حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> متنوعة
أئمة أهل البيت و السلطان المعنوي
الشيخ حسين الخشن



 

يتردد على بعض الألسنة توصيف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بـ "السلطان"، وربما يطلق عليه البعض وصف "سلطان السلاطين"، ولا يزال القائمون على الحضرة الرضوية يقدمون عزفا موسيقيا صبيحة كل يوم من على بعض منائر الروضة الرضوية، كنوع من الاحترام والتقدير لـ "سلطان السلاطين " علي بن موسى الرضا(ع).

 

 
 إلاّ أن قضية أوصاف الأئمة(ع) وألقابهم - حتى لو أننا استبعدنا القول بتوقيفيتها - لا بد أن تخضع لشيء من الدقة والاختيار المدروس حتى لا يتم استخدام أوصاف أو ألقاب لا تليق بهم أو تختزن معنى سلبيا أو مأخوذا من قواميس السلطة الجائرة والمستبدة، ولفظ "السلطان" مضافا إلى أننا لم نجد وروده في شيء من المصادر نقلا عن أحد الأئمة (ع)، فإنه قد يختزن معنى سلبيا، على اعتبار أنه يوحي بأن الأئمة (ع) هم سلاطين، وأنّ الإمامة هي نوع سلطنة، وهذا فيه تشويه لحقيقة الإمامة ودورها في الحياة، وربما كان السبب في توصيف الإمام الرضا(ع) بهذا الوصف هو توليّه (ع) ولاية العهد من قبل المأمون، ولكننا نعلم أن الإمام(ع) لم يتولاها اختيارا ورغبة منه بالسلطة، ولا أنّ الظروف كانت تسمح له بإدارة الحكم بالطريقة التي ترضي الله ورسوله (ص)، غاية ما هناك أنّه (ع) لم يستطع رفض ما طلبه منه المأمون منه، حيث أصرّ على ضرورة تولي الرضا (ع) لمنصب ولاية العهد، لأغراص خاصة وأهداف معينة، هي أبعد ما تكون عن حصول "صحوة ضمير" عند المأمون العباسي، وإدراكه أنّ الرضا(ع) هو أولى الناس بهذا الموقع،  وإن اشتراط الإمام(ع) في نصّ ولاية العهد على أن لا يُصدر أمرا ولا نهيا، وأن لا يحل أو لا يعقد شيئا هو خير دليل على أنه (ع) لم يقبل بهذا الموقع وهو في كامل حريته واختياره  . 

 

 أجل إنّ ثمة نوعا آخر من "السلطان" تحلى به النبي (ص) وكذا الأئمة من أهل بيته (ع)، ومنهم الإمام الرضا (ع)، ألا وهو السلطان المعنوي، الذي جعلهم يتربعون على عرش العقول والقلوب، وهذا "السلطان" هو سر إمامتهم ومرجعيتهم سعلى الصعيدين الفكري والروحي.

 

 ففي الحقل المعرفي والفكري نجد من خلال ما ينقله لنا التاريخ أنّ قولهم (ع) هو الفصل وحكمهم العدل، ومنطقهم الصواب ورأيهم الحق والسداد، وأن لكلامهم حلاوة خاصة وجاذبية استثنائية تشد إليها المسامع وتأخذ بمسامع القلوب، فهم إذا حاججوا أقنعوا، وإذا حاوروا أبدعوا، وإذا تكلموا أجادوا وأفادوا ... وهذه إحدى أهم خصائصهم ومزاياهم، وما نقوله في المجال ليس مجرد مزاعم أو ادعاءات فارغة فهذه الخصوصية يقرّ لهم بها الخصم قبل الصديق، والبعيد قبل القريب، والصور والشواهد على هذا السلطان المعرفي كثيرة جدا تمتلىء بها كتب التاريخ، ونأمل أن نُوفّق للحديث عنها في مناسبة أخرى بعون الله تعالى ..

 

 أما في المجال الروحي والمعنوي، فقد تحلى النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) بهيبة خاصة وسلطان معنوي استثنائي، وهي هيبة لا تخطئها العين، ولا تدانيها هيبة، وقد كانت هذه الهيبة بادية على محيا النبي(ص) وكل واحد من أئمة أهل البيت (ع) كما يتبدى ذلك بمراجعة كتب التاريخ والأحاديث، وإليكم بعض النماذج القليلة مما حدثنا به التاريخ عن هذه الهيبة الحقيقية التي كانت لائحة في كريم وجوههم، لنحاول بعد ذلك أن نفهم سرها ومغزاها :
 
نماذج وعينات من هيبة النبي(ص) والأئمة(ع)

 

وهذه النماذج هي عينات قليلة مما يمكن أن يعثر عليه المتتبع للمصادر التاريخية والحديثية، وهي نماذج دالة على هيبة من نوع خاص تشير إلى أنك أمام شخصيات استثنائية في تاريخ البشرية:
 

 

هيبة النبي (ص) 

 

النموذج الأول: هيبة النبي (ص)، وأكتفي هنا بنقل ما روي عن السيدة فاطمة الزهراء (ع) بشأن والدها، ففي الحديث أنّها (ع) ذهبت إلى بيت رسول الله (ص) تشكو إليه بعض ما أصابها لكثرة ما طحنت بيديه بالرحى، فلما دخلت عليه وسلمت فإذا بها ترجع دون أن تكلمه بحاجتها، فقال لها أمير المؤمنين: ما لك ؟ قالت : والله ما استطعت أن أكلم رسول الله (ص) من هيبته .."( مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص12).

 

 وأهمية هذا الكلام أنّ قائلته هي فاطمة بنت محمد (ص)، وفي العادة فإن الولد - ذكراً كان أو أنثى - تسقط الكثير من الحدود بينه وبين أبيه، بسبب كثرة المخالطة ودوام العشرة وما إلى ذلك، إلاّ أنّ الزهراء(ع) تحدثنا أنها لم تستطع أن تكلم أباها رسول الله (ص) من هيبته! 

 

وهذا المعنى نفسه نجده فيما يروى عن أمير المؤمنين(ع) في حديث خطبته للزهراء(ع) قال: "..دخلت على رسول الله (ص) وكانت له جلالة وهيبة، فلما قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم.. "( بحار الأنوار ج43 ص  119)

 

هيبة أمير المؤمنين (ع) 

 

النموذج الثاني: في خبر ضرار بن ضمرة عندما دخل على معاوية وقال له صف لي علياً، قال: أو تعفيني؟ فقال: لا، بل صفه لي.
فقال له ضرار: رحم الله عليا كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبه عنا حجاب، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم.
فقال معاوية: زدني في صفته 
فقال ضرار: رحم الله عليا، كان والله طويل السهاد، قليل الرقاد، يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، ويجود لله بمهجته، ويبؤ إليه بعبرته، لا تغلق له الستور، ولا   يدخر عنا البدور، ولا يستلين الإتكاء، ولا يستخشن الجفاء، ولو رأيته إذ مثل في محرابه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا، إلى تعرضت، أم إلي تشوقت، هيهات هيهات لا حاجة لي قيك، أبنتك ثلاثا لا رجعة لي عليك، ثم يقول: واه واه  لبعد السفر وقلة الزاد وخشونة الطريق "( الأمالي  للصدوق 724)

 

هيبة الإمام الحسن (ع)

 

النموذج الثالث: هيبة الحسن(ع): كانت هيبته بحيث "إذا جلس على باب داره انقطع الطريق فما مر أحد إجلالاً له" ،ويروى أنّه " كان في طريق الحج ماشياً فكل من رآه نزل حتى سعد بن أبي وقاص".  ( سعد بن أبي وقاص هو الصحابي المعروف ووالد عمر بن سعد). وهذه الهيبة ورثها الحسن (ع) عن جده رسول الله (ص) ففي الحديث: ".. أما الحسن فله هيبتي وسؤددي"( مجمع الزوائد للهيثمي ج 9ص 158،والخصال للصدوق ص77).

 

هيبة زين العابدين (ع) 

 

النموذج الرابع: علي بن الحسين(ع)، قال الفرزدق:

 

يغضي حياءً ويغضي من مهابته    فما يكلم إلاحين يبتسم

 

   ومعنى يغضي: يدني جفنيه على الحدقة، وقد قال الفرزدق هذا البيت من ضمن قصيدة معروفة له إرتجلها وهو في إحدى المواقف المشهودة، حيث بانت فيها تلك المهابة الخاصة لزين العابدين(ع)، وذلك عندما ذهب هشام بن عبد الملك لحج بيت الله الحرام ولما توجه لاستلام الحجرالأسود " لم يقدر على الاستلام من الزحام ، فنصب له منبر وجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي ابن الحسين وعليه إزار ورداء من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف، فإذا بلغ موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له فقال شامي: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكني أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة جاء فيها:

 

يا سائلي أين حلّ الجود والكرم   عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته   والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم   هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده   صلى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه   لخرّ يلثم منه ما وطى القدم
هذا علي رسول الله والده   أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا الذي عمه الطيار جعفر   والمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة   وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها   إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته   ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك من هذا بضائره   العرب تعرف من أنكرت والعجم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت   عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يغضي حياءً ويغضي من مهابته   فما يـكـلم إلا حـين يبتـسم 
(مناقب أبي طالب ابن شهر آشوب ج3 ص306).

 

  إنّ انفراج الناس للإمام زين العابدين (ع) أثناء الطواف، والحال أنّ الكثيرين منهم قد لا يعرفونه، لأنهم حجاج أتوا من شقة بعيدة، ليس إلا بسبب أن نور وجهه قد أعطاه مهابة خاصة ، على طريقة أهل الجنة، "نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم".

 

هيبة الباقر(ع) 

 

النموذج الخامس: هيبة الإمام الباقر(ع)، ففي حديث جابر الأنصاري قال: "خرج محمد بن علي الباقر من عند النساء وعلى رأسه ذؤابة وهو غلام، فلما أبصرته ارتعدت فرائصي وقامت كل شعرة من بدني".

 

هيبة الصادق (ع)

 

النموذج السادس: هيبة الإمام الصادق (ع)، ففي حوار له مع ابن أبي العوجاء تراه يقول للإمام (ع): "ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك". وعن أبي حنيفة: "دخلت على المنصور وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلمت عليه فأومأ إليّ فجلست.

 

هيبة الرضا (ع)

 

النموذج السابع: هيبة الرضا (ع)، يروي الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بسنده إلى ياسر الخادم قصة تولي الإمام ولاية العهد إلى أن يقول: فلما حضر العبد بعث المأمون إلى الرضا عليه السلام يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب ليطمئن قلوب ويعرفوا الناس ويعرفوا فضله وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة فبعث إليه الرضا عليه السلام وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية (الأجير والمستخدم) هذا الأمر فتطمئن قلوبهم ويقروا بما فضلك الله به، فلم يزل يرده الكلام في ذلك، فلما ألح عليه قال: يا أمير المؤمنين أن أعفيتني من ذلك فهو أحب إليّ، وأن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) وكم خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال المأمون: أخرج كما تحب وأمر المأمون القواد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن الرضا عليه السلام فقعد الناس لأبي الحسن الرضا عليه السلام في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان واجتمع القواد على باب الرضا عليه السلام فلما طلعت الشمس قام الرضا عليه السلام، فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفاً منها على صدره وطرفا بين كتفه وتشمر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازة وخرج ونحن بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات فخيل إلينا أن الهواء والحيطان تجاوبه والقواد والناس على الباب قد تزينوا ولبسوا السلاح وتهيئوا بأحسن هيئة فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمرنا وطلع الرضا عليه السلام وقف وقفة على الباب قال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا فتزعزعت مرو من البكاء والصياح فقالها ثلاث مرات فسقط القواد عن دوابهم ورموا بخفافهم لما نظروا إلى أبي الحسن عليه السلام وصارت مرو ضجة واحدة ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج وكان أبو الحسن عليه السلام يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة، فكبر أربع مرات فتخيل إلينا أن السماء والأرض والحيطان تجاوبه وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس ، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع، فدعا أبو الحسن عليه السلام بخفه، فلبسه ورجع" ( عيون أخبار الرضا (ع) ).

 

هيبة الهادي (ع) 

 

النموذج الثامن: هيبة الإمام الهادي (ع) ، قال المسعودي في مروج الذهب:" سعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد عليهما السلام أنّ في منزله كتبا وسلاحاً من شيعته من قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن! فحمل على حاله تلك إلى المتوكل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكل. فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكاس التي كانت في يده فقال (ع): والله ما يخامر لحمي ودمي قط، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً فقال عليه السلام: إني قليل الرواية للشعر، فقال: لا بد، فأنشده عليه السلام وهو جالس عنده:

 

 باتوا على قلل الأجبال تحرسهم      غلب الرجال فلم تنفعهم القلل.
واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم         وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم           أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة      من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم        تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا  وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

 

قال: فبكى المتوكل حتى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع إلى علي عليه السلام أربعة آلاف دينار، ثم رده إلى منزله مكرما.  وروى الكراكجي في كنز الفوائد قال: فضرب المتوكل بالكأس الأرض وتنغصّ عيشه في ذلك اليوم.  

 

سر هذه المهابة:  

 

والسؤال الذي يواجهنا بعد استعراض هذه النماذج الدالة على هيبة من نوع خاص كانت متوفرة عند الأئمة (ع) : ما سرّ هذه الهيبة وكيف نفهمها؟ 

 

وفي الجواب نقول : لا يخفى أنّ هيبة بعض الناس تأتيهم دون جهد أو اختيار بل  نتيجة بسطة في الجسم يمنّ الله بها عليهم أو جمال يهبهم إياه، فهذا قد يمنح الإنسان شيئاً من المهابة، وهكذا فإن البعض من أصحاب الجاه قد تحصل لهم هيبة مصطنعة تضفيها عليهم المظاهر المادية من الزخارف والتيجان والمناصب .. إلاّ أنّ هذه المهابة هي مهابة عابرة وطارئة ومستعارة وسرعان ما تزول.

 

   إلاّ أن هناك نوعا آخر من المهابة هو أكثر عمقاً وتأثيراً واستمرارية لا يرتبط بالمظاهر المادية ولا يحتاج إلى تيجان ولا زخارف ولا سلطة ولا جاه، ألا وهي هيبة التقوى المستقاة من نورالإيمان، إذ كلما ازداد الإنسان إيماناً ومعرفة بالله وخشية منه وتوكلاً عليه.. كلما أعطاه الله مهابة وجلالاً واحتراماً في قلوب العباد، وإذا اجتمعت التقوى مع العلم زانت الإنسان وزادته مهابة واحتراما، ففي الحديث عن الامام الصادق(ع): "من أراد عزاً بلا عشيرة وغنى بلا مال وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذل معصية الله إلله إلى ذل طاعته."( الخصال للشيخ الصدوق ص169)

 

  وإنّ هيبة النبي (ص) وأهل بيته (ع) هي من نوع  الهيبة الثابتة وغير المستعارة، بل هي في المستوى الأعلى من هذه المهابة، لأنهم أهل الله تعالى وعباده المخلصون وأهل التقوى والورع، وتقاهم وورعهم هذا هو الذي أورثهم مهابة خاصة واستثنائية، هذا بالإضافة إلى كونهم حجج الله على العباد وقد أعدهم الله للقيام بدوراستثنائي في هداية العباد، ما يعني أنّ ثمة سبباً خاصاً وإضافيا يجعلهم محاطين بهذا اللطف الإلهي الذي يزيدهم مهابة وجلالا، ولك أن تقول: إنّ هذه الهيبة ناشئة عن نور الإمامة والنبوة اللائح في محياهم، وهذا ما يعني أنّ مهابة الإمام(ع) أو سلطانه المعنوي هو أحد دلائل إمامته، وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات الواردة عنهم، ففي رواية الحلبي عن الصادق (ع) قال: "دخل الناس على أبي قالوا: ما حد الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة، إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينيه منه إجلالاً وهيبة، لأنّ رسول الله(ص) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام". (بحار الأنوار ج46 ص 244).

 

   إنّ هيبة الإمام تبلغ حداً تجعل له سلطاناً معنوياً على النفوس وعلى القلوب والعقول وهذا هو سر عظمة أهل البيت (ع) الذين جاهدوا أنفسهم في الله فزادهم الله هدى وأعطاهم نورا يمشون به بين الناس . نسأل الله أن يمدنا بقبس من هذا النور في دنيانا وأخرانا إنه على كل شيء قدير .





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon