ذرية الرسول (ص): الخيط الرفيع بين المحبّة والطبقية
غير خافٍ أنّ من أهم المبادئ التي أرساها الإسلام وحرص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على التبشير بها مبدأ التساوي بين الناس، سواءً في أصل الخِلْقة الإنسانيّة، أو في الوظيفة والدور، أو في الحقوق والواجبات، محارباً (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ أشكال التمييز العنصري والتفاوت الاجتماعي، رافضاً الارستقراطيّة القرشيّة ومعاييرها الظالمة في تفضيل الناس بعضهم على بعضهم، مقدّماً معايير جديدة للتفاضل بين الناس لا تقوم على أساس النسب ولا العشيرة ولا اللون ولا الجنس ولا غيرها من المعايير الجاهلية، فـ "لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى" 1، وإنما يقوم التفاضل على أساس الدين والتقوى وما يقدّمه الإنسان لنفسه أو لأمّته من أعمال الخير والخدمات وما يكتسبه من مواصفات حَسَنة ويتحلّى به من خصال طيّبة، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، [الحجرات: 13] وقال سبحانه: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، [الزمر: 9] ويقول تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}، [السجدة: 18].
باختصار: إنّ معيار التفاضل يرتكز على عنصرين أساسيين:
أحدهما: أن تكون الفضائل مكتسبة بالإرادة، وليست موروثة بالولادة بحيث تبقى في إطار الشكل دون المضمون.
الثاني: أن تندرج الصفاتُ المكتسبة، في عداد الفضائل لا الرذائل، فتكون صفات حسنة في نظر العقل والشرع.
وقد حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تطبيقه لهذه المبادىء على البدء بالأقربين من بني هاشم، وهم أهله وعشيرته، ليسجّل رفضاً قاطعاً لكل الامتيازات التي أرستها العقليّة الجاهلية، فلم يقبلْ أن يحابي أهل بيته أو يعطيهم أية خصوصية تميِّزهم عمّن سواهم، أو ترفعهم عن مستوى سائر الناس، ولهذا وجدناه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد أن نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، [الشعراء: 213] يوجّه خطابه لذوي رحمه وقرابته قائلاً: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية بنت عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" 2، ورفض (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستثنيهم من القوانين، فليس هناك أحد من أقربائه أو ذريته فوق القانون، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيمُ الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها" 3.
ولكنّ المفارقة أنّ هذا المبدأ الإسلامي الأصيل الذي جاء به الإسلام وعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بموجبه قد تمّ انتهاكه وتجاوزه فيما بعد وفي خصوص ذريّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تمّ تجاوز غيره من المبادئ الاسلامية، لا من موقع العصيان والتمرد، بل من موقع العاطفة والتساهل؛ وخطورة هذا التجاوز أو التساهل أنّه قد تمّ إلباسه لبوساً إسلامياً، وإنّ المتأمّل في بعض النصوص الروائيّة، كما في بعض الفتاوى الفقهية، سوف يحمل انطباعاً مغايراً لما تقدّم من مبادىء، بل ربّما سوف يجد واقعاً مختلفاً كرّسته بعض النصوص والفتاوى، والتي مفادها أنّ الإسلام أعطى امتيازات خاصة لعشيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذرّيته، الأمر الذي خلق إشكالية فعليّة طرحها بعضهم إزاء هذا التضاد بين الواقع وبين المبادئ 4.
سجيّة إنسانية:
وقبل أن نسلِّط الضوء على أهمّ الأمثلة والنماذج التي قد يرى البعض فيها تجاوزاً لذلك المبدأ، وهي "تجاوزات" أُعطيت بموجبها ذرّية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض الامتيازات، إمّا بدافع عاطفي بحت، وإمّا انطلاقاً من اجتهاد معيّن، أو بسبب تفسير بعض النصوص أو الفتاوى بطريقة مغايرة لفحواها ومقاصدها، قبل ذلك نجد من الضروري أن ننبِّه ونلفت النظر إلى سجيّة إنسانية لم يقف الإسلام في وجهها، وهي أنّ الإنسان إذا أحبّ شخصاً وعَشِقَه، فإنّ حبَّه سوف ينعكس أو ينسحب على كلّ ما يتّصلُ بالمحبوب والمعشوق من آثار ومتعلّقات، وقد أجاد مجنون ليلى في التعبير عن هذا المعنى حيث قال:
أمرّ على الديار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
5 وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا
ووفقاً لهذه السجيّة الإنسانية، نجد أنّ المسلم ومن موقع حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشوقه إليه، فإنّه يرتبط عاطفياً بكل ما يتصل به (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ينتسب إليه, حتى لو كان حجراً أو بيتاً أو ثوباً، فكيف لو كان ابناً من أبنائه، ولهذا كان من الطبيعي عندما يرى المسلم أحد أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحفاده وذريته أن يندفع إليه فيحتضنه أو يقبّله، لأنه يُذكّره برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إنّه قد يندفع من موقع العاطفة عينها ليقبِّلَ الجدار الذي أظلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصخرة التي جلس عليها، أو البيت الذي سكن فيه، أو الثوب الذي ارتداه، وإذا ما سار أو مشى – أيّ المسلم- في أزقة المدينة المنوّرة أو أحياء مكة القديمة فإنّه ربما يشعر فيها بأنفاس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطواته الحانية ومواقفه الخالدة، إنّ ذلك كلّه أمر طبيعي ومفهوم، إلاّ أنّ هذه العاطفة الإنسانية والتي تعبّر عن نفسها باندفاع المسلم إلى احتضان الذرية الطيبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واحترامهم وتكريمهم على قاعدة "لأجل عينٍ ألفُ عينٍ تُكْرَمُ" لا تعني إطلاقاً إقرار واقع طبقي تُتجاوز فيه حدود الله تعالى أو تُكرَّس فيه امتيازات "شرعية" وقانونية لصالح ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو غيرهم من المسلمين.
ومن البديهي أنّ المنتسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّما زاد إيماناً وتقىً وورعاً وسما خلقاً ومنطقاً كلما زاد احترامه وتقديره أكثر فأكثر لدى المسلمين وغيرهم، لأنّه جمع إلى النسب الطيِّب ما يُزيِّن هذا النسب ويزيده رفعة وشرفاً، وأمّا إذا هبط بأخلاقه إلى الأسفل وابتعد عن سيرة جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليم دينه، فإنّه بذلك يستحقّ الملامة والتوبيخ أكثر من غيره، لأنّ انتسابه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدعاة ليكون أولى الناس باتّباع هديه والاستنان بسنته، ومن هنا وجدنا أنّ القرآن الكريم قد نصّ على أنّ الفاحشة لو أنّها صدرت من زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ عقابها يكون مضاعفاً، بالمقارنة مع الفاحشة التي قد تصدر من سائر النساء، وذلك لأنّ انتسابهنّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف يطلق العنان لبعض الألسنة لتنال من رسول الله، فضلاً عن أنّه قد يُغري بعض الناس بارتكاب المعاصي، قال تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقاً كريماً * يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً} [الأحزاب 30-32].
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآيات المباركة، قد أكّددت عليه أيضاً الروايات الواردة عن الأئمة من أهل البيت (ع)، ففي الحديث الصحيح عن الإمام الرضا (ع) وقد سئل: "الجاحد منكم ومن غيركم سواء؟ فقال: الجاحد منّا له ذنبان والمحسن له حسنتان" 6.
وفي حديث آخر عنه (ص) وقد سئل: "أخبرني عمن عاندك ولم يعرف حقك من ولد فاطمة هو وسائر الناس سواء في العقاب؟ فقال (ع): كان علي بن الحسين (ع) يقول: عليهم ضعفا العقاب" 7.
إنّا أعطيناك الكوثر
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنّه وبالرغم من كلّ الأعمال الوحشية ومجازر القتل وحملات التشريد التي ارتكبها الأمويون والعباسيون بحق ذرية النبي الأكرم (ص) من العلويين، فإنّ الله تعالى بارك في هذا النسل، فتكاثر عددهم وانتشروا في مختلف بقاع الأرض شرقها وغربها، ونبغ فيهم – ولا يزال- آلاف من أعلام الفكر والأدب ومراجع الدين وذوي الشأن الاجتماعي والسياسي.. بينما لا تُعرف ذرية ظاهرة لظالميهم من بني أمية أو غيرهم 8، وهذا يمثّل في الحقيقة مصداقاً جلياً لقوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إنّا شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 1 – 3 ].
امتيازات طبقية
وبعد هذا التنبيه المهم والضروري، فإننا نطلُّ فيما يلي على دراسة جملة من المقولات التي قد تُطرح أو تُفهم بعنوان أنّها امتيازات مُنحت لذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما يعكس حالة من الطبقية المرفوضة، والمؤسف أن يتم تكريس هذا التمايز الطبقي تحت غطاء "شرعي" ويُدَعم ببعض الروايات أو الفتاوى، ونحن نحاول دراسة هذه "الامتيازات" على ضوء مرجعية القرآن الكريم، وصحيح السنة.
وأشكال التمايز التي أمكننا رصدها خمسة:
1- التمايز التكويني.
2- التمايز التشريعي.
3- التمايز الاجتماعي.
4- التمايز الظاهري (الشكلي).
5- التمايز الأخروي.
وفيما يلي نطل على دراسة هذه الأشكال الخمسة.
التمايز التكويني
وهو تمايز على مستوى الخِلْقة، حيث قد يتخيَّل البعض أنّ الله قد خصّ ذريّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخصوصيّة تكوينيّة لا يشاركهم بها أحد! ويتجلى ذلك في الرأي المشهور عند علماء الشيعة فيما يتصل بسن اليأس عند المرأة، فالمرأة العلوية التي ينتهي نسبها إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يتأخر سن اليأس عندها إلى الستين من عمرها، أمّا المرأة "العامية" التي لا ترجع في نسبها إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ سن اليأس عندها يبدأ على رأس الخمسين عاماً.
هكذا قد يتصوّر بعضُ الناس، ويتساءلون باستغراب عن سرّ هذا "التمييز الإلهي" للمرأة المنتسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفضيلها على مَنْ سواها من النساء في هذا الأمر؟!
إلاّ أنّ هذا فهم خاطىء للمسألة، والصحيح أنّه ليس هناك امتياز أو تفضيل إلهي للمرأة المتصلة نسباً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على من سواها، وبيان ذلك:
أولاً: إنّ الحكم بتمايز الهاشمية في الحكم المذكور وامتداد حيضها إلى الستين من عمرها هو محل خلاف بين الفقهاء، فمع أنّ الكثير من الفقهاء ذهبوا إلى هذا الرأي، ونُسب إلى المشهور 9، إلاّ أنّ ثمة اتجاهاً فقهياً آخر يرى أنّها متساوية مع غيرها في هذا الأمر، ويختلف أصحاب الاتجاه الثاني على قولين:
أحدهما: إنّ سن اليأس عند مطلق المرأة قرشية كانت أ, غيرها يتحقق ببلوغ الخمسين سنة، وقد ذهب إلى هذا القول جمع من الأعلام 10، وأفتى به بعض الفقهاء المعاصرين 11.
13 ثانيهما: إنّ سن اليأس عند مطلق المرأة أيضاً قرشية أو غيرها يتحقق ببلوغها الستين عاماً، وقد اختاره بعض الفقهاء أيضاً، كالعلامة الحلي في بعض كتبه والمحقق في باب الحيض من الشرائع 12، وأفتى به بعض الفقهاء المعاصرين أيضاً .
وعليه فالرأي الفقهي بتمايز القرشيّة عن غيرها في سن اليأس ليس من المسلمات الفقهية، بل هو رأي خاضع للبحث والنظر.
ثانياً: إنّه لا بدّ من تصحيح خطأ شائع عند عامة الناس فيما يرتبط بالحكم الشرعي بتأخر سن اليأس عند بعض النساء إلى الستين عاماً، فالحكم المذكور- عند القائلين به- ليس مختصاً بالمرأة العلويّة أو المنتسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ولا تختص به المرأة الهاشمية، وإنّما هو حكم جار في المرأة القرشيّة "وهي المنتسبة بالأب إلى النضر بن كنانة وهي أعمّ من الهاشمية" 14، بل إنّ مشهور الفقهاء ألحقوا بالقرشية المرأة "النَّبْطِيَّة" وهي "منسوبة إلى النَّبط وهم – على ما ذكره الجوهري- قوم ينزلون البطائح بين العراقين" (البصرة والكوفة) 15، يقول الفقيه العاملي زين الدين الجبعي المعروف بالشهيد الثاني في شرحه لكتاب اللمعة الدمشقية: "والحكم فيها – أي النَّبطيّة بإلحاقها بالقرشية- مشهور، ومستنده غير معلوم، واعترف المصنف – يقصد الشهيد الأول- بعدم وقوفه فيها على نص والأصل يقتضي كونها كغيرها" .
ثالثاً: إنّ الحكم المذكور بالنسبة للمرأة القرشية أو النَّبْطيَّة هو الآخر – فيما يبدو- ليس لخصوصيةٍ تكوينيّة خصّها الله بها في أصل الخلقة وميّزها بذلك عمّن سواها من النساء، وإنّما هو حكم ربما يكون منطلقاً من خصوصية طبيعية تتصل ببنيةِ المرأة القرشية أو النَّبْطيّة ونمطِ حياتها وبيئتها الجغرافية التي تؤثّر على بنيتها الجسدية، ما قد يؤثّر في تأخير سنِّ اليأس عندها إلى الستين، لا أنّ الله قد ميّز القرشية بهذا الفضل على مَن سواها، إذ ما الميزة لها لتنال هذا الشرف وتحظى بهذه الكرامة دون سائر النساء؟ وإنّ القول بإلحاق المرأة النَّبْطيَّة بالمرأة القرشية في ذلك– مع أنّه لا دليل على هذا الإلحاق- كما اعترف به الشهيد الثاني- هو مؤشّر على أنّ المسألة لا تتّصل بتفضيلٍ إلهيّ للقرشية، بقدر ما تتّصل بواقع خارجي له ظروفه الطبيعيّة المفهومة المتّصلة بالبيئة والجغرافيا ونوعية الغذاء، ولو أنّ هذه الظروف توفَّرت لغيرها فلربما تأخّر سنّ اليأس عندها أيضاً ولكان حكمها كحكم القرشيّة، لأنّ الأحكام– كما هو معلوم- تابعة لموضوعاتها، ولو أنّ ظروف القرشيّة تغيّرت فربما تراجع سِنُّ اليأس عندها إلى الخمسين، ولهذا نجد في أيامنا هذه أنّ المرأة القرشية لا تتمايز عن غيرها من النساء في سنِّ اليأس، بل إنّ "أمزجة القرشيات"، كأمزجة غيرهنّ من النساء، كما ذكر بعض الفقهاء .
رابعاً: في ضوء ما تقدّم - وتحديداً في ضوء ما ذكرناه أخيراً من عدم تميّز القرشيّة كما هو ملاحظ خارجاً عن سواها من النساء، لجهة بدء سن اليأس - يكون من القريب جداً حمل الحكم بتأخّر سن اليأس عندها– القرشية- إلى الستين على التاريخية، بمعنى أنّ الأخبار الواردة في ذلك– لو صحّت- فهي تنطلق من واقعٍ تاريخيّ ظرفيّ وهو تأخّر سنّ اليأس إلى الستين عند القرشية في تلك الأزمنة، ويكون الحكم محدوداً بتلك الحقبة الزمنيّة، لأنّه حكم صادر على نهج القضيّة الخارجيّة لا الحقيقيّة على حد تعبير الأصوليين والمناطقة، وليس شاملاً لكلِّ الأزمنة والأمكنة.
والوجه في ذلك أنّه وفي ظلِّ ما نراه خارجاً من تساوي الهاشمية مع غيرها من النساء في سنِّ اليأس، فلا مفرَّ من اختيار أحد سبيلين: إمّا حمل الحكم بـتأخر سن اليأس عندها على التاريخية والظرفية، وإمّا حمل الحكم بذلك على التعبّد الشرعي، بمعنى اختصاص القرشيات شرعاً بأحكام الحيض إلى سنّ الستين ولو لم يكن ما تراه من دم متّصفاً بصفات الحيض, وبالتالي لم يعد هناك تمايز فعليّ بينهنّ وبين سواهن من النساء، والتعبّد بذلك مستبعد جداً، ولا سيّما أنّ هذا الحكم برمته قد ورد في خبر واحد وهو مرسلة ابن أبي عمير- الملحقة بالصحيحة عند الفقهاء- عن أبي عبد الله(ع)، قال: "إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم ترَ حمرة إلاّ أن يكون امرأة من قريش" ، فإنّ التعبّد بمخالفة القوانين الطبيعية، استناداً إلى خبر واحد في غاية الإشكال، مع أنّ الرواية المذكورة لم تَحْكُم بكون القرشيّة تتحيّض إلى سنّ الستين، وإنّما حكمت بأنّها "ترى الحمرة" إلى الستين، كما نبّه عليه بعض الفقهاء .
خامساً: ولو أننا التزمنا بأنّ الاختلاف بين القرشية وغيرها هو اختلاف تعبدي، بمعنى أنّ القرشية إنّما يُحكم بتأخر سن اليأس عندها إلى الستين من ناحية الآثار الشرعية، أي أنّ الدم الذي تراه في فترة ما بين الخمسين والستين هو دم تترتب عليه شرعاً آثار دم الحيض حتى لو لم يحمل صفات دم الحيض الحقيقيّة، أقول: حتى لو التزمنا بذلك كما ذهب إليه مشهور الفقهاء، فإنّ ذلك لا يعني أنّ المرأة الهاشمية أو القرشية قد فُضِّلت أو مُيِّزت على غيرها من النساء بذلك، فليس في الأمر أي تفضيل شرعي، وأي تفضيل لها في ذلك والحال أنّ أحكام الحيض هي أحكام تحريمية تقيِّدُ إرادة المرأة وتحدُّ من حريتها، إذ يلزمها في فترة العادة الشهرية أن تجتنب مسّ القرآن الكريم ودخول المساجد، كما أنّها تُمنع من العلاقة الخاصة مع زوجها، ويَحْرُم عليها أيضاً أن تصوم في شهر رمضان، وهذا ليس تخفيفاً عليها، لأنّها تُكَلَّفُ بعد ذلك بقضاء عبادة الصوم، أجل هناك حكم واحد قد يُنظر إليه باعتباره حكماً تخفيفياً بالنسبة لها وهو أنّها تُعفى من الصلاة ولا تُكلّف بقضائها، وهو حكم وإن كان مشتركاً بين النساء كافة ولا يختص بالقرشية, بيد أنّ الذي يميّز القرشية هنا هو أنّ إعفاءها من قضاء الصلاة سيطول ويزيد على غيرها من النساء لمدة عشر سنين، ولكن إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية أنّ ترك الصلاة عزيمةٌ وليس رخصةً، أي أنّه يحرم عليها الصلاة، فهذا قد يُشكِّل حداً من حريتها، ويُمثِّل حرماناً لها من بركات الصلاة المعنوية.
2- التمايز التشريعي
وهو تمايز– لو صحّ- يؤسس لطبقيّة "شرعية" تجعل ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مُحصَّنين ببعض التشريعات التي تجعلهم في موقع "النبلاء" و"الأشراف"، ويمكننا أن نستشهد على هذا النوع من التمايز الموهوم ببعض النماذج من الأحكام الفقهية، وأهمها:
1- الاستئثار بالخمس، حيث إنّ الفتوى المشهورة عند فقهاء الإمامية تقضي بأن يكون نصف الخمس هو من نصيب الهاشميين وخصوصاً السادة الأشراف من نسل السيدة الزهراء (ع)، وهو ما اصطلح على تسميته بـ "سهم السادة"، كما اصطلح على تسمية النصف الآخر بـ "سهم الإمام (ع)".
وهذه الفتوى وبصرف النظر عن توجيهها الفقهي قد أسهمت بطريقة أو بأخرى في إنتاج حالة من الطبقيّة المقيتة، وجعلت "السيد" يشعر في اللاوعي بتفوّقه وأفضليّته على سائر الناس، أفضليةً استوجبت أن يخصّه الله بهذه الكرامة، ويميّزه بهذا المصدر المالي الذي لا يشاركه فيه أحد، ومن الطبيعي أنّ هذا الشعور قد يُعبِّر عن نفسه لدى البعض بشيء من التعالي والتكبّر على الآخرين، كما أنّ الفتوى المذكورة ساهمت في خلق روح اتّكالية وحالة من الاسترخاء والكسل لدى بعض "السادة"، على اعتبار أنّ مصدر رزقه مؤمَّن ومكفول له من قبل الله، عَمِلَ أو لم يعمل، ومَنْ يمنعه من الخمس فإنّما يمنعه من حقّه المكتسب له بالولادة والنَّسب، وقد ينجرّ الأمر إلى تجرؤ بعض "السادة" على تناول هذا الفقيه أو ذاك العالم بالتجريح والطعن إذا لم يعطه من "سهم السادة"، لسبب من الأسباب، ومبرِّره في الجرأة هو أنّ هذا العالِم قد حَرَمه من حقه الشرعي المكتسب له، وفي ضوء ذلك، فإنّ هذه الفتوى سوف تُسهم– كما يرى البعض- في استعادة قيم الجاهلية ومنطقها، ولا سيما أنّ الخمس كما هو الرأي المشهور إنّما يستحقه فقط من انتسب إلى هاشم بالأب دون الأم، إستناداً إلى أنّ المستفاد من بعض الروايات أنّ الخمس هو لبني هاشم، ومن الواضح أنّ الذي ينتسب إلى هاشم بالأم دون الأب فهو ليس من العشيرة ولا يقال له هاشمي! وهو ما أثار استغراب البعض واعتبره استعادة لمنطق الجاهلية، طبقاً لما قاله الشاعر الجاهلي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وزاد في الطين بلَّة أن اعتُبر الخمس المقرّر للسادة "مالاً طاهراً"، وأمّا الزكاة التي حُرموا منها، أو حُرِّمت عليهم وأبيحت لسواهم من الناس، فإنّها "أوساخ ما في أيدي الناس"، ليتم بهذه اللغة العنصرية ليس تكريس مبدأ التفاضل على أساس العشيرة وحسب، بل وتوجيه إهانة إلى سائر الناس وتحقيرهم، لا لشيء إلا لأنّ "الحظ" لم يحالفهم في أن يتصل نسبهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!
هذا غاية ما يُمكن أن يطرح في بيان هذه الإشكالية إزاء الفتوى المعروفة بتخصيص نصف الخمس لبني هاشم.
ولكن يمكننا في هذا المجال أن نسجِّل الملاحظات التالية:
الخمس وسدّ احتياجات الأمة
الملاحظة الأولى: إنّ الفتوى المذكورة ليست من المسلَّمات الفقهيّة، بل إنّها رأي اجتهادي يتبناه الكثير من الفقهاء، لكنْ في المقابل ثمة رأي فقهي آخر هو الأقرب إلى الصواب وإلى عدالة التشريع الإسلامي يرى أنّ الخمس لا ينقسم إلى السهمين المذكورين اللذين يُخصَّص أحدهما "بالإمام"، والآخر "بالسادة"، بل إنّه – أي الخمس- حق واحد يُعبِّر عن ميزانية متكاملة أقرّها المشرِّع الإسلامي بهدف سدِّ احتياجات الأمة الإسلامية بأكملها، وقد تبنّى هذا الرأي جمع من الأعلام المتأخّرين ، حيث إنّهم رأوا أنّ بني هاشم هم مصرف من مصارف الخمس ولا يملكون نصفه بحيث يُحبس عليهم بانتظار وجود مستحقّين منهم، وقد استند هؤلاء الفقهاء - في رأيهم هذا- إلى بعض الأدلة المحكمة من الكتاب والسُّنّة، هذا ناهيك عن عدم نهوض دليل يُعتد به على التقسيم المذكور، وبينما اختار بعض هؤلاء الفقهاء الافتاء بهذا الرأي وجرى من الناحية العملية عليه, فإنّ بعضهم ظلّ متحفظاً عن الإفتاء أو المجاهرة به لبعض الاعتبارات المعروفة التي تثير التوجس لدى الفقيه وتمنعه من الافتاء بما يتوصل إليه من قناعات فقهية.
وهذا الرأي هو الأقرب إلى عدالة الإسلام، كما قلنا، إذ كيف تُملَّك مجموعة من الناس، أو عشيرة من العشائر نصف الخمس، والحال أنّ الخمس ميزانية ضخمة وضريبة تطال كلّ المكاسب والأرباح التجارية والزراعية والصناعية, فضلاً عن غنائم الحرب! وبديهي أنّ هذا المورد المالي الكبير إنّما يهدف إلى تأمين احتياجات الأمة المالية بأجمعها، وتيسير شؤون الدولة الإسلامية، ولو أننا احتسبنا أخماس أرباح المكاسب فقط في العالم الإسلامي، أو العالم كله لو كان يدين بالإسلام، لتبيّن لنا أنّنا أمام ثروة طائلة لا يُعقل أن الهدف من وضعها هو رفع حاجات "سيد" هنا، أو طالب علم هناك، بل الهدف أكبر وأوسع من هذا، وهو سدّ حاجات أمة بأكملها..يقول الإمام الخميني رحمه الله: "السادة متى كانوا بحاجة إلى مثل هذا المال؟! خمس سوق بغداد يكفي لاحتياجات جميع السادة ولجميع نفقات المجامع العلمية الدينية، ولجميع فقراء المسلمين، فضلاً عن أسواق طهران وإسلامبول والقاهرة وغيرها... هل نُلقي بهذه الثروة الواسعة في البحر؟! أو ندسّها في التراب حتى ظهور الحجة؟! أو نوزعها على 50 هاشمياً أو خمسمائة ألف هاشمي؟! وإذا دُفع إليهم هذا المال أليس يُذهلهم ويحيّرهم؟! ألا تعلم أنّ حقَّ الهاشميين في هذا المال إنما هو بمقدار ما يحتاجون إلى إنفاق بقصدٍ واعتدال، كلّ ما في الأمر أنّ الهاشميين يتناولون حاجتهم من الخمس دون سواه، وقد ورد في الحديث "أنّ هؤلاء يعيدون إلى الإمام ما فضل عن مؤونة سنتهم، كما أنّ الإمام يعينهم حتى لا يكون ما تناولوه من بيت المال وافياً بمؤنة سنتهم".
لِمَ حُرِمَ "السادة" من الزكاة؟
الملاحظة الثانية: إنّ حرمان الهاشميين من الزكاة- كما هي الفتوى المعروفة- لا يعني بالضرورة أنّ في ذلك تمييزاً لهم عن سائر الناس أو تنزيهاً لهم عن "أوساخ الناس"، بل إنّ لذلك تفسيراً نُرجِّحه ينطلق من بعض الاعتبارات التاريخيّة، وحاصل هذا التفسير: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا طلب منه بعض الهاشميين، ومنهم "المطلب بن ربيعة بن الحرث والفضل بن عباس" أن يُؤمِّرهما على الزكاة أراد (صلى الله عليه وآله وسلم) إبعادهم عن هذا المنصب، دفعاً للتهمة عنه، أو الشبهة التي قد تراود ذهن بعض الصحابة، أو يثيرها بعض المنافقين في أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد آثر أهل بيته وعشيرته وقدَّمهم على مَنْ سواهم، ولذلك فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) اتخذ في هذا المجال قراراً حكيماً يقضي بمنعهم من تولي أمر الزكاة، ومِنْ أخذِ المال الزكوي وتناوله، ولكنّه ضمن لهم سدّ احتياجاتهم وكفلها لهم. على اعتبار أنّهم أهل بيته وعياله.
ولكن لماذا استخدم (صلى الله عليه وآله وسلم) في التعبير عن الزكاة وصفاً مهيناً، وهو "أوساخ الناس"؟
أقول: لو صح استخدامه لهذا التعبير فغير بعيد أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) استهدف من ذلك تنفير الهاشميين حتى لا يطمعوا ببعض المناصب أو المواقع الإدارية المتصلة بالزكاة، كما يرى الفقيه الشيخ المنتظري . إلاّ أنّ هذا الإجراء الذي اتخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو التدبير الذي اعتمده (صلى الله عليه وآله وسلم) قد استمر إلى ما بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظلّ كذلك إلى يومنا هذا، ثم استثني من ذلك تناول الهاشمي للزكاة من الهاشمي، مع أنّ هذا الاستثناء يبعث على التأمل في القضية وفيما ذُكر في تفسيرها، ولذا فإنّه يبقى استثناءً بحاجة إلى متابعة فقهية وفكرية.
ثم لو أننا لم نقبل التفسير المتقدم بشأن ورود التعبير المذكور على لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا مجال لنا إلاّ أن نتوقف إزاءه – أي إزاء صدور هذا التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)-، لأنّ استخدام النبي الأكرم وصاحب الخلق العظيم لمثل هذا التعبير "أوساخ أيدي الناس"، أو "أوساخ الناس" مستبعد جداً، ولا يليق صدوره من قائد عادي، فضلاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! والوجه في ذلك:
أولاً: إنّ توصيف المال الذي يدفعه المكلف امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى بالأوساخ هو في حدّ ذاته أمر مستغرب، لأنّه حق شرعي ولا مبرر لتوصيفه بهذا الوصف، وأمّا قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إنّ صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة: 102]، فهو لا يدلّ بأيِّ نحو من أنحاء الدلالة على أنّ المال الزكوي هو قذارة أو وسخ وبدفعِ زكاته فإنّه يَطهر، وإنّما المقصود أنّه بامتثال هذا التكليف ودفع المال فإنّ ذلك سيكون سبباً لنمو المال وبركته، كما إنّه سبب لطهارة المزكي روحياً بامتثاله لأمر الله تعالى ومساهمته في رفع المستوى المعيشي في المجتمع.
ثانياً: إنّه تعبير يتضمّن إهانة واضحة لعامّة الناس الذين لا يتصلون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نسباً، حيث إنّ ما يُدفع لهم هو الأوساخ! وحاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُهين شخصاً واحداً أو يحتقره، فضلاً عن أن يصدر منه ما يتضمن إهانة عامة الناس، فهذا يتنافى مع أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصمته، كما ويتنافى مع نصوص القرآن الكريم والمبادئ الإسلامية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرسى دعائمها.
ثم إنّ لنا أن نسأل: لماذا كانت الزكاة أوساخاً؟ ألأنّها تؤخذ من أموال الناس التي تتداولها الأيدي وتنتقل من شخص لآخر؟ أم لأنّ أصحابها قد يختارون دفعها من المال الرديء؟ إذا كان السبب هو هذا أو ذاك, فمن الواضح أنّ هذا المعنى موجود في الخمس أيضاً، فإنّ الخمس ولا سيّما خمس أرباح المكاسب المأخوذ من فاضل المؤونة، إنّما يؤخذ من أيدي الناس وما يتداولونه، كما أنّه ربّما يُدفع من المال الرديء، حيث قد يختار البعض دفع الخمس من رديء أموالهم، بل إنّ الخمس في بعض موارده، كخمس المال الحلال المختلط بالحرام يكون أكثر اتصافاً والتصاقاً بالشبهة من الزكاة، ما يفرض وفقاً للمنطق المذكور تنزيه ذرية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، تطهيراً لهم عن الشبهات؟!
وإذا قيل: إنّ دفع الخمس لله تعالى يوجب طهارته وارتفاع الشبهة عنه.
قلنا: إنّ هذا بعينه يجري في الزكاة، فإنّ دَفْعَها لله وتقرّباً إليه موجب لطهارتها.
وربما يقال: إنّ الفرق بين الخمس والزكاة هو أنّ الزكاة تُؤخذ من الناس وتُعطى مباشرة للفقراء والمساكين، ولذا سُميَّت أوساخاً، وأمّا الخمس فجُعل أولاً وبالذات بأجمعه لله تعالى ، ثم ينتقل منه تعالى إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذوي القربى وذوي الحاجة من بني هاشم، لانتقال الولاية منه تعالى إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثَمَّ ذوي القربى، ما يعني أنّ "فقراء الناس عيال للناس، وفقراء بني هاشم عائلة الله، ومن شؤون الإمامة والحكومة الإسلامية" .
ويلاحظ عليه: بأنه إذا كان المطهِّر للخمس هو إضافته لله تعالى- وهي إضافة تشريفية، كما هو معلوم، لأنّ الله تعالى ليس له نصيب حقيقي في الخمس وما كان له فهو لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)– فالزكاة كذلك، فإنها أيضاً تُضاف إليه سبحانه بنحو من أنحاء الإضافة، ولذا يُعبّر عنها بـ "حقّ الله"، بل إنّ المال بأجمعه هو مال الله سواء ما كان منه داخلاً في الحقوق الشرعية أو كان مالاً شخصياً يملكه أصحابه، قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي أتاكم} [النور: 33]، وقد ورد في بعض الروايات أنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يدي السائل، فليكنْ وقوعها في يد الله تعالى موجباً لطهارتها ونزاهتها، كما هو الحال في الخمس، فلماذا يُكره دفعها إلى الهاشميين، وتُعلَّل الكراهة بنفس التعليل المتقدم، وهو تنزيه بني هاشم عن أوساخ الناس؟!
دفاع غير مقنع
الملاحظة الثالثة: وقد ردّ بعضهم على شبهة أنّ تمييز بني هاشم وتخصيصهم بالخمس دون سواهم هو خلاف مبادئ الإسلام وروح المساواة التي أشاعها بين مختلف الشرائح والشعوب والقوميات: بأنّ "إكرام الرجل في عشيرته وعائلته أمر عرفي يقبله روح الاجتماع، واحترام ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقربائه يُعدُّ احتراماً له، فأي مانع من أن يجب إدارتهم من الميزانية الموضوعة لإدارة الحكومة الإسلامية من جهة أنّهم من أغصان شجرة النبوة والحكومة الإلهية، وهذا ميز (مائز) دنيوي، وإلاّ فإنّ أكرم الناس عند الله أتقاهم" .
ولكنّ هذا الدفاع غير مقنع، لعدة اعتبارات:
أولاً: إنّ الإكرام المشار إليه إنّما يكون مألوفاً لو صدر من الناس بمبادرات فردية احتراماً منهم وتقديراً لنبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم), أمّا أن يُقِرَّ ذلك النبي نفسه، فيفرض على أتباعه إكرام ذريته وتخصيصهم بمبالغ مالية ضخمة، فهذا ما لا يفهمه العقلاء، بل ربّما رأوا فيه ما يوجب القدح والذم، ولا سيّما إذا كان هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نادى بإسقاط كلّ أشكال التمايز والتفاضل على أساس عشائري أو عرقي، كما أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وطبقاً لما علّمه الله تعالى، لم يطلب على الرسالة أجراً سوى المودة في القربى، وليس دفع الأموال إليهم، {قل لاأسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى} (الشورى: 23).
ثانياً: إنّ الخمس- حسب الفرض- لا يختص بذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إنّه يُعطى لكل هاشمي بما في ذلك نسل العباس وذريته، وكذا ذرية أبي طالب والحارث وأبو لهب مع أعقابهم إلى يوم القيامة، والذي تألفه الحياة الاجتماعية والعقلائية هو إكرام الرجل في الأقربين من أهل بيته وذريته وأقربائه، أمّا مع تعاقب الأبناء والأحفاد وتواليهم إلى عشرات الجدود بحيث لا تعود ثمة قرابة ظاهرة فيما بينهم فهذا ليس مما يراعيه العقلاء في تعاملهم مع الأشخاص.
ثالثاً: ثم إذا كان الغرض هو إكرام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بنيه، فهذا يقتضي تعميم الإكرام لأبناء البنت، كما أبناء الإبن، فهؤلاء كلهم أبناؤه وعائلته وأهله، أفهل يكون دفع الخمس لابن "الهاشمي" تكريماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يكون دفع الخمس لابن "الهاشمية" ممن تزوجت من غير هاشمي تكريماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! هذا مع العلم أنّ ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأجمعها إنما هي من ابنته الزهراء (ع) وليس من أبنائه الذكور، لأنً هؤلاء قد تُوفّوا صغاراً، فلماذا يتم تخصيص الخمس بخصوص أبناء الأبن من ذريته وأقاربه كما هو الرأي المشهور في المسألة؟!
رابعاً: إنّ إكرام ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقاربه يكون بسدِّ احتياجاتهم، وتأمين مستلزماتهم الضرورية ولا يكون بتخصيص نصف الخمس لهم، أي ما يعادل ميزانية دولة بأكملها، ماذا يفعلون بكل هذه الأموال؟!
2- حرمة الجمع بين الفاطميتين: وربما يُذكر نموذجٌ آخر لهذا التفاضل التشريعي، وهو الحكم الذي أفتى به بعض الفقهاء في أنّه لا يحل للرجل المسلم أن يجمع بين زوجتين من ولد فاطمة الزهراء (ع) في آن واحد، استناداً إلى ما جاء في بعض الروايات، من قبيل ما رواه الشيخ الطوسي بسنده إلى بعض أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سمعته يقول: "لا يحل لأحدٍ أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة (عليها السلام)، إنّ ذلك يبلغها فيشقّ عليها، قلت: يبلغها؟ قال: إي والله" .
وقد أفتى بعض أعلام المدرسة الأخبارية كالشيخ يوسف البحراني بمضمون هذه الروايات، فحرّم الجمع بين الفاطميتين، بل حكم ببطلان العقد على الثانية، وقال بعضهم بالحرمة دون البطلان، بينما ذهب مشهور الفقهاء إلى جواز الجمع وإن على كراهية .
والقول بحرمة الجمع وإن لم يُعدّ قولاً شائعاً ولا معروفاً عند أحد من فقهائنا المتأخرين والمعاصرين، بيد أنّه لا يزال يُرخي بظلاله في بعض الأوساط الإسلامية الشيعية، ففي البحرين- مثلاً- لا يزال معظم المؤمنين– كما نقل لنا بعض الإخوة- يعتقدون بعدم جواز الجمع بين العلويتين، وأنّ على الرجل أن يستأذن زوجته العلوية إذا أراد أن يُدخل عليها امرأة أخرى غير علوية، وربما كان هذا الاعتقاد شائعاً في غير البحرين أيضاً.
ولنا إزاء هذا الرأي وقفتان: إحداهما تتّصل بسند الرواية، والأخرى تتّصل بدلالتها:
الوقفة الأولى: إنّ الرواية وإن وصفها البعض بالصحة، إلاّ أنّ السيد الخوئي (رحمه الله) رماها بالضعف في كلا طريقيها وأضاف رحمه الله: "وعليه فلا تصلح الرواية دليلاً للكراهة فضلاً عن البطلان والحرمة، نعم بناءً على التسامح في أدلّة السُّنن لا بأس بجعلها دليلاً للكراهة، وممّا يؤيّد ما ذكرناه أنّه لم يتعرّض لهذه المسألة أحد من أصحابنا قبل صاحب الحدائق" .
الوقفة الثانية: لو صحَّت الرواية سنداً فهي لا تدلّ على حرمة الجمع المذكور وذلك:
أولاً: إنّ كون الزواج بالثانية أو الجمع بين الفاطميَّتيْن شاقاً على السيدة الزهراء (عليها السلام) لا يدل على الحرمة، لأنّ المشقّة أعمّ من الإيذاء الذي هو المحرَّم، يقول الفقيه الكبير السيد كاظم اليزدي: "مع أنّ تعليله – أي الإمام (عليه السلام)- ظاهر في الكراهة، إذ لا نسلّم أنّ مطلق كونه شاقاً عليها إيذاءٌ لها حتى يدخل في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَن آذاها فقد آذاني" .
ثانياً: "مع أنّ الجمع المذكور (بين الفاطميتين) لو كان حراماً فأيُّ معنى للتعليل بكونه شاقاً على خصوص فاطمة (عليها السلام)؟ ولِمَ لا يكون شاقاً على الله تعالى وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا على أحد من الأئمة (عليهم السلام)؟!" .
ثالثا: "مع أنّ ابنة فاطمة غير منحصرة في بنات ذكور أولادها، بل بنات بناتها إلى يوم القيامة داخلة.. فلا يكاد يوجد في بلاد المسلمين ونسلهم بنت لم يكن لها نسب إلى فاطمة نسباً أو رضاعاً، إذ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.." . ما يعني أنه لو كان الجمع بين الفاطميتين محرّماً لم يبق لموارد جواز الجمع إلاّ أفراد قليلة.
رابعاً: ويرى بعض الفقهاء أنّ في الرواية قرينةٌ على الكراهة وعدم الحرمة، والقرينة هي تعليله (عليه السلام) "أنّه يشقُّ على فاطمة (عليها السلام) بعد الموت، وذلك بحسب الطينة البشرية في النساء" .
ونلاحظ على ذلك: إنّه لو صح هذا التوجيه فإنّه ينفي الكراهية أيضاً وليس الحرمة فقط، لأنّ المشقّة الناتجة عن الجِبِلّة البشرية لدى المرأة (وهي السيدة الزهراء(عليها السلام) في المقام) لا يصح جعلها مصدراً لاستنباط الحكم الشرعي، وذلك كما هو الحال في سائر الموارد التي يَكْرَهُ فيها المعصوم بعض الأشياء أو يتجنّبها لا من موقعه التشريعي بل من موقع بشريّته، فيكون المورد خارجاً عن نطاق الأحكام التكليفية الخمسة لا خصوص الحرمة أو الإلزام .
هذا ولكن أصل التوجيه محلّ إشكال، لأنّ الكلام- بحسب الفرض- ليس عن كراهية الزهراء (عليها السلام) وهي في دار الدنيا للجمع بين البنتين من نسلها، ليأتي الحديث عن الكراهية البشرية، وإنّما الكلام عن كراهيتها ذلك بعد الموت، ومن المعلوم أنّها (عليها السلام) بعد الموت في نشأة مختلفة وفي مقام صدق عند مليك مقتدر يتحرّر فيها الإنسان– على الأرجح- من أسر العواطف والانفعالات البشرية.
خامساً: وقد يُستشكل في حرمة الجمع المشار إليها بوجه آخر، وهو أنّ الخبر الوارد في ذلك وإن كان صحيحاً، إلا أنّه مخالف لقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } [النساء: 3]، ونحن حتى لو تماشينا مع المبنى المشهور القائل بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، إلاّ أنّ التخصيص في المقام يصعب إثباته، لأنّ الحكم العام وهو جواز الجمع ثابت من خلال الكتاب الكريم، وقد استقرّت عليه سيرة المسلمين وجرى عليه عملهم منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، فلو كان هذا الحكم، وهو جواز الجمع، خاصاً بمن عدا بنات الزهراء (ع) لكان اللازم أن يتم التأكيد عليه مراراً في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (ع)، لأنّ المسألة محل ابتلاء عام، فكيف يُترك البيان في محل الحاجة إليه، إنّ هذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم صحة هذا الاستثناء.
3- ترجيح الهاشمي على غيره في إمامة الصلاة، هذا هو النموذج الثالث لـ"الأحكام التشريعية" التي تمنح الهاشميين امتيازاً خاصاً، وقد أفتى بذلك بعض الفقهاء، يقول المحقّق النراقي: "وذكروا أيضاً أنّ الهاشمي الجامع لشرائط جماعة الصلاة أولى من غيره، وهو كذلك، لفتوى العظماء، ولأنّ فيه إكرام ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما روي من قوله: "قدِّموا قريشاً ولا تتقدموهم" .
وقد أدرك الشيخ النراقي أنّ هذه الوجوه لا تصلح للإفتاء وتبرير هذا الحكم، لضعفها وعدم تماميتها، لذا أردف قائلاً: "وتحمّلُ ذلك المقام للمسامحة يجبر ما في هذه الوجوه من الضعف" ، مشيراً بذلك إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن.
لكنّ هذه القاعدة غير تامة، كما ثبت ذلك عند فقهائنا المتأخرين. وأمّا حديث: "قدّموا قريشاً ولا تتقدّموهم"، فقد اعترض عليه الشهيد الأول بأنه حديث "لم نره مذكوراً في الأخبار إلاّ ما روي مرسلاً أو مسنداً بطريق غير معلوم من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)" .
والظاهر أنّ محطَّ نظر الشهيد إلى مصادر الشيعة الحديثية، فإنّها خالية من حديث كهذا بشأن قريش، أجل ورد النهي عن التقدم على الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن أمير المؤمنين(عليه السلام): "فسلوه وتعلّموا منه ومن أوصيائه بعده ولا تُعَلِّموهم ولا تتقدّموهم ولا تَخَلَّفوا عنهم، فإنّهم مع الحق والحق معهم" .
وأما لدى السُنّة فقد ورد الحديث المذكور "قدّموا قريشاً" في بعض مصادرهم الحديثية . ولكنّ المظنون قوياً أنّ هذا الحديث وأمثاله هو من الأحاديث الموضوعة في سياق النزاع الحاصل في أمر الخلافة بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أُريد تبرير إبعاد الأنصار عن الخلافة وتقديم المهاجرين، بالاستناد إلى مثل هذه الأخبار والروايات، والله العالم.
3- التمايز الاجتماعي
ويستمرّ مسلسل التمايز، ليصل إلى الجانب الاجتماعي، مكرِّساً بذلك حالة طبقيّةٍ بين الأشراف وبين سائر الناس, تجعل الأشراف في مستوى أعلى وأرفع من غيرهم، ويتأسّس هذا التمايز الاجتماعي- بالإضافة إلى ما تقدّم من تمايز تكويني وتشريعي مزعوم- على بعض التعاليم، وأهمها:
أولاً: إنّ ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتميّزون على غيرهم من الناس في معيار الاحترام والتقدير، فإذا كان مطلق الإنسان يُقَدَّر ويُحترم لفضيلته الدينية أو الخُلقيّة أو العلميّة أو لغيرها من الاعتبارات العقلائية، فإنّ الهاشمي يُراعى في تفضيله معيار خاص تتعطّل أو تتجمّد أمامه المعايير المتقدّمة، وهو معيار النَّسب، فهو يُقَدَّرُ ويُحترمُ لنسبه, مُحْسِناً كان أو مُسيئاً، وهذا ما نصّت عليه بعض المرويّات, حيث إنّها أكدت على أنّ المحسنَ من ذرية النبي (ص) يُكرمُ لإحسانه، والمسيء يكرم احتراماً وإكراماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ففي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "أحبّوا أولادي.. الصالحون لله تعالى والطالحون لي" .
وفي حديث آخر عنه (ص): "من أكرم أولادي فقد أكرمني" .
وفي حديث عنه (ص): "إذا قُمت المقام المحمود شفعت في أصحاب الكبائر من أمتي، فيشفعني الله فيهم، والله لا تشفعت فيمن آذى ذريتي" .
وقد نظّر لهذا الرأي بعض العلماء منهم العلامة محمد إسماعيل المازندراني الخاجوئي (ت: 1173هـ) ، ومنهم السيد عبد الرزاق المقرّم رحمه الله، حيث أكّد على "امتياز الذريّة على سائر المسلمين، لحصولهم على هذا العنوان، أعني كونهم ذريّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقاً سواء كانوا سائرين على منهاج مشرِّفهم الأعظم أو متأخّرين عنه" .
ثانياً: والنموذج الأكثر دلالة على تمايزهم الاجتماعي هو الحديث عن نفي الكفؤ لهم في الزواج، وانطلاقاً من ذلك فلا تُزوَّج الهاشمية لغير الهاشمي، حتى لو كان قرشياً، فضلاً عن غيره من الناس، لأنّ من ليس هاشمياً لا يكون كفؤاً للهاشمية, فلا يكون مؤهلاً للاقتران بها، وهذا التمايز- كما غيره- يتمّ التنظير الشرعي له وإسناده ببعض النصوص الروائية، وقد أفتت به بعض المذاهب الإسلامية، بل نُسب ذلك إلى جمهور الفقهاء، يقول الشيخ سيد سابق في فقه السُنّة حول الكفاءة بالنسب: "فالعرب أَكْفاء لبعض، وقريش بعضهم أَكْفاء لبعض.. فالأعجمي لا يكون كفؤاً للعربية، والعربي لا يكون كفؤاً للقرشية" إلى أن يقول: "ولم يختلف الشافعية ولا الحنفية في اعتبار الكفاءة بالنسب على مبدأ النحو المذكور، ولكنّهم اختلفوا في التفاضل بين القرشيين، فالأحناف يرون أنّ القرشي كفء للهاشمية، أمّا الشافعية فإنّ الصحيح من مذهبهم أنّ القرشي ليس كفؤاً للهاشمية والمطلبيّة.." .
وقد نقل الشيخ عباس القمي رحمه الله عن كتاب "تاريخ قم": "أنّ الرضائية (ذرية الإمام الرضا (عليه السلام)) لم يُزوِّجوا بناتهم، لعدم الكفؤ لهم، وكان للإمام موسى الكاظم(عليه السلام) إحدى وعشرون بنتاً لم تتزوّج إحداهن، وكان هذا سائراً في بناتهم، وقد أوقف محمد بن علي الرضا (عليه السلام) قرى في المدينة على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوّجن، وكان يرسل نصيب الرضائية من منافع هذه القرى من المدينة إلى قم" .
وفي تقييم هذه التعاليم، فإنّنا نسجّل الملاحظات التالية:
في السند والدلالة
الملاحظة الأولى: إنّ الروايات المشار إليها هي ضعيفة السند، ولا يمكن التعويل عليها في تقديم تصور إسلامي يعطي استثناءً خاصاً لذرية النبي (ص) ويميزهم على من سواهم من الناس، ولو أنّ الروايات المذكورة كانت صحيحة للزم التوقف في شأنها للسبب عينه، أعني منافاة هذا الاستثناء الوارد فيها للمبادئ الإسلامية العامة المستفادة من الكتاب الكريم وصحيح السنة والتي ترفض كل أشكال التمييز العنصري أو تكريس أي واقع طبقي.
أجل، ثمة تفسير يخرج بعض هذه الروايات عن دائرة الأشكال والمصادفة مع المبادئ الإسلامية المشار إليها، والتفسير هو أنّ المراد بالذرية هم الأئمة المعصومون الذين أوجب لهم محبتهم ومودتهم وجعلها أجر للرسالة، فإنّ محبة هؤلاء وإكرامهم واحترامهم هو حب رسالي يُمّهد لاتباعهم والسير على هديهم ولا يكرس واقعاً طبقياً مبغوضاً، وأمّا إذا أريد الأخذ بإطلاق الروايات في الدعوة إلى تفضيل ذريته (ص) على من سواهم لمحض أنّهم ذرّيته (ص)، وبصرف النظر عن أعمالهم وسلوكهم وعلمهم، فهذه الدعوة لا تخلو من تأمل، ويُشك في صدورها عن النبي (ص) أو عن الأئمة (ع)، لأنّها تختزن شيئاً من العنصرية، كما أنّها قد تساهم في تكريس واقع طبقي، وخلاصة القول: إنّ مثل هذا الاستثناء لا يستند إلى دليل يُعتّد به، والروايات المتقدّمة- فضلاً عن ضعف سندها- فإنّها تتنافى والمعايير التي أرسى القرآن الكريم دعائمها، حيث وضع أسساً جديدة في التفاضل بين الناس، والنسب ليس منها، وإنّما هناك معيار العلم والتقى والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك مما تقدمت الإشارة إليه، وهكذا فإنّ سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته قد أكّدت على رفض اعتماد النَّسب معياراً للتفاضل، ولهذا رأينا في سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه في الوقت الذي يعادي عمّه أبا لهب بسبب كفره وجحوده، فإنّه يُقرِّب إليه سلمان الفارسي ويدنيه منه ويعتبره من أهل بيته "سلمان منّا أهل البيت" ، في إعلان واضح وصريح في أنّ نسب الإسلام يتقدّم على نسب الدم وكلّ الأنساب الأخرى، وهذا المفهوم قد أكّد عليه أئمّة أهل البيت (عليه السلام)، في الأحاديث المتضافرة المرويّة عنهم (عليهم السلام), من ذلك ما يُروى عن الإمام الصادق (عليه السلام): "ولايتي لأمير المؤمنين (عليه السلام) أحبّ إلي من ولادتي منه" .
وفي بعض الأحاديث المرويّة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" .
أفهل نستطيع القول: إنّ الإسلام يأمرنا بضرورة احترام الشخص المنتسب إلى ذريته (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقديره وإكرامه حتى لو انحرف عن الحق ولم يلتزم نهج جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأفسد في الأرض وعاث فيها قتلاً وترويعاً وجاهر بارتكاب المعاصي؟!
ثم ألا يلزمنا أن ننهى مثل هذا الشخص عن المنكر بمختلف المراتب المذكورة للنهي عن المنكر, من العبوس في وجهه أو القسوة عليه في الكلام إلى محاسبته وتعزيره, أو إقامة الحد عليه إذا ما فعل ما يستوجب ذلك، وهل يتوهم أحد بأنّ ذلك خلاف التكريم والتقدير؟!
أجل لو أنّ التكريم انطلق بمبادرة عفويّة من المسلم أو غيره حباً منه لرسول الله (ص) أو للسيدة الزهراء (ع) أو لأمير المؤمنين (ع) وجرياً على قاعدة "لأجل عين ألف عين تكرم" دون أن يتمّ تجاوز الحدود الشرعية، أو يُتعاطى مع النسب باعتباره فضيلة في حد ذاته وبصرف النظر عن الاعتقاد والسلوك، فقد يكون ذلك مفهوماً ومبرّراً، كما نبّهنا على ذلك في مستهل الكلام.
عزل عنصري بدافع الحب
الملاحظة الثانية: إنّ الروايات المشار إليها ساهمت في خلق مناخٍ غير صحي، لا لجهة تكريس نوع من الطبقية المرفوضة فحسب، بل لجهة مساهمتها في محاصرة ذرية النبي (ص) فيما يشبه العزل الاجتماعي، لأنّ المبالغة في تفضيلهم والتحذير من مغبة إيذائهم أو التقصير بحقهم ربما خلقت توجساً لدى البعض وخوفاً من أنّه وفي حال مخالطته لهم فلن يتسنى له القيام بواجب احترامهم أو إيفائهم حقوقهم، ولذا فإنّ الأجدى هو الابتعاد عنهم، خوفا ًمن الإساءة إليهم، وقد تبنى العلامة المازندراني الدعوة الصريحة إلى اجتنابهم وترك مخالطتهم خشية التقصير في أداء حقوقهم، يقول رحمه الله: "والأمر في معاشرتهم ومخالطتهم مشكل وخاصة إذا كانت "السيدة" زوجة غير "السيد"، فإنّ معاشرتها مدة العمر على وجه لا يلزم إيذاؤها كأنّها – أي المعاشرة- من الممتنعات عادة، وإنّي والله لو استقليت من أمري ما استبرت لما تزوجت سيدة قط ولكن وقع ما وقع والله غفور رحيم" .
ويقول رحمه الله: "فالبعد عنهم، كما هو المأمور به، وترك اختلاطهم، كما هو منهي عنه، مع محبتهم قلباً أدنى إلى الصواب عن اختلاطهم مع مقت الجميع، فإنّ مقتهم، صالحين كانوا أم طالحين، ينافي ما أمرنا من محبتهم قلباً ولساناً، الصالحين منهم والطالحين لرسول الله (ص)، فالأولى البعد والمحبّة، ومن هنا تراهم يقولون بالفارسية "دوري ودوستي"" ، أي البعد محبّة.
ويستند العلامة المازندراني في رأيه هذا إلى حديثٍ مروي عن الإمام الصادق (ع)، وهذا نصه: "لا تخالطن أحداً من العلويين، فإنّك إن خالطتهم مَقَتَّ الجميع، ولكن أحبَّهم بقلبك، ولتكن محبتك من بعيد" .
ولكن هذا الحديث لا يمكن التعويل عليه لا لضعفه سنداً فحسب، بل لأنّ المضمون الذي اشتمل عليه سيؤدي إلى فرض نوعٍ من الحصار والعزل الآجتماعي بحق ذرية النبي (ص) وهذا ما سوف يؤذيهم ويؤلمهم ما يؤدي إلى عكس المطلوب، ونقع بالتالي مما أريد الفرار منه.
وفي ضوء ذلك، لا بد أن نفهم الدعوة إلى إكرام أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) مما ورد في بعض الروايات المروية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أكرم أولادي فقد أكرمني" .
مقياس الكفاءة في الزواج
الملاحظة الثالثة: فيما يرتبط بموضوع الكفاءة في الزواج، فإنّ المعيار فيها هو الخُلق والدين، لا النسب ولا الغنى ولا العشيرة ولا غير ذلك من اعتبارات، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا جاءكم مَن ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه" {إلاّ تفعلوه تكن فتنة وفساد كبير} [الأنفال: 73] . إنّ التفاضل بالأنساب أو الأموال أو الأولاد هو سُنّة جاهلية, وقد عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جاهداً على تحطيم قيم الجاهلية وتقاليدها، فتراه زوّج زينب بنت جحش من مولاه زيد بن حارثة .
وهكذا فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ألغى كلّ الامتيازات المصطنعة واعتبر أنّ كفاءة الإسلام هي الأساس في الزواج، وذلك عندما زوّج جويبر ذاك الفقير الذي لا حَسَب له ولا نَسَب غير الإسلام، من الذلفاء وهي امرأة معروفة بحسبها ونسبها وجمالها، فعن أبي جعفر الباقر(ع): "إنّ رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان – إلى أن قال -: وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمةٍ
له ورقّة عليه فقال له: يا جويبر، لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك، فقال له جويبر: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، من يرغبُ فيّ؟ فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جويبر، إنّ الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان وضيعاً، وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشايرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلّهم أبيضهم وأسودهم