حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
موجات التضليل والتناحر الديني
الشيخ حسين الخشن



 

 

موجات التضليل والتناحر الديني

 

 

ثمّة أسلحة فتّاكة كثيرة يتمّ استخدامها في عمليات التناحر الديني والتراشق المذهبي المستعرّة منذ أمدٍ بعيد، ومن جملتها سلاح التضليل الذي يسلّه أتباع الأديان المختلفة بوجه بعضهم البعض ويشهره كلّ مذهب بوجه المذاهب الأخرى، وقد استفحلت موجات التضليل والتضليل المضادّ في الآونة الأخيرة وامتدّت إلى داخل الدائرة المذهبية الواحدة، وهو ما يستدعي تسليط الأضواء عليها بغية وضع الأمور في نصابها وتحديد موجبات الضلالة ومعالم الهداية.

 

 

 

موجبات الضلالة

 

بالعودة إلى الكتاب والسنّة نجد أنّهما حدَّدا لنا موجبات الضلال وأسبابه بما يمكن إرجاعه إلى العناوين التالية:

 

1-  الشرك: قال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء: 116].

 

2- الكفر: قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء: 136].

 

3-  النّفاق: روي عن الإمام عليّ (ع): "أحذّركم أهل النفاق، فإنّهم الضّالون المضلون والزالون المزلون"[1].

 

4-  معصية الله ورسوله: قال سبحانه: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}[الأحزاب: 36].

 

5-  اتّباع الهوى: قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: 26] وقال سبحانه: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}[الجاثية: 23].

 

6-  اتّباع الشيطان: قال سبحانه حكاية عن لسان إبليس: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}[النساء: 119].

 

 والسببان الأخيران يندرجان في السبب الرابع، لأنّ اتباع الهوى أو الشيطان من مصاديق معصية الله تعالى.

 

7-  الجهل بأئمّة الهدى: فعن عليّ (ع):"وأدنى ما يكون العبد ضالاًّ أن لا يعرف حجّة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أَمَرَ الله عزّ وجلّ بطاعته وفرض ولايته"[2] وهذا يمكن إرجاعه إلى الأمر الرابع أيضاً كما هو واضح.

 

 

العاصم من الضّلالة

 

وكما حدَّد لنا القرآن والسُّنّة موجبات الضلالة فقد حدّدا سُبُل الهداية والعواصم من الانحراف والتيه، ويمكن حصر ذلك بأمرَيْن:

 

1-  التمسّك بالقرآن الكريم، فإنّه أساس الهداية ومنبعها، قال سبحانه: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: 9]، وعن أمير المؤمنين (ع): "اعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ والهادي الذي لا يضلّ والمحدّث الذي لا يكذب"[3].

 

2-  التمسّك بهدي النبيّ وعترته: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7]، وعن أمير المؤمنين (ع): "... واقتدوا بهَدْيِ نبيّكم فإنّه أفضل الهدي واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السُّنن"[4]، وقد روى المسلمون- سُنَّة وشيعة- عنه (ص) أنّه قال: "إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"[5].

 

 

المشكلة في التفاصيل

 

وهذا الكلام على عمومه قد لا يرتاب فيه أحد من المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم، بيد أنّ المشكلة في التفاصيل وفي إثبات أنّ هذا الأمر أو ذاك مما جاء به النبيّ (ص) أو لا؟ لأنّه فيما عدا المسلمات العقيدية والضروريات الفقهية فقد وقع الخلاف الكثير في قضايا العقيدة والتشريع، للاختلاف في سندها أو دلالتها، فما ثبت لدى البعض أنّه من هدي الإسلام لم يثبت عند الآخر، وما اعتبره البعض ضلالاً لم يفهمه الآخر على هذا النحو..

 

وإن دائرة القضايا البديهية والمسلّمة صغيرة جداً بالقياس إلى القضايا النظرية التي وقعت محلاً للأخذ والرد، ويعود السبب في كثرة القضايا النظرية بالقياس إلى البديهيات إلى عدة عوامل، أهمها: ابتعادنا عن عصر النص وما رافقه من دسّ ووضع، أو ضياع للنصوص أو للقرائن المحتفة بها ممّا قد يرفع غموضها، وقد قدّر أحد الفقهاء المعاصرين نسبة الضروريات الإسلاميّة إلى النظريات فبلغت نحو ستة في المائة، قال: 

 

"الأحكام الشرعية الإسلامية تصنّف إلى قسمين:

 

أحدهما: الأحكام الشرعية التي لا تزال تحتفظ بضرورتها بين المسلمين عامة... وهذا الصنف من الأحكام الذي يتمتّع بطابع ضروري لا تتجاوز نسبته إلى مجموع الأحكام الشرعية عن ستة في المائة بنسبة تقريبية.

 

والصنف الآخر: الأحكام الشرعية التي تتمتّع بطابع نظري، وهذا الصنف من الأحكام هو الذي يتوقّف إثباته على عملية الاجتهاد والاستنباط"[6].

 

وباتضاح ذلك نقول: إنّ رَمْي الآخر بالضلال إنّما يسوغ إذا كانت مخالفته في البديهيات دون النظريات، وإلاّ لجاز لكلّ عالم أن يضلِّل الآخرين الذين يختلفون معه في بعض الآراء، ولهذا قال الشهيد الثاني: "المراد بالأصول التي تُردّ شهادة المخالف فيها: أصول مسائل التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد، أمّا فروعها من المعاني والأحوال وغيرها من فروع علم الكلام فلا يقدح الاختلاف فيها، لأنّها مباحث ظنيّة، والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير.."[7].

 

 

 

حذارِ من المسارعة في التضليل

 

وفي ضوء ذلك، يكون لزاماً علينا أن نُحذِّر من المسارعة في رمي الآخر بالضلال والإضلال، ولا سيّما في الدائرة المذهبية الواحدة، فإنّ في ذلك جرأة لا يرتكبها مَنْ أراد الاحتياط لنفسه ودينه، ولا يقتحمها إلاّ من قلّت معرفته بحقيقة القضايا الدينية واختلاف الأنظار فيها، وتعدّد الوجوه والمحتملات في فهمها، هذا الاختلاف الذي وصل إلى درجة أن يؤلّف التلميذ كتاباً يصحّح فيه اعتقادات شيخه، كما حصل مع عَلَمَيْن كبيرين من أعلام الإمامية وهما: الصدوق والمفيد، فقد ألّف الأول كتاباً أسماه "الاعتقادات"، وردّ عليه الثاني بـ "تصحيح الاعتقاد" دون أن يُخرِج أحدهما الآخر عن الدين أو المذهب. 

 

وإنّ المثال المذكور كغيره من الأمثلة التي يلمسها الباحث لدى مراجعته لسيرة الماضين من علمائنا تكشف عن رحابة علميّة وروح موضوعية عالية هي أفضل بكثير ممّا عليه الحال اليوم، وعندما تسود الروح الموضوعية يكون الميزان هو الدليل، بعيداً عن كلِّ سهام التضليل التي يُرمى بها كلّ مَن يحاول مناقشة السائد من الأفكار والشائع من المفاهيم والاعتقادات حتى لو افتقرت إلى دليل يعضدها وبرهان يؤيّدها، أجل كان من دَأْبِ العلماء الماضين أن يقسو أحدهم على الآخر ويعنف ضده، بيد أنّ هذه القسوة تبقى في مقام البحث العلمي ولا تمتدّ إلى الواقع العملي، وكانت القسوة على الفكرة لا على صاحبها.

 

وأختم بذكر بعض النماذج التي تعكس الروح العلميّة والموضوعيّة التي تحلّى بها علماء المسلمين وفقهاؤهم رغم شدّة اختلافاتهم وكثرتها في تفاصيل العقيدة وفروع الشريعة:

 

النموذج الأول: إنّ السيد المرتضى (رحمه الله) خالَفَ أستاذه وشيخه المفيد- وكلاهما من أركان الطائفة- في ما يقرب من مائة مسألة عقائدية[8]، وقد ألّف الشيخ قطب الدين الراوندي رسالة في هذا الشأن وجمع فيها اختلافاتهما العقيدية فبلغت نحو خمس وتسعين مسألة، وقال في آخرها لو استوفيت كلّ ما اختلفا فيه لطال الكتاب[9].

 

النموذج الثاني: ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابه عدّة الأصول عن اختلاف علماء الطائفة في الأحكام الشرعية قال: "فإنّي وجدتها- الطائفة- مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى أبواب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات الفرائض..." ثم يعدّد بعض اختلافاتهم ويضيف: "وغير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى أنّ باباً منه لا يسلم إلاّ وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى"، إلى أن يقول: "حتى أنّك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينتهِ إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفته!"[10].

 

أقول: لو شاهدت واقعنا يا شيخنا الطوسي لرأيت العجب العجاب حيث يضلّل بعضنا البعض الآخر لمجرّد رأي هنا أو فتوى هناك!

 

النموذج الثالث: "إنّ الخلاف في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب يقوم على اتّباع الأثر قد اتّسع للعديد من الروايات والأقوال بحيث ملأت كتاباً من اثني عشر مجلّداً هو كتاب الإنصاف في الراجح من الخلاف"[11].

 

 

من كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الاقصائي 

 

 

 

 



[1] نهج البلاغة ج2 ص166.

[2]الكافي ج2 ص415.

[3]نهج البلاغة ج2 ص91.

[4]نهج البلاغة ج1 ص216.

 [5]راجع: مسند أحمد ج3 ص14، وسنن الترمذي ج5 ص329، وكنز العمال ج1 ص173، والكافي ج2 ص415.

 [6]النظرة الخاطفة في الاجتهاد للشيخ إسحاق الفياض ص11.

[7]مسالك الأفهام ج14 ص172، ونحوه ما في مجمع الفائدة ج12 ص328.

[8] مسالك الإفهام ج14 ص172.

 [9]كشف المحجّة لثمرة المهجة ص64.

 [10]العدة ج1 ص136- 138.

[11] الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرّف للشيخ القرضاوي ص161.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon