل: هل لهذه الظاهرة تفسير علمي واضح أم لا؟ هل أنها مفبركة ومخترعة لبعض الأغراض المادية أو السياسية والتعبوية والمذهبية؟ هل ثمة أمر طبيعي قد حصل وخاله الناس اشتباهاً على أنه كرامة ؟ أم لا هذا ولا ذاك وينحصر تفسيرها بشيء واحد، وهو أنّها ظاهرة غريبة، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام احتمال الكرامة؟

وهكذا يتبين أنّ احتمال الكرامة لا يمكن إثباته إلاّ بعد استبعاد احتمال التفسير الطبيعي والعلمي للظاهرة، واستبعاد احتمال "الفبركة" والاختراع أيضاً، واستبعاد احتمال الاشتباه، وبعد نفي هذا وذاك واستبعاد هذه الاحتمالات قد لا نجد مفراً من تفسير الظاهرة بتفسير غيبي يتمثّل بخرق قوانين الطبيعة.

ولا يخفى أنّ إثبات احتمال الكرامة ( من بين الاحتمالات المتقدمة) ليس بهذه البساطة، بل ربما كان أضعف الاحتمالات في المسألة، لا لأنّه احتمال واحد وإزاءه أو في مقابله عدة احتمالات ولا يمكن اثباته إلاّ بنفيها فحسب، بل لأنّه (أي احتمال الكرامة) بطبيعته احتمال مخالف لحركة القوانين الطبيعية التي جرت عليها سنة الله في الكون، لأنّ الله أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، كما نصت عليه بعض الروايات الواردة عن بعض أئمة أهل البيت(ع).

وغني عن البيان، أنّ الدعوة إلى التثبت قبل إصدار الأحكام وقبل المسارعة إلى التصديق بالأمر ثمّ الترويج له، لا تنمّ عن ضعف في الإيمان كما قد يتخيله بعض الناس، بل إنّ الأمر على العكس من ذلك تماماً، فالدعوة إلى التثبت هي دليل إيمان ومن مقتضيات التدين، لأن المنهج القرآني قد نهى عن اقتفاء الظنون والعمل بها، لأنها ليست مصدراً سوياً لبناء المعرفة ولا لتاصيل العاطفة ولا لحركة السلوك، قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً}، كما أنّ القرآن الكريم قد أكّد بشكل جلي أنّ ميزان الصدق والكذب هو في توفر البرهان وعدمه، قال تعالى: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ( البقرة 111)، فالصادق في دعواه هو الذي يقيم عليها دليلاً وبرهاناً، بينما علامة الكذب والكذّاب هي في ضعف حجته وبرهانه.


مثال على تثبت العلماء

من ذكريات أيام الدراسة في حوزة قم أنّ بعض المشايخ جاء ذات يوم وهو يتأبط كتاباً له وهو معتز بتوفيق الله له لتأليفه، والكتاب يتحدث عن "الشجرة المعجزة" التي ترشح دماً في عاشوراء، وطلب من بعض أساتذتنا أن يكتب له تقديماّ يؤيّد فيها ما جاء في الكتاب، ولأنّ هذا الأستاذ كان عالماً دقيقاً ولا يؤخذ بالعواطف والشائعات، وفي الوقت عينه لا يريد أن يظهر بمظهر من ينكر كرامات أهل البيت (ع) قال لذاك الشيخ: أنا على استعداد لكتابة مقدمة تؤيد مضمون هذا الكتاب.. لكن بشرطين:

الأول: أن تجلس تحت هذه الشجرة لمدة سنة كاملة، ليتسنى لك ولنا التثبت والتأكد من أن هذه الشجرة لا تنزف طيلة أيام السنة ولا تخرج منها هذه المادة إلا في يوم عاشوراء .

الثاني: أن تلاحظ بنفسك أو تأتينا بدراسة موثوقة عن أشجار أخرى من نفس هذه الفصيلة تبيّن ما إذا كان لهذا النوع من الأشجار خاصيّة طبيعية في بعض فصول السنة تؤدي إلى خروج هذه المادة الحمراء.

وأخال أنّ صاحبنا لمّا سمع بهذين الشرطين الدقيقين والعلميين عرف الجواب وآيس من أن يحصل على شهادة مجانية لترويج كتابه.

مثال آخر: عدم التصديق لا يعني التكذيب

وكما أنّ عدم التصديق بكرامة هنا أو هناك لا يعني ضعفاً في الإيمان، فإنّه لا يعني أيضا تكذيب مدعي الكرامة، فمدعي الكرامة قد يكون ثقة جليلاً ولا يتهم بالكذب والتزوير، ومع ذلك قد لا يمكننا تصديقه والأخذ بما يقوله، لأننا قد نعلم باشتباهه فيما ادعاه، والوثاقة والجلالة لا تعنيان العصمة عن الخطأ والاشتباه، وهذا ما تنبئك به القصة التالية التي أعرفها عن قرب:

كان لدى أحد المؤمنين حفيد مصاب بمرض نفسي يعرف بـ "التوحّد"، وهو مرض لا علاج له، وبدافع إيماني وثقة عظيمة بالله قرر الرجل أخذ حفيده لزيارة مقام السيدة زينب عليها السلام في سوريا، ليطلب من الله تعالى ببركتها وكرامتها أن يمنّ على حفيده بالشفاء، وهكذا كان فذهب الرجل مصطحباً حفيده ومعه أيضاً أم الطفل وجدته، وأٌدخل الطفل إلى المقام من جهة النساء، وأخذت أمه وجدته تدعوان الله تعالى بشفاءه، وتقولان له، أي للطفل: قل: يا الله شافني بحق السيدة زينب، أو قل: "يا ستي زينب"، أو غيرها من الكلمات، والصبي واجم لا ينطق بكلمة ولا يرد على طلبهما، وهنا اجتمع عدد من النسوة حول الطفل وأخذن يقلن له بإلحاح: "قل يا ستي زينب"، وعلى كثرة الإصرار ردد الطفل معهن تلك الكلمة، قائلاً: " يا ستي زينب"، وما أن سمعته النسوة ينطق بها حتى انتزعنه من يدي أمه وحملنه على الأكف وأخذن يطفن به في أرجاء المقام وهن يهتفن ويصرخن بصوت عال: "حدثت معجزة .. نطق الصبي الأخرس"! وقد ضاع وسط هذه الضوضاء صوت الأم وهي تصرخ بهاتيك النسوة: دعوا ابني فإنه يتكلم من الأساس وليس بأخرس!!

إنّ هؤلاء النسوة عندما يتحدثن في بلدانهن عمّا رأته أعينهن من "كرامة" فلسنا بكاذبات، ولكنهن بالتأكيد واهمات.

5- الرجوع إلى أهل الخبرة

ثمّ إنّ الذي يدرس الظاهرة ويفند الاحتمالات المشار إليها ليس عامة الناس، وليس بالضرورة أن يكونوا علماء دين، بل هم أهل الاختصاص الموثوقون، فعندما نكون أمام "كرامة" تتحدث عن شفاء إنسان من مرض عضال – مثلاً - ، فمن الطبيعي أن الذي يؤكد شفاءه هم الأطباء، ولذا من المفترض أن نسألهم عن مدى حصول الشفاء فعلاً وما هو تفسيرهم ذلك؟ إذ ربما قدموا لنا تفسيراُ علمياً معقولاُ لشفائه، وعندما نكون أمام ظاهرة خروج سائل يشبه الدم من شجرة معينة (كما في الشجرة التي يزعم البعض أنها ترشح دماً في يوم عاشوراء) أو من جدار أحد المقامات (كما في رشح الدم المزعوم في مقام "السيدة خولة" في بعلبك)، فعلينا الرجوع إلى علماء مختصين بالتركيبات الكيميائية، فلعل ثمة مزيجاً أو تركيباً كيميائياً معيناً أدى إلى حصول هذه "الظاهرة" إما بصورة طبيعية أو بصورة مفبركة، وعلينا أيضاً الرجوع إلى المختصين بالشأن الفني التصويري، فلعل ما نراه بصورة دم هو نتيجة بعض المؤثرات الضوئية التي توهم الباصرة بأنّه دم، أليس ذلك ممكناً ونحن في عصر العجائب.

والسؤال أين اللجان التي تشكلت على هذا الصعيد أمام الظاهرة المدعاة، وأمام هذا السيل من الكرامات التي نسمع عنها باستمرار.

إنّ ما نراه لدى المسيحيين على هذا الصعيد ( وبصرف النظر عن مدى تصديقنا بما يحكى من "كرامات") هو أنهم عندما يتداول الناس الحديث عن ظاهرة من هذا القبيل تمّت على يدي راهب أو في "مقامه" كأن يحكى عن عمليات شفاء المرضى أو غيرها من "الكرامات" المدعاة يعملون على تشكيل لجان متخصصة ومحايدة وموثوقة وتعمل على دراسة الظاهرة دراسة متأنية قد تمتد لسنين طويلة قبل إصدار الحكم بتأكيد "الكرامة" و"تطويب" صاحبها قديساً أو نحو ذلك.

6- الكرامة وإثبات صدقية المقام

ما مدى دلالة الكرامة على صدقيّة المقام الذي لا دليل على صدقيته؟

والجواب على ذلك قد فصلناه في كتاب" المقامات الدينية- المشروعية، الأهداف، الضوابط"، وخلاصة القول في ذلك: أنّ الكرامة تارة تحصل في مقام ثابت الصدقيّة، كما لو حصلت في جوار قبر النبي الأكرم (ص)، أو في بيت الله الحرام وفي جوار الكعبة المشرفة، أو في مقام أبي عبد الله الحسين (ع) .. وهنا يكون التصديق بالكرامة بعد التثبت من حصولها من مؤشرات الإيمان، وأمّا لو حصلت الظاهرة الغريبة في المقامات التي لم تثبت صدقيتها، إمّا لعدم ثبوت وجود الشخصية التي بني المقام باسمها، أو لعدم ثبوت اعتبار هذه الشخصية من الناحية الدينيّة، أو لعدم ثبوت دفنها في هذا المكان، فهنا لا يمكننا الجزم بأنّ حصول الظاهرة يعدّ شاهدا على صدقية المقام، وفي الحد الأدنى فإنّ ذلك لا يمثل دليلاً قطعياً على الصدقيّة في المجالات المشار إليها.




[1] رحلات السيد محسن الأمين: ص145.
[2] قصص العلماء: ص44.






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon