حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
التكفيريون بين الانشغال بالهوامش وسرعة الانفعال
الشيخ حسين الخشن



 

التكفيريون بين الانشغال بالهوامش وسرعة الانفعال

 

الانشغال بالهوامش

 

السّمة الثانية التي تميّز الشخصيّة التكفيرية- بعد صفة الغرور الديني– أنّها تستغرق في الصغائر وتنشغل في التفاصيل وتخوض الكثير من المعارك الجانبية والهامشية، وهذا الأمر ناتج عن افتقادها الميزان الصحيح في تشخيص الأمور وتحديد الأولويات، ولذا نرى أتباع هذه الجماعات يُكثرون الجدال والسؤال والقيل والقال في توافه الأمور ونوافلها على حساب القضايا الكبرى في العقيدة والشريعة والحياة.

 

مع أنّ القرآن الكريم رسم لنا منهجاً واضحاً، ودعانا إلى تجنّب الخوض في الصغائر والهوامش والتركيز على المتون والأصول النافعة في الدنيا والآخرة، وهذا ما نلحظه بوضوح في قصة أهل الكهف، وما حكاه لنا الله تعالى عن اختلاف الناس في عددهم قال عزّ من قائل: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ويأتي التوجيه الإلهي بضرورة تجنّب هذا النوع من الجدال لعدم جدواه {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً}[الكهف: 22].

 

وهكذا يلاحظ المتأمّل والمتتبّع لظاهرة السؤال في القرآن (يسألونك- يسألك– وإذا سألك..)، أنّ الله سبحانه يوجّه عباده في بعض الحالات إلى ترك السؤال عن بعض الأشياء ممّا يكون الخوض فيها مضرّاً أو غير ذي جدوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة: 101]، أو أنّ ذلك ممّا لا يتّصل بمسؤوليّاتهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}[الأعراف: 187].

 

 

النبي وترشيد أسئلة الأمة

 

وفي حالات أخرى نجد أنّ الله تعالى يدعو رسوله إلى ضرورة ترشيد أسئلة الأُمة وذلك من خلال الإجابة على أسئلتهم بجواب لا يتطابق مع السؤال، تنبيهاً لهم إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة: 189]، فقد كان سؤالهم- كما يظهر من الآية وتؤكّده أسباب النزول- عن حالات اختلاف القمر، فإنّه يبدو صغيراً ثم يكبر ثم يصغر بعد ذلك، فأرادوا أن يفهموا سرّ ذلك، لكن الجواب لم يكن على وفق السؤال، بل اتّجه اتجاهاً آخر وهو الحديث عن فوائد هذا الاختلاف بين منازل القمر، لأنّه يحدّد للناس مواقيتهم ومواعيدهم فيما يحتاجون إليه من تحديد الوقت في قضاياهم العامة والخاصة"[1]، على أنّهم لم يكونوا في المستوى الذي يؤهّلهم للاستفادة من المعرفة الفلكية، ما يجعل الدخول معهم في ذلك غير ذي جدوى، بل إقحاماً لهم في عملية لا تتّسع لها أفكارهم وعقولهم.

 

ويتكرّر نفس الأسلوب والمنهج في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]، حيث نلاحظ أنّ الجواب اتجه بعيداً عن النص الحرفي للسؤال، ترشيداً وتوجيهاً للناس إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، ولذا وبدل أن يجيبهم بالتفصيل عما يلزمهم الإنفاق منه، وهو مورد سؤالهم، فإنّه مرّ على ذلك مرور الكرام بعبارة موجزة "ما أنفقتم من خير" من دون أن يدخل في تفاصيل هذا الخير، لأنّ إنفاق الخير جيّد على كلِّ حال، لكنّه توقّف مليّاً عند مَنْ ينبغي الإنفاق عليهم، مع أنّ ذلك لم يكن مورداً للسؤال، ليبين لهم أنّ هذا هو المهم، فليس مهماً نوع الإنفاق ما دام خيراً ونافعاً، بل المهم أن تعرف أين تضع مالك وأين تُنْفقه؟

 

هذا هو منهج القرآن، فأين المسلمون لاسيّما الجماعات التكفيرية منه؟!

 

إنّنا عندما نلاحظ إقدامهم على عظائم الأمور وتَوَقُّفهم وتورّعهم في الصغائر، نستذكر موقف البعض من أهالي الكوفة، ممّن تجرأوا على قتل الحسين (ع) وانتهاك حرمته ثم جاؤوا يستفتون في حكم قتل البعوض والذباب.

 

 فقد رُوِي أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن دم البعوض، فقال: ممّن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبيّ (ص)! وسمعت النبي (ص) يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا"، ورُوِيَ أنّه سأله عن المُحْرِم يقتل الذباب؟ فقال: "يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب وقد قتلتم ابن رسول الله (ص)!"[2].

 

 

سرعة الانفعال

 

السمة الثالثة للشخصيّة التكفيرية أنّها شخصية انفعالية ارتجالية سريعة الغضب حادّة المزاج كثيرة العثار والاعتذار، وسرعة الغضب هي من علامات الجاهل، قال عليّ (ع): "من طبائع الجهّال التسرّع إلى الغضب في كلّ حال"[3].

 

وفي سبيل الحدّ من سلبيّات الغضب والانفعال وآثارهما المدمّرة، نعرض لما جاء في النصوص الإسلامية من حديث عن حقيقة الغضب وآثاره السلبية على المستوى الشخصي والاجتماعي والديني، وعن سبل معالجته والتخلُّص منه.

 

 

حقيقة الغضب

 

الغضب نار تستعرّ داخل الإنسان،  وهي إن لم يطوّقها أحرقته وأحرقت كلّ مَنْ حوله، في الحديث عن رسول الله (ص): "الغضب جمرة توُقَد في جوف ابن آدم، ألم تروا حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه..."[4] وعن عليّ (ع) "الغضب نار القلوب" وفي حديث آخر عنه (ع): "الغضب عدوٌ فلا تملّكه نفسك" وتصل حدّة الغضب إلى درجة الجنون وخروج صاحبه عن حدّ الإنسانية، يقول علي (ع) فيما رُوِي عنه: "الحدَّة ضرب من الجنون لأنّ صاحبها يندم فإنْ لم يندم فجنونه مستحكم"، وفي حديث آخر عنه (ع): "مَن غلب عليه غضبه وشهوته فهو في حيّز البهائم"[5].

 

 

آثار الغضب

 

وأمّا عن آثار الغضب وسلبيّاته، فإنّه:

 

أولاً: يُحرق أعصاب صاحبه ويوتّرها ويُوقعه في المهالك، قال الإمام علي (ع) فيما يُروى عنه: "الغضب يُرْدِي صاحبه ويُبْدي معايبه"، وعنه (ع): "الغضب نار موقدة، مَنْ كظمه أطفأها ومَنْ أطلقه كان أول محترق بها"، ومن جوامع كلماته المروية عنه في هذا الشأن: "سبب العطب طاعة الغضب"، وهكذا تكون نهاية الشخص الذي يتملّكه الغضب، الندم والاعتذار، فعنه (ع): "إيّاك والغضب فأوّله جنون وآخره ندم"، وينبّه الإمام (ع) الشخص الانفعالي إلى أن نشوة الغضب يقابلها ذلّ الاعتذار يقول (ع) كما في الرواية "لا يقوم عزّ الغضب بذلّ الاعتذار"[6].

 

 

وثانياً: إنّ الانفعال يدفع صاحبه إلى اطلاق الكلمات اللامسؤولة، واتّخاذ المواقف الارتجالية دون وعي ولا إدراك، فتراه يشتم ويكفّر ويعتدي ويضرب ويدمّر ويقتل..

 

ولذا ركّزت وصايا النبيّ (ص) وأهل بيته على عدم الانسياق وراء الغضب، قال عليّ (ع) فيما رُوِيَ عنه "إذا أبغضت فلا تهجر"[7]، وعن الإمام الصادق (ع): "سمعت أبي يقول: أتى رسولَ الله رجلٌ بدويٌّ فقال إنّي أسكن البادية فعلّمني جوامع الكلام، فقال: آمرك أن لا تغضب... وكان أبي يقول: أي شيء أشدّ من الغضب إنّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرّم الله ويقذف المحصنة"[8].

 

وثالثاً: إنّ عاقبة الغضب والانفعال الخطيرة أنّه يُفسد الإيمان ويعرّض الإنسان لسخط الله، فعن الإمام الصادق (ص): "قال رسول الله: "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل" وعن الباقر (ع): "إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار"[9].

 

 

سُبُل معالجته

 

إنّ أهمّ دواء لمعالجة داء الغضب هو الاستعانة بالحِلْم والصبر وإيقاظ مشاعر الإيمان لدى الإنسان وإعمال ضوابط العقل وكوابحه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: 37] وعن النبي الأكرم (ص): "ليس الشديد بالصُّرَعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"[10] وعن أمير المؤمنين (ع): "إذا تسلّط عليك الغضب فاغلبه بالحلم والوقار"، وفي كلمة أخرى له (ع): "إن كان في الغضب الانتصار، ففي الحلم ثواب الأبرار"[11].

 

 وهكذا يوصي النبي (ص) باعتماد علاجٍ نفسيّ وتربويّ لحالة الغضب، وهو أن يتحرّك الإنسان الغاضب وينشغل بأمر آخر ولا يبقى مستغرقاً في القضية التي أغضبته، قال (ص) في تتمّة الحديث الآنف: "فإذا وجد أحدكم من ذلك (الغضب) شيئاً فليلزق بالأرض ألا إنّ خير الرجال مَنْ كان بطيء الغضب سريع الفيء، وشرُّ الرجال مَنْ كان سريع الغضب بطيء الفيء.."[12] وعن الإمام الباقر (ع): ".. فأيّما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك، فإنّه سُيذهب عنه رجس الشيطان، وأيّ رجل غضب على ذي رحم فليدنُ منه فليمسّه فإنّ الرحم إذا مُسَّت سكنت"[13].

 

 

 

من كتاب العقل التكفيري قراءة في المنهج الاقصائي 

4/3/2014

 

 

 



[1] من وحي القرآن، السيد فضل الله (رض) ج4 ص66-67، دار الملاك- بيروت، ط2.

 [2]كشف الغمة ج2 ص10.

 [3]تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم ص302.

 [4]المستدرك للحاكم ج4 ص506.

[5] راجع هذه الأحاديث في كتاب: تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص301-302.

[6] المصدر نفسه.

 [7]تصنيف غرر الحكم ص302.

[8] الكافي ج2 ص303.

 [9]م. ن. ج2 ص240.

[10] صحيح البخاري ج7 ص100.

[11] تصنيف غرر الحكم 302.

 [12]المستدرك ج4 ص506.

 [13]الكافي ج2 ص302.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon