حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> اجتماعية
دور الحب وانتظام الحياة الاجتماعية
الشيخ حسين الخشن



  وإذا كان الحبّ الفطري هو الذي يحكم علاقتنا بالوطن والأرض والحيوان والجبال، فالأوْلى أن يحكم - هذا الحبّ - علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، بل لا مفرّ لنا إذا أردنا بناء مجتمع متماسك ومتضامن ومتكافل من أن ننشر ثقافة التحابّ والتراحم بين أبنائه، فهذه الثقافة هي التي تخفِّف من غلواء

الخلافات البغيضة والعصبيات المقيتة والتوترات الاجتماعية وتحدّ من تأثيراتها السلبيّة، وإنّ مجتمعاً تتراجع فيه عاطفة الحبّ لتحلّ محلّها الكراهية والحقد هو دون شكّ مجتمع محكوم بالانهيار الداخلي عاجلاً أم آجلاً.

 

في ضوء ذلك، فإنّ من الطبيعيّ أن نحرص على قيمة الحبّ الفطريّة وأن ننمِّيها وأن نطوّرها ونعمل على جعلها هي اللغة التي تحكم العلاقات الإنسانية على اختلاف دوائرها ومستوياتها، ما يجعل من الحبّ منهج حياة في تعاملنا مع الناس جميعاً، وليس مجرّد إحساس عاطفي نبيل.

 

 وفيما يلي نستعرض بعض تلك الدوائر التي ينبغي أن تحكمها العواطف الإنسانية النبيلة، وعلى رأسها عاطفة الحبّ:

 

1- المودّة والعلاقة الزوجية

 

 ففي دائرة العلاقات الزوجيّة يلعب الحبّ دور المحور ويمثّل الضمانة لاستمراريّة تلك الحياة واستقرارها، يقول الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فالمودّة – طبقاً لهذه الآية الشريفة - هي التي ينبغي أن تكون حاكمةً بين الزوج

وزوجته، وهي لا شك كفيلة بأن تذلّل الصّعاب وتنزع أسباب التوتر والشقاق.

 

وحيث إنّ جذوة الحبّ قد تذوي مع مرور الوقت، كان من الملحّ أن يعمل الزوجان على بقائها حيّةً ومستمرّة، وذلك بابتكار أساليب خاصّة تجنّب العلاقة الزوجيّة الروتين المملّ، ويأتي على رأس ذلك اهتمام كلّ طرف بمشاعر الشريك الآخر والعمل على اجتناب ما يتنفرّ منه من سلوكيات أو أعمال

أو مظاهر، ومن هنا نجد أنّ الوصايا النبويّة أرشدت إلى ضرورة أن يهيّأ كلّ واحد من الزّوجين نفسه للآخر تمهيداً للعلاقة الخاصة بينهما، فضلاً عن توفير ما يشدّه إليه، ففي الرواية عن الحسن بن جهم قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام (الإمام موسى بن جعفر الكاظم) اختضب، فقلت: جعلت

فداك اختضبت! (أي أراك استعملت الخضاب، وهو الحِنّاء)

 

 فقال: نعم إنّ التهيئة مما تزيد في عفّة النساء، ولقد ترك النساء «نساء» العفّة بترك أزواجهن التهيئة.

 ثمَّ قال: أيسرّك أن تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيئة؟

قلت: لا.

 قال: فهو ذاك. ثمَّ قال: من أخلاق الأنبياء صلوات الله عليهم التنظّف والتطيّب وحلق الشّعر.."[1].

 

ومن هذه الأساليب أيضاً الحرص على إظهار مشاعر الحبّ تجاه الشريك الآخر وعدم إبقائها حبيسة النفس، لأنّ لإظهارها أثراً كبيراً وطيّباً على مشاعر الطرف الآخر، وهو يُدخل المسرّة على قلبه، ولا سيّما الزوجة، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "قول الرجل للمرأة: إنّي أحبّك لا يذهب من قلبها أبداً"[2].

 

 

2-  الحبّ بين الأبناء وبين الآباء والأمهات

 

 وفي دائرة العلاقة بين الآباء والأمهات من جهة وبين الأبناء من جهة أخرى، فإنّ المحبّة والمودّة تمثّلان صمّام أمان لبقاء الأسرة متضامنة متعاونة متماسكة، وضماناً لحمايتها من التصدّع والانهيار، وتشجيعاً على هذا المعنى وتأكيداً عليه تأتي الوصايا – وهي وصايا للآباء والأمّهات معاً -

المرويّة عن رسول الله (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) حول ضرورة وأهمية محبّة الأطفال.

ففي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال : "إنّ الله ليرحم العبد لشدّة حبّه لولده"[3].

 

وعن أبي عبد الله (ع) قال: "قال موسى بن عمران ( ع ): يا ربّ أيّ الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حبّ الأطفال فإنّي فطرتهم على توحيدي، فإنّ أَمَتُّهُم أدخلتهم برحمتي جنَّتي"[4].

 

ومحبّة الأطفال هي عنصر هام في نجاح العمل التربوي، فإنّ حاجة الأطفال إلى الغذاء العاطفي لا تقلّ عن حاجتهم إلى الغذاء المادي، وإنّ أيّ نقص في الإشباع العاطفي سيترك أثراً سلبيّاً على مستقبل الأطفال وتوازن شخصيّتهم.

 

 وفي المقابل فإنّ الولد مأمور ومدعوّ - أيضاً - بأن يبادل والديه الحبّ بالحبّ، وأن يُخفض لهما جناح الذلّ من الرّحمة، ولا سيّما إذا صارا إلى سنّ الشيخوخة والعجز، وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بـ "أرذل العمر"، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغن عندك

الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء 23 – 24].

 

إنّ محبّة الولد لوالديه هي أضعف الإيمان وأقلّ الواجب تجاههما، فهما أصله وسبب وجوده، ومهما بذل من جهد في الإحسان إليهما والبّر بهما فلن يوفيّهما القليل من حقوقهما، ومع الأسف فإنّ بعض الأبناء قد تبرد عاطفته تجاه أبويه أو أحدهما لسبب من الأسباب، فيحتاج دائماً إلى أن ينشّط هذه

العاطفة باستذكار حقّ الأبوين وما عانياه مع الولد في الصّغر وما تحمّلاه من الأذى لأجل راحته، وقد وجدنا أنّ الإمام زين العابدين (ع) يطلب إلى الله تعالى أن يعطف قلبه عليهما ويُعينه على برّهما واستحضار حقوقهما، يقول عليه السلام: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وأَبَرُّهُمَا

بِرَّ الأُمِّ الرَّؤوفِ، واجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وبِرِّي بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ حَتَّى أُوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا، وأُقَدِّمَ عَلَى رِضَايَ رِضَاهُمَا وأَسْتَكْثِرَ بِرَّهُمَا بِي وإِنْ قَلَّ، وأَسْتَقِلَّ بِرِّي بِهِمَا وإِنْ كَثُرَ، اللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُمَا صَوْتِي، وأَطِبْ لَهُمَا كَلَامِي، وأَلِنْ لَهُمَا

عَرِيكَتِي، واعْطِفْ عَلَيْهِمَا قَلْبِي، وصَيِّرْنِي بِهِمَا رَفِيقاً، وعَلَيْهِمَا شَفِيقاً. اللَّهُمَّ اشْكُرْ لَهُمَا تَرْبِيَتِي، وأَثِبْهُمَا عَلَى تَكْرِمَتِي، واحْفَظْ لَهُمَا مَا حَفِظَاه مِنِّي فِي صغري"[5].

 

بيان: العسوف: الظلوم، والوسنان: النعسان، وعريكتي: طبيعتي ونفسي، يقال: رجل ليّن العريكة: إذا كان سلساً خلوقاً.

 

 

3- مودّة الجيران من مكارم الأخلاق

 

ومن جملة الدوائر الاجتماعيّة التي أولاها الإسلام أهميّة خاصة: دائرة الجيران، حيث الحاجة ماسّة إلى أن تقوم علاقة المرء بجيرانه على أساس من المودّة والاحترام المتبادل، لأنّ التباغض بين الجيران يسبّب نكد الحياة ويعكّر مزاج المرء ويوتّر أعصابه ويجرّ عليه الكثير من المتاعب

الاجتماعية والصحيّة، وليس هناك ضامن أو مساعد على تخفيف التوتّر والتشنّج الذي قد ينشب بين المتجاورين أفضل من المودّة الصادقة والمبنية على الثقة والاحترام المتبادل، ومن هنا فقد عدّت بعض الروايات "التودّد إلى الجيران" في عداد "مكارم الأخلاق"، ففي الحديث عن الإمام الصادق

(ع): "إنّ خصال المكارم بعضها مقيّد ببعض يقسمها الله ..: صدق الحديث .. والتودّد إلى الجار والصاحب"[6]، والتودّد هو أسلوب يرمي إلى اكتساب ودِّ الآخرين وليس مداهنتهم أو التذلّل لهم، كما سيأتي توضيح ذلك لاحقاً.

 

 وقد تكون الخطوة الأولى في هذا المقام هي التعرّف على الجار من خلال زيارته وتوثيق عرى العلاقة معهعلى أساس من الصداقة والأخوّة، وبذلك يتسنّى لك معرفة طباعه وهمومه ومشاكله، فتسعى في الحدّ الأدنى إلى تجنب ما يؤذيه ويزعجه وتحرص على مداراة مشاعره، وقد تسعى للتخفيف

عنه ومساعدته.

 

 ولأنّ للجوار أهميةً بالغة في استقرار حياة الإنسان وسعادته، فقد ورد التأكيد على ضرورة اختيار الجار، ففي الحديث المعروف عن أمير المؤمنين (ع): "سلْ عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار"[7].

 

 

4-  شعار أخوّة الدين .. "رحماء بينهم"

 

ولو انطلقنا إلى دائرة الأخوان في الدين، فإنّ توصيفهم القرآني بأنّهم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، كافٍ للتدليل على نوعيّة العلاقة التي لا بدّ أن تحكم المجتمع الإيماني، وهي علاقة التحابّ والتراحم، ومحبّة الأخ لإخوانه هي حقّ من حقوقهم عليه، كما جاء في الحديث الشريف المتضمّن لبيان حقّ

المؤمن على أخيه المؤمن: "أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها"[8]، وهذا الحديث يقدّم لنا قاعدة هامة على صعيد ضبط حركة المشاعر تجاه الآخرين، ومفاد هذه القاعدة أنّ على الإنسان أن يجعل من نفسه ميزاناً يحكم العلاقة بينه وبين غيره من الناس ولا سيما الإخوان،

ويحدّد على ضوء ذلك كيفيّة تعاطيه معهم، فما يحبّ أن تتعامل به الناس معه، فليتعامل به معهم، وما يكره أن يعاملوه به فليحرص أن لا يتعامل به مع الآخرين.

 

وإنّه لخلل كبير في إيمان الإنسان الذي يحمل في قلبه الكراهية والحسد والضّغينة لإخوانه المؤمنين، فإنّ الإيمان لا بدّ أن يدفع نحو التآخي والتآلف والتّراحم، وأن يساهم في تطهير القلب من الضغائن والأحقاد، قال تعالى في الحديث عن المؤمنين: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا

مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال 63].

 

 ويشير حديث شريف إلى أنّ محبّة المؤمن لأخيه المؤمن هي من شُعَب الإيمان، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شُعَب الإيمان.."[9].

 

وفي ضوء هذا، فإنّ ميزان صدق الإيمان لدى الفرد أو الجماعة لا يكون بكثرة المزاعم والادعاءات أو بمجرد الاكتفاء بالمظاهر والشكليّات، وإنّما يكون بمقدار تَمَثُّلِ قيمِ المحبّة والتراحم وانعكاسها في سلوك الفرد والجماعة، وقد سئل الإمام أبو الحسن موسى الكاظم (ع): أيّنا أشدّ حبّاً لدينه؟ قال:

"أشدّكم حبّاً لصاحبه"[10].

 

ويؤسفني القول: إنّ مجتمعنا الإيماني - على مستوى الظاهرة - بعيد عن هذه القيم الأخلاقية، بدليل ما نراه من انتشار للضغينة والتحاسد والتباغض بين أبناء هذا المجتمع .

 

وتذكر بعض الروايات ميزاناً جميلاً للتفاضل بين مؤمن وآخر، وهو ميزان مأخوذ من مبدأ الحبّ عينه، فمن كان منهما أشدّ حبّاً لصاحبه فهو أكثر إيماناً، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "ما التقى مؤمنان قطّ إلاّ كان أفضلهما أشدّهما حبّاً لأخيه"[11].

 

 

5-  الحبّ وتحطيم الحواجز مع الآخر

 

 ولو انطلقنا إلى الدائرة الإنسانية الأوسع، وهي دائرة علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، فإنّ قيمة الحبّ في هذه الدائرة أيضاً هي الكفيلة بفتح قلوب الناس بعضها على البعض الآخر، وتحطيم السدود وتذليل الصعاب ورفع الحواجز فيما بينهم، ما يساهم في تخفيف النزاعات والتوترات والأحقاد

ويساعد – أيضاً - على تنظيم الاختلافات وحسن إدارتها، ومن هنا دعت تعاليم الأنبياء(ع) كافّة، وعلى رأسهم النبيّ الخاتم محمّد (ص) إلى عدم وضع السدود مع الآخرين، بل أكّدت وصاياهم على ضرورة اختراق الحواجز المذهبيّة والطائفيّة والعرقيّة وغيرها بغية الوصول إلى جميع الناس.

 

 وإذا كان المسلم يعتقد أنّ دينه هو خير دين، وأنّه يحمل من المفاهيم العقديّة والتشريعيّة والأخلاقيّة ما يمثّل خشبة الخلاص للإنسانيّة، فإنّ هذه القناعة وإن كانت حقاً بالنسبة إليه إلاّ أنّه لا يتسنى له فرضها على الآخرين بالقوة أو باستخدام أساليب العنف سواءً الجسدي أو الكلامي، بل الطريق

الأمثل لذلك هو إقناع الآخرين بها، وأفضل طرق الإقناع هي الطريق التي تحبّب الآخر بك وتفتح قلبه عليك، فإذا أحبّك أصغى إليك واستمع إلى كلامك واقتنع بحجتك.

 

ولا شكّ أنّ دعوة الأنبياء والرسل (ع) ما كان لها أن تنتشر وتلقى الصدى الطيب والواسع في نفوس هذا العدد الكبير من النّاس على مرّ التاريخ إلاّ لأنّهم (ع) – بالإضافة إلى انسجام دعوتهم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها- كانوا أصحاب قلوبٍ كبيرة تحمل الحبّ للإنسان وتعيش همّ هدايته

ويقلقها كثيراً انحرافه عن خطّ الإيمان أو عن جادة الشريعة أو ابتعاده عن مكارم الأخلاق.

 

 وهذا ما كان عليه نبيّنا الأكرم (ص)، كان صاحب القلب المفعم بالحبّ لكلّ الناس ممّن يؤمنون به أو يخاصمونه، وكان يؤلمه كثيراً أن لا يصغي بعض الناس إلى دعوته ويواجهونه بالجحود والاستهزاء، حتى أنّ الله تعالى كان يخفّف عليه (ص) ويُهَدِّأُ من روعه ويدعوه إلى أن يرحم نفسه وأن لا

يحزن كثيراً ولا يأسف لإعراض قومه عن الهدى والحقّ، قال تعالى مخفّفاً عليه (ص): {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى} [طه 1 - 2].

 

 ودعاه في آية أخرى أن لا يعيش الألم والحسرة بسبب عدم إيمان قومه برسالته، قال تعالى: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء 3]، والبخوع هو إهلاك النفس من شدة الغمّ والوجد والحزن.

 

وهذا الحبّ والاشفاق وذاك الألم والغمّ بسبب ابتعاد الناس عن طريق الهدى قد انعكس على أساليب الدعوة التي انتهجها الأنبياء (ع)، فكانت أساليب محبَّبة غير منفِّرة، عنوانها الحكمة وشعارها الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم

بالتي هي أحسن} [النحل 125]، وأسلوب اللين في الدعوة إلى الله هو مبدأ أساسي لا مجال لتخطيه على الإطلاق، بل ينبغي اعتماده حتى مع العتاة والطغاة، فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ

يَخْشَى} [طه 43، 44].  

 

 

6- الحاكم وضرورة حبّ المواطنين

 

وعلى مستوى علاقة الحاكم أو المسؤول بالمواطنين أو ما قد يُصطلح عليهم بـ"الرعيّة"، فإنّ المطلوب منه أن يعيش الحبّ لهم، وأن يهتّم لقضاياهم ولأوجاعهم وأحزانهم ومعاناتهم. صحيح أنّ شخصيّة الحاكم لا بدّ أن تتحلّى بالحزم والثبات، لكن على أن لا يتحوّل هذا الحزم إلى قسوة أو ظلم أو

انتقام، وعلى أن لا يتحوّل الثبات إلى استبداد واستكبار. إنّ الحاكم عندما يحبّ الناس سيكون ذلك أدعى لأن يعدل بينهم ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ويهتمّ لأمورهم ويسهر على متابعة مشاكلهم وإيجاد الحلول اللازمة لمعاناتهم والتفكير في أفضل السبل لإسعادهم. وأما إذا لم ينبض قلبه بحبّ الناس،

فلن يهتمّ بهم ولن يصغيَ إلى همومهم ولن تعنيه أوجاعهم شيئاً ولن يصغي إلى شكايتهم، يقول أمير المؤمنين علي (ع) في عهده المعروف لمالك الأشتر: "وأشعِرْ قلبَكَ الرّحمةَ للرعيّةِ والمحبّةَ لهم، واللطفَ بهم، ولا تَكُونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنمُ أَكْلَهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لكَ في الدينِ، أو

نظيرٌ لكَ في الخَلْق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويُؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطْهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه"[12].

 

 وما كان عليّ (ع) ليوصي مالك الأشتر أو غيره من الولاة والموظفين بهذه الوصيّة الداعية إلى حبّ الناس واللطف بهم إلاّ لأنّه (ع) كان يعيش هذه المعاني العالية ويحمل هذه القيم السامية.

 

والحقيقة أنّ ما جاء في عهد عليّ(ع) المذكور إلى مالك الأشتر عندما ولاّه مصر ليس مجرّد وصيّة حاكم إلى جهازه التنفيذي والإداري، فإنّ العهد المذكور هو نصّ قانونيّ بامتياز ووثيقة دستورية تُعتبر من أهم الوثائق القانونيّة في الفقه الدستوري والسياسي الإسلاميّ، ولذا لم تخطئ الأمم المتحدة

ممثّلة برئيسها "كوفي أنان" عندما دعت إلى اعتماد العهد المذكور كأحد مصادر التشريع الدولي.

 

وفي ضوء الوثيقة القانونيّة المتقدّمة لأمير المؤمنين (ع) يكون من المهمّ جدّاً بل من اللازم أن يُراعى ما جاء فيها ويؤخذ كمعيار في اختيار الموظفين في جهاز الدولة، ولا سيّما الأفراد الذين يقتضي عملهم أن يكونوا على تماسٍ مباشر مع الناس، وذلك بأن يكون هؤلاء من أصحاب الابتسامة

والوجه البشوش، وأن يتجنبوا العبوس في وجه الناس، فضلاً عن التعامل الفظّ معهم أو الإغلاظ لهم بالقول أو الفعل، لأنّ الموقع الذي يجلس فيه الموظف ليس ملكاً شخصيّاً له، كما أنّ الناس ليسوا عبيداً عنده، فيجدر بالموظّف في جهاز الدولة أن يعلم أنّه خادم للناس، وأن يحترم مشاعرهم

وكرامتهم،  وليس مسموحاً له على الإطلاق أن يخدش مشاعرهم أو يهين كرامتهم أو يسيء إلى إنسانيتهم، وفي الوقت عينه يجدر بعامة الناس احترام هذا الموظف ورعاية مشاعره، ويحرم عليهم التطاول عليه أو تحقيره وإهانته.

 

إنّ الحاكم الذي لا يمتلك عاطفة جيّاشة تغمر قلبه بحبّ الناس ومداراة مشاعرهم هو حاكم لا يرجى عدله، ولو أنّك دخلت إلى حياة معظم الطغاة والظالمين لاكتشفت أنّ ما أوصلهم إلى ما هم عليه من العدوانيّة تجاه الناس هو أنّ ثمّة نقصاً ما في العواطف الإنسانيّة لديهم، وربّما تعرضوا في سِنِيّ

عمرهم الأولى إلى اعتداء ظالم أو إجحاف أو نقص عاطفيّ، الأمر الذي تحوّل عندهم إلى حقد دفين على المجتمع الذي ظلمهم ولم يهتمّ بهم، ولذا فإنّ ما يرتكبونه بعد ذلك من جرائم هو – من حيث يشعرون أو لا يشعرون- ردّة فعل على ما حصل معهم وتعرضّوا له من ظلم.

 

 

هذا المقال جزء من المحور الأول من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟"

نُشر على الموقع في 29-7-2015

 

 


[1] الكافي ج 5 ص 567 ، وقريب منه ما رواه الصدوق في كتاب: من لا يحضره الفقيه ج 1 ص122.

[2] الكافي ج5 ص569.

[3] الكافي ج6 ص50.

[4] المحاسن للبرقي ج1 ص293.

[5] الصحيفة السجادية، من دعائه (ع) لأبويه.

[6] وسائل الشيعة ج 11 ص 434، الباب 49 من أبواب آداب السفر الحديث 4.

[7] الكافي ج 8 ص 24، ونهج البلاغة ج 3 ص 56.   

[8] هذا الحديث في المقطع الأول منه مروي عن رسول الله(ص)، انظر: صحيح البخاري ج 1 ص 9، وصحيح مسلم ج1 ص 26، ومروي بأجمعه وبالصيغة المذكورة أعلاه عن أمير المؤمنين (ع) انظر: المحاسن للبرقي ج 1ص 10.

[9] الكافي ج2 ص125.

[10] الخرائج والجرائح للرواندي ج1 ص 411.

[11] الكافي ج2 ص27.

[12] نهج البلاغة ج 3 ص 84، ويفرط: يسبق، والزلل: الخطأ، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ: أصله تأتي السيئات على أيديهم، أنظر: شرح الشيخ محمد عبدة للفقرة المذكورة.

 

 

 

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon