حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> متنوعة
تنزيه زوجات الأنبياء(ع) على ضوء الروايات
الشيخ حسين الخشن



تنزيه زوجات الأنبياء(ع) على ضوء الروايات

 

والروايات الواردة في الموضوع يمكن تصنيفها إلى صنفين:

 

أحدهما: الروايات النافية لصدور الزنا من زوجة النبي(ع).

 

الثاني: الروايات التي يمكن اعتبارها مثبتة لذلك.

 

فلا بدّ من ملاحظة هذين الصنفين، لنرى مدى دلالتهما على المدَّعى.

 

 

الصنف الأول: كرامة الرسول(ص) على الله تعالى

 

في هذا الصنف من الأخبار والآثار نستعرض الشواهد الروائية التي يمكن الاستشهاد بها على نفي صدور الفاحشة من زوجات الأنبياء(ع)، ولا سيّما زوجة النبي الخاتم)ص):

 

الرواية الأولى: ورد في بعض كتب التاريخ خبراً يتصل بقضية الإفك، وينصّ هذا الخبر على أنّ الإمام عليّاً(ع) دخل على النبي(ص) "فاستشاره(ص)، فقال علي كرّم الله وجهه: أخذت براءة عائشة من شيء، هو أنا صلّينا خلفك وأنت تصلي بنعليك، ثم إنّك خلعت إحدى نعليك، فقلنا: ليكون ذلك سنة لنا، فقلت: لا، إنّ جبرائيل(ع) أخبرني أنّ في تلك النعل نجاسة، فإذا كان لا تكون النجاسة بنعليك فكيف تكون بأهلك؟ فسُرَّ(ع) بذلك".

 

وهذه الرواية وإن لم يتسن لنا التثبت من صحتها، ولكن حيث إنّه ليس ثمة ما يمنع من صحتها فإنّها تصلح لتأييد ما تقدّم وما سيأتي.

 

الرواية الثانية: ما اشتهر لدى علماء الفريقين وتداولته مصادرهما مروياً ومنقولاً عن ابن عباس، أنّه قال: "ما زنت زوجة نبي قط".

 

وإنّ ابن عباس وإن كانت له آراء خاصة في التفسير أو غيره، لكننا نرجح أن لا يكون ما قاله هنا مجرد رأي خاص له، وإنما هو رواية عن المعصوم(ع)، وذلك لأنّ نفيه القاطع أن تكون أية امرأة منئ زوجات الأنبياء(ع) قاطبة قد زنت من المستبعد صدوره من شخص غير متصل بالوحي، لأنّ ابن عباس مادام غير معاصر إلاّ لنبي واحد من الأنبياء(ع)، وهو نبينا محمد(ص)، فأنى له أن ينفي ذلك عن جميع الأنبياء(ع)؟! فلا بدّ أن يكون قد أخذ ذلك، إمّا عن رسول الله(ص)، أو عن أمير المؤمنين علي(ع)، وإلاّ كان كلامه رجماً بالغيب.

 

وخلاصة القول: إنّ رأي ابن عباس وإن لم يكن في نفسه حجة، ولكن من غير المستبعد أن يكون قد استند في رأيه هذا على ما سمعه، إمّا من رسول الله(ص) أو من أمير المؤمنين(ع)، وذلك لأنّ التعبير الوارد عنه لا يوحي بأنّه يبدي رأياً شخصياً له، أو أنّه يمثّل قناعة خاصة به تعتمد على إيمانه  عقلاً  باستحالة أن يصدر الزنا عن زوجة النبي(ع)، فإنّ هذا المعنى لو كان مراداً لابن عباس لما عبّر عنه بهذا الأسلوب الحاكي عن الماضي، وأنّه "ما زنت زوجة نبي من الأنبياء قط"، فهذا لسان إنّما يستخدمه من يمتلك علماً بأحوال الماضين، وهذا العلم ليس متوافراً، ولا سيّما بلحاظ أدوات ذاك الزمن ووسائله المعرفية، إلاّ عند الأنبياء(ع)، ما يعني أن ابن عباس أخذ ذلك من رسول الله(ص) أو من باب مدينة العلم الإمام علي(ع).

 

ومما يؤيّد ما رجّحناه في أن يكون ابن عباس استقى مضمون الرواية عن مصدر الوحي أنّ حديث ابن عباس هذا نُقل في بعض المصادر مرسلاً إلى رسول الله(ص)، فعن بعضهم أنّ النبي(ص) قال: "إنّه ما زنت امرأة نبي قط"، قال القاضي أبو محمد: "وهذا الحديث ليس بالمعروف، وإنّما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه، ويعضده شرف النبوة" وهكذا رواه في الدر المنثور عن بعضهم عن رسول الله(ص).

 

الرواية الثالثة: ما ورد في قصة مارية القبطية، فقد أثير لغط حول عفتها وشرفها، ونالتها الألسن واتهمتها بابن عمها جريج القبطي الذي كان يزورها ويتردد عليها، وقد كلّف رسول الله(ص) أمير المؤمنين علياً (ع) بملاحقة جريج، وبعد تعقّب الإمام(ع) له وملاحقته هرب جريج وصعد إلى نخلة، ثمّ ما لبث أن سقط عنها وانكشفت عورته، فوقع نظر الإمام(ع) عليه فإذا هو أمسح، فقفل الإمام(ع) راجعاً وأخبر النبي(ص) بذلك، فقال النبي(ص): "الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت".

 

وفي رواية أخرى أنّه(ص) قال: "الحمد لله الذي نزهنا أهل البيت عما يرمينا به أشرار الناس من السوء".

 

وخبر مارية هذا معروف ومشهور، وقد تناقلته كتب الأخبار والتواريخ، وقد تثار حوله بعض الأسئلة أو علامات الاستفهام كما سيأتي في المحور السابع، وهو ما دفع الشيخ المفيد(ره) إلى تأليف رسالة خاصة في ذلك، فراجع.

 

واللافت أنّ النبي(ص) قد استخدم  طبقاً لبعض الروايات  فعل المضارع وليس الماضي، فقال: "الحمد لله الذي يصرف عنّا السوء"، وهو دال على استمرار هذا اللطف الإلهي بنبيّه(ص).

 

الرواية الرابعة: ما روي عن أبي عبد الله(ع): "..قد اشتكى رسول الله(ص) يوماً فقالت عائشة: بك ذات الجنب، فقال: أنا أكرم على الله(عز وجل) من أن يبتليني بذات الجنب.."

 

قال القرطبي: "وذات الجنب هو الوجع الذي يكون في الجانب المسمى بالشوصة، وقال الترمذي: هي السّل، وفيه بُعْدٌ، والأول هو المعروف، وقال ابن الأثير: ذات الجنب هي الدبيلة والدّمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب، فتنفجر إلى داخل، وقلّما يسلم صاحبها".

 

والشاهد في هذا الخبر أنّه إذا كان النبي(ص) أكرم عند الله تعالى من أن يبتليه بمرض معين، كمرض ذات الجنب، فهو أولى بأن لا يبتليه تعالى بخيانة بعض زوجاته وارتكابهن الفاحشة.

 

الرواية الخامسة: ما رواه الكليني في الكافي بإسناده إلى زرارة، في رواية تنقل لنا حواراً جرى بين زرارة وبين أبي جعفر الباقر(ع) بشأن حكم الزواج من النساء اللاتي لا يتولّين خط أهل البيت(ع) أو لا يعرفنهم، فقد كان زرارة متشدداً في رفض هذا الأمر، ولذا فقد أخّر زواجه، لأنّه لم يجد المرأة العارفة الموالية، بينما كان الإمام الباقر(ع) موسعاً في الأمر ويرى  ورأيه الحق  أنّ

الزواج هو على الشهادتين فقط، وقد قال له الإمام في هذا الحوار كما يحدثنا زرارة نفسه: "قد كان رسول الله(ص) تزوّج، وقد كان من امرأة نوح وامرأة لوط ما قد كان، إنهما قد كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فقلت: إنّ رسول الله(ص) ليس في ذلك بمنزلتي إنّما هي تحته وهي مقرّة بحكمه، مقرة بدينه، قال: فقال لي: ما ترى في الخيانة في قول الله تعالى {فَخَانَتَاهُمَا} إلاّ الفاحشة؟! وقد زوّج رسول الله(ص) فلاناً.."

 

فإنّ قول الإمام(ع) بناءً على صحة الرواية  لزرارة: "ما ترى في الخيانة في قول الله تعالى: بز ںبر إلاّ الفاحشة!"، وارد على سبيل الإنكار على زرارة، فهو(ع) يريد القول له: إذا كان المبرر للزواج - بنظرك يا زرارة - هو انسجام الزوجة مع معتقد زوجها أو أن تكون مقرّة بدينه ومنقادة لحكمه، فكيف تفسر بقاء العلاقة الزوجية بين نوح ولوط وبين زوجتيهما، والحال أنّ هاتين المرأتين كانتا متمردتين على زوجيهما وغير منقادتين لهما، وهذا هو معنى الخيانة التي نصّ عليها القرآن، إلاّ أنْ تُفَسِّرَ  يا زرارة  الخيانة بالفاحشة المعلومة، وهي الزنا وهذا تفسير مستنكر ومرفوض!

 

هذا هو المستفاد من الرواية، لا ما توهمه بعض من لا بصيرة له ولا قدرة له على التدبر في الأحاديث الشريفة وفهم مراميها والإحاطة بمضامينها، وما استظهرناه من الرواية هو ما يفهمه كل من يمتلك سليقة سليمة وذائقة عربية مستقيمة، كما نلاحظ لدى شرّاح الحديث من كبار الأعلام:

  1. يقول الفيض الكاشاني في تعليقه على الرواية: "وقوله(ع): "ما ترى في الخيانة في قول الله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} إلاّ الفاحشة!" استفهام إنكار، يعني أنّك زعمت أنّ المراد بالخيانة هو الزنا، وليس ذلك كذلك، بل المراد الخروج عن الدين وطاعة الرسول".

 

  1. ويقول العلامة المازندراني في شرح الحديث: "وخيانة المرأتين ليست هي الفجور، وإنما هي نفاقهما وإبطانهما الكفر.. وليس المراد بالخيانة البغي، إذ ما زنت امرأة نبي قط، وذلك هو المراد بقوله(ع) ما ترى في الخيانة في قول الله تعالى {فَخَانَتَاهُمَا} إلاّ الفاحشة!" وهي كل ما يشتدّ قبحه من الذنوب والمعاصي، والمراد بها النفاق والمخالفة والكفر، وفيه ردّ لقول زرارة: "وهي مقرّة بحكمه مقرة بدينه"، إذ علاقة الزوجية لا تستلزم ذلك.."

 

  1. ويقول العلامة المجلسي: "قوله(ع): "ما يعني بذلك إلاّ الفاحشة"، يحتمل وجهين:

 

الأول: أن يكون استفهاماً إنكارياً، فالمراد بالفاحشة الزنا، كما هو الشايع في استعمالها.

 

والثاني: أن يكون نفياً، ويكون المراد بالفاحشة الذنب العظيم، وهو الشرك والكفر، كما قال المفسرون في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، وهو أظهر، وهو رد لقول زرارة: "وهي مقرة بحكمه ودينه: إذ علاقة الزوجية لا تستلزم ذلك لظهور الفاحشة منهما".

 

وفي ضوء ما تقدم يتضح لك أنّ ما فعله بعض المشبوهين المنتحلين لصفة العلم والدفاع عن خط أهل البيت(ع) من التصرّف في الحديث المتقدم عن الإمام الباقر(ع) وتفسيره وكأنّ الإمام(ع) يقول: إنّ المقصود بالخيانة في قوله {فَخَانَتَاهُمَا} الفاحشة، إنّ ما فعله هذا البعض هو الخيانة بعينها، خيانة الله سبحانه وخيانة رسوله الأكرم(ص) باتهام زوجته بارتكاب الزنا وخيانة الأئمة(ع)بالتلاعب بأحاديثهم وعدم نقلها كما وردت عنهم.

 

الرواية السادسة: ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) في حق السيدة عائشة، فإنه وبعد انتهاء معركة الجمل تحدَّث قائلاً "أما فلانة فقد أدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها .. وهي بعد على حرمتها الأول".

 

فإنّه لو كان الأمر كما يزعمه الجاهل المفتري على رسول الله(ص) من أنّ زوجته ارتكبت الفاحشة في طريق البصرة، فكيف تبقى  بنظر الإمام علي(ع) على حرمتها الأولى، وهي حرمتها التي اكتسبتها من زوجيّتها لرسول الله(ص)؟! وأي حرمة تبقى لها بعدما فعلت ما فعلت؟!

 

إنّ خروج السيدة عائشة للقتال في حرب الجمل، مع أنّها مأمورة بنصّ الكتاب في أن تقرّ في بيتها لم يكن  على خطورته وما جرّه على الأمة من ويلات  في نظر علي(ع) موجباً لسقوط حرمتها المنطلقة من زوجيّتها لرسول الله(ص)، لكنّ ارتكابها  لا سمح الله  لما ينافي العفة والشرف موجب بكل تأكيد لسقوط حرمتها تلك، لأنّ فعلها هذا  على فرض حدوثه  يمثّل خيانة لله ولرسوله ولعهد الزوجية، ولأمومة المؤمنين التي جعلها القرآن لنساء النبي(ص) في قوله عزّ من قائل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].

 

الرواية السابعة: ما رواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا(ع) بسند صحيح عن الحسن بن علي الوشاء عن الإمام الرضا(ع): قال:

"قال أبي(ع): قال أبو عبد الله(ع): إنّ الله تعالى قال لنوح:  {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ، لأنه كان مخالفاً له، وجعل من اتبعه من أهله.

 

قال: وسألني: كيف تقرأون هذه الآية في ابن نوح؟

 

فقلت: تقرأها الناس على وجهين: إنّه "عَمَلٌ غيرَ صالح"، وإنّه "عَمِلَ غيرَ صالح".

 

فقال: كذبوا هو ابنه، ولكن الله تعالى نفاه عنه حين خالفه في دينه".

 

وقد تقدّمت هذه الرواية سابقاً في البحث القرآني، وَغَرضُنَا من إعادة ذكرها هنا الإشارة إلى أنّ الإمام(ع) عندما صدر منه تكذيب القراءة الأخرى للآية، فليس هدفه هو مجرد بيان خطأ القراءة، وإنّما محطّ نظره أنّها قراءة تفتح باب الاحتمال على أن تكون زوجة نوح قد ارتكبت الفاحشة وأنجبت ولداً على فراشه وهو أجنبي عنه! فهذا ما يكذّبه الإمام(ع)، كما يدل عليه تفسيره وبيانه(ع) لوجه الكذب، حيث قال: "كذبوا، هو ابنه ولكن الله تعالى نفاه عنه حين خالفه في دينه"،فالمسألة إذن ليست في مجرد حصول خطأ في القراءة، وإنّما فيما يترتب على ذلك من عدم نظافة بيت نبي من الأنبياء وهو نوح(ع). وهذا الأمر بطبيعة الحال  يجري في سائر الأنبياء(ع) ولا يختص بنوح(ع).

 

وبعبارة أخرى: إنّ تكذيب الإمام(ع) للقول بنفي الولد حقيقية عن نوح(ع) ليس إلاّ لخصوصية النبوّة في نوح(ع)، وليس لخصوصية في شخص نوح(ع).

 

الشاهد الأقوى

 

وثمة شاهد آخر يمكن الاستناد إليه لنفي هذه التهمة الباطلة عن عرض رسول الله(ص)، وهذا الشاهد يعتمد على مبدأ عقلائي، وهو أنّ الأحداث الحساسة المتصلة بالشخصيات المشهورة لا بدّ أن تنعكس في وسائل الإعلام ويتداولها الرواة والمحَدِّثون بشكل يتناسب وحجم الحدث وخطورته، ومن الواضح أنّ عملاً كهذا  أعني ارتكاب زوجة النبي(ص) لما ينافي العفة والشرف  ليس حدثاً عادياً ولا بسيطاً، وإنما هو حدث خطير لا بدّ أن يهتزّ له المجتمع الإسلامي برمته، فلو حصل شيء من ذلك للاكته الألسن وتناقلته الرواة وسجّلته صفحات التاريخ، مع أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل؟!

 

كيف ونحن نعلم أنّ حادثة الأفك المشهورة التي رميت به زوجة الني(ص) في غزوة بني المصطلق قد هزّت المدينة المنوّرة بأجمعها وشغلت الرأي العام، ولم يتوقف اللغط في الموضوع حتى نزل الوحي من السماء ساطعاً ومعلناً براءتها، فخرست الألسن وسكنت الهمهمات، وعليه فكيف تمرّ حادثة مماثلة لها وهي حادثة ارتكاب الزوجة نفسها  على المشهور  للفاحشة مع أحد صحابته المعروفين في طريق البصرة مرور الكرام دون أن تثير لغطاً ولا تحرك ساكناً؟!

 

ثمّ أين موقف الإمام علي(ع) من هذه القضية؟ هل يُعقل أن يظلّ ساكتاً وصامتاً على أمر كهذا وهو الذي كان له موقف معروف في حادثة الأفك الأولى على ما تذكر الروايات؟! إنّ من واجب الإمام(ع) أن يقيم حدّ الله على العصاة أيّاً كانوا، فإن ثبت عنده بالبينة الشرعية وقوعها  لا سمح الله  في الحرام فعليه أن يقيم عليها حد الزنا، وإن لم يثبت ذلك عنده فعليه أن يقيم حدّ القذف على من اتهمها ورماها بذلك، وكل ذلك لم يحصل، وعلي(ع) كما هو معروف عنه لم يكن يمالئ ولا يداهن في تطبيق شريعة الله، حتى مع الأقربين، وهو الأمر الذي أفقده الكثير من الناس الذين انفضوا من حوله ولم يطيقوا عدله!!

 

ثمّ أين موقف سائر الصحابة والتابعين؟! ولماذا لم يتمّ توظيف هذا الأمر من قبل الخط المقابل والمناوئ لقادة حرب الجمل، بهدف التأثير على نتائج المعركة، أو بهدف الانتصار لمواقفهم وخطهم؟!

 

وأين ألسنة المنافقين والفاسدين لم نجدها تشهّر بهذا الأمر وتستغل الحدث للتشكيك في رسول الله(ص)!؟

 

وإذا قلت: إنّ الإمام عليّاً(ع) وصحابته لم يكونوا على دراية بالأمر ولم يطّلعوا عليه، ولذا لم يعمد الإمام(ع) إلى تطبيق الحد الشرعي على طرفي المعصية، كما أنّ الآخرين بمن فيهم أعداء الإسلام والمنافقون لم يتناولوا هذا الأمر، لعدم معرفتهم به، لأنّ عملاً كهذا إنما يحصل في سرية تامة.

 

قلت: إنّه وتماشياً مع هذا القول فإذا كان المعاصرون للحدث غير عارفين به ولا مطلعين عليه، فما الذي أدرى بعض المتأخرين بذلك، ولا سيّما بعد مضي مئات السنين على القضية المزعومة، أفهل كُشِفَ لهم الغطاء وامتلكوا مفاتح الغيب، واطّلعوا على ما لم يطّلع عليه المعنيون بالحادثة والمعاصرون لها؟!

 

وإن قيل: إنّ علياً(ع) وغيره من الصحابة كانوا عالمين ومطلعين على ما جرى ولكنهم سكتوا عن الأمر، احتراماً لرسول الله(ص) ورعاية لحقه، أو خشية إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.

 

فالجواب: إنّ هذا الكلام لعجيب للغاية، لأنّه إذا ثبت لدى الإمام(ع) بوجه شرعي ارتكابها للفاحشة فلا يجوز له التغاضي عن تطبيق حد الله؛ والسكوت عن تطبيق حدّ الله هو الأمر الذي يسيء إلى رسول الله(ص) وليس العمل بسنته، كما أنّ تطبيق الحدّ لا يشيع الفاحشة بل هو يساهم في محاصرتها؛ لما له من قوة ردع يتركها في النفوس، وأما إذا لم يثبت لديه ذلك فيكون سكوته والحال هذه تطبيقاً لحكم الله تعالى القائل: {لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، وعليه فالأحرى بنا  إذا كان علي(ع) هو قدوتنا  أن نسكت كما سكت(ع)، وأن نلتزم شرع الله كما التزم، وأن نحفظ حرمة رسول الله(ص) كما حفظ(ع).

 

وخلاصة القول: إنّ حدثاً بهذه الخطورة والأهمية لا يمكن أن يخفى أو يتمّ التستر عليه بسهولة، أو تتناساه الذاكرة الشعبية، وبالتالي لا يمكن الاستناد في إثبات ذلك إلى خبر يرويه بعض الأشخاص مهما كان جليلاً، فإنّ طبيعة الحدث تفرض أن يُنقل إلينا  لو كان ثابتاً  على نحو التواتر أو الاستفاضة، لا أن يتفرّد بنقله بعض الأشخاص المجهولين.

 

الصنف الثاني: تبديد الوهم

 

وأما مستند التوهم بارتكاب زوجة الني(ص) لما ينافي العفة والشرف، فهو بعض الروايات:

 

الأولى: رواية تفسير القمي

 

قال علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: {رَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} فقال: "والله ما عنى بقوله: {فَخَانَتَاهُمَا} إلاّ الفاحشة، وليقيمنَّ الحدَّ على فلانة فيما أتت في طريق البصرة، وكان فلان يحبها، فلمّا أرادت أن تخرج إلى البصرة قال لها: لا يحلّ لك أن تخرجي من غير مَحْرَم، فزوّجت نفسها من فلان".

 

وهذه الرواية هي العمدة فيما يراد إلصاقه بالشيعة الإمامية - كذباً وزوراً - بأنّهم يتهمون زوجة النبي بارتكاب الفاحشة الموصوفة يوم البصرة.

 

وربما تؤيّد تلك الرواية بما جاء في بعض الأخبار من أنّ الشخص المشار إليه فيها كان قد صرّح في حياة النبي(ص) بأنّه يرغب بالزواج من عائشة بعد وفاة الني(ص)، فقد روي أنّه بعد نزول قوله تعالى: {إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] "قال رجل من الصحابة: ما بالنا نُمنع من الدخول على بنات عمنا! والله لئن حدث أمر لأتزوجنّ عائشة!".

 

يقول السمعاني في تفسيره بعد ذكر ذلك: "والأكثرون على أنّ القائل لهذا طلحة بن عبيد الله"، وإثر هذا القول نزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53].

 

ولكن هذا الحديث المروي في تفسير القمي ضعيف للغاية، وهو مردود ومرفوض رفضاً تاماً وقاطعاً ولا يصح الاعتماد عليه، وذلك للاعتبارات التالية:

 

أولاً: إنّه حديث مقطوع لم ينته إلى واحد من أئمة أهل البيت(ع) أو صحابة رسول الله(ص)، بل إنّه ينتهي إلى علي بن إبراهيم القمي، صاحب التفسير المعروف بتفسير القمي، وهو من أعلام الشيعة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ومن المعلوم والبديهي أنّ رأي علي بن إبراهيم  لو سلّمنا أنّ ذلك هو رأيه  ليس حجة على أحد، فهو ليس معصوماً، كما أنّه لم ينسب الحديث إلى إمام، وقوله ليس حجة على أحد ولا يُلزم الشيعة بشيء، ولا تصحّ نسبة رأي شاذ إلى طائفة بأجمعها، خصوصاً إذا نصّ أعلام هذه الطائفة على بطلان هذا الرأي، كما سيأتي عند استعراض كلماتهم.

 

ثانياً: إنّ "تفسير القمي" لا يُوثق بكل رواياته ولا يُعتمد عليها، لما هو معلوم من حصول الزيادة فيه مما ليس منه، فالتفسير الموجود باسم "تفسير القمي" ليس بأجمعه صادراً عن القمي، بل هو ملفق من تفسير علي بن إبراهيم القمي وتفسير أبي الجارود، زياد بن المنذر، وهو رجل مذموم وغير معتمد عليه، وعليه فإنّ "الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جداً، خصوصاً مع ما فيه من الشذوذ في المتون"، ولا سيما أنّه لا يمكننا الوثوق بكون كل ما في التفسير هو من رأي علي بن إبراهيم القمي، فربما كان من الزيادات التي أضيفت على هذا التفسير.

 

ثالثاً: إنّ القائلين باعتبار تفسير القمي لا يأخذون بكل رواياته، وإنّما يلاحظون كل رواية على حدة فيأخذون بها إن استجمعت شرائط الحجيّة، ويرفضون ما لا تتوفر فيه شروط الاعتبار، ومن ذلك هذه الرواية التي هي محل الكلام، فقد صرّح العلامة المجلسي بأنّها رواية "شاذة مخالفة لبعض الأصول"، وبشهادة السيد نعمة الله الجزائري فإنّ كثيراً من أصحابنا استنكفوا حتى عن الاستماع إلى هذا الخبر وأعرضوا عن قبوله.

 

رابعاً: إنّ الخبر وبصرف النظر عن كونه ضعيفاً متهالكاً  كما أسلفنا  لا يُنسب إلى زوجة النبي(ص) عائشة أنّها فعلت الفاحشة الموصوفة، وإنّما يشير إلى أنّها أُوهمت من قبل البعض بأنّه لا يجوز لها الخروج من دون محرم، فزوّجت نفسها من أحدهم، ليتسنى لها الخروج دون الوقوع في مشكلة شرعية، فما جرى هو عقد زواج عليها، وليس علاقة سفاح لا قدّر الله.

 

وهذا المضمون الذي اشتملت عليه الرواية رغم بطلانه، لما هو معلوم من حرمة الزواج بنساء النبي(ص) كما نصّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، لكنّه أقلّ شناعة وبشاعة من اتهام زوجته(ص) بارتكاب الزنا.

 

خامساً: إنّ المضمون المشار إليه سابقاً  ولو كان أقل شناعة من اتهامها بالزنا  لكن هناك أكثر من علامة استفهام تعترضه وتستبعد حصوله، لأنّه يعالج المشكلة بطريقة واضحة البطلان، ولا حاجة إليها، الأمر الذي سيقود إلى الاستنتاج أنّ الرواية المذكورة موضوعة ولا أساس لها من الصحة، وتوضيح ذلك:

 

أنّه لو كانت المعضلة في خروج عائشة إلى حرب الجمل، هي في إيجاد مخرج "شرعي" لمشكلة سفر المرأة بدون محرم، كما يبدو من الرواية، لهان الخطب على من يسعى أو يرغب بإخراجها إلى تلك المعركة، إذ لا معضلة في البين، لأنّ المحرم الذي يمكنها أن تصطحبه معها متوفر، وهو عبد الله بن الزبير ابن أختها أسماء بنت أبي بكر، فقد كان موجوداً وحاضراً في تلك المعركة، بل لعب دوراً في إقناع السيدة عائشة في الخروج إليها، إلاّ أنّ السؤال الذي يفرض نفسه في المقام معترضاً أولئك الذين يفكّرون بالمخارج والتبريرات "الشرعية" هو أنّه لو أمكنكم إيجاد حلّ "شرعي" لمشكلة خروج المرأة بدون محرم بتزويجها من أحد الرجال، فكيف لكم أن تجدوا مخرجاً شرعياً للمعضلة الأكبر والأكثر وضوحاً وبداهة، وهي بطلان العقد على زوجات النبي(ص) بعد نصّ القرآن الكريم على حرمة نكاحهن؟! قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].

 

وكيف لهؤلاء أن يجدوا حلاً شرعياً لمعضلة أخرى تعترضهم، وهي معضلة خروج زوجات النبي(ص) من بيوتهن وقيادتهن للجيوش والحروب أو نحو ذلك، مع أنّ الأمر الإلهي الوارد في القرآن الكريم يخاطبهن بشكل واضح لا لبس فيه بأن يجلسن في بيوتهن، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32)وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب: 32-33]، وهذه المعضلة لا تقلّ عن سابقتها في وضوحها وحاجتها إلى تبرير؟!

 

فأياً كان الشخص الذي يسعى لإخراج عائشة إلى المعركة، فإنّ من الطبيعي أن يتوجّه إلى تقديم تبرير مقنع لهاتين المعضلتين المذكورتين، ليتسنَّى له إقناع الرأي العام الإسلامي بأنّ خروجها كان شرعياً، أمّا أن يلجأ إلى تبرير مسألة حاجة المرأة إلى المحرم في السفر، وذلك بتزويجها من أحد الرجال، فهو تبرير سخيف وواهٍ للغاية ولا يُقنع أحداً، ولا يمكن أن يغطّي على المعضلتين المذكورتين، إذ لا حاجة بها للزواج لتتمكن من الخروج، لأنّ المحرم موجود كما قلنا.

 

وبتقريب آخر: إنّنا نتساءل عن هذا "المخرج الشرعي" لمن يُراد تقديمه؟ أو مَنِ الذي يُراد إقناعه به؟

 

هناك طرفان يُحتمل أن يكونا مستهدفين بهذا المخرج:

 

الطرف الأول: هو الرأي العام الإسلامي، فالمخرج إنّما يراد تقديمه لعامة المسلمين، ولكن هذا أشبه بمن يخدع الصبي عن لبن أمه، لأنّه إذا تمّ التذاكي على الرأي العام والتغلّب على مشكلة سفر المرأة بدون محرم بالعذر المذكور، فبأي تخريج شرعي يتم إقناع هذا الرأي العام إزاء المشكلة الأكثر وضوحاً وحضوراً، وهي معضلة حرمة الزواج بنساء النبي(ص) من بعده؟ وكذلك المعضلة الأخرى وهي معضلة خروجهن من بيوتهن؟!

على أنّ المخرج الشرعي لمشكلة السفر بدون محرم موجود، بوجود المحرم فعلاً، وهو عبد الله بن الزبير، وهو ممن خطّط ونظّم للخروج إلى حرب البصرة، فهل يمكن التذاكي على الرأي العام الإسلامي بمثل هذه الأوهام الخاوية؟! ثم لو أنّ هذا العذر أريد فعلاً تقديمه للرأي العام وإقناعه به، فهذا يفرض أن يطرح هذا التبرير أمام الجمهور، ولو حصل ذلك لشاع وذاع وأصبح من المشهورات ولم يتفرّد بنقله شخص واحد، ولم يرد في رواية واحدة!

 

الطرف الثاني: هو عائشة فقط، فالمخرج "الشرعي" المذكور يراد تقديمه لعائشة وإقناعها به أو التذاكي عليها وإيهامها بأنّ الزواج بها سوف يبرر لها الخروج لحرب علي(ع)، ويكون هدف ذاك الشخص المتهم هو الوصول إلى غايته الشخصية والدنيئة، وهنا لنا أن نسأل: هل أنّ السيدة عائشة كانت موافقة له على هواه أم كانت رافضة؟

 

  1. إنْ كانت عائشة لا سمح الله  ولا نظن ذلك بها ولكنه مجرد افتراض يراد تفنيده  موافقة للرجل المشار إليه، فهذا يعني أنّ المسألة لا تحتاج إلى أعذار واهية وغير مقنعة لا لها ولا لغيرها، لأنّها في قرارة نفسها على يقين بأنّ ما تفعله  بناءً على التسليم بهذا الافتراض  لا يمكن تبريره بوجه من الوجوه.

     
  2. وإن كانت غير موافقة  وهذا ما نظنّه بزوجة النبي(ص)، بل نقطع به، لأنّ النبي(ص) أكرم على الله تعالى من أن يعرّضه لهذا الشين الكبير في عرضه وزوجته  فهذا يثبت براءتها من التهمة ونزاهتها من الفاحشة.

 

ثمّ وعلى التقديرين  أعني كونها موافقة أو غير موافقة  فإنّ افتراض الغاية الدنيئة يحتّم كون هذا الأمر قد تمّ في سريّة تامة وبعيداً عن الأسماع والأنظار، فمن أين اطّلع عليه راوي هذه القصة وكيف؟ ومن هو هذا الذي أطلعه عليه وأخبره بمجريات هذه القصة؟ أهو رجل فاسق أم هو رجل مؤمن عادل؟

 

فإن كان المخبر فاسقاً، فكيف لنا أن نقبل شهادة الفاسق ونصدّق قوله ولا سيما في هذه القضايا؟!

 

وإن كان مؤمناً عادلاً فحيث إنّ مضمون كلامه هو قذف صريح لزوجة النبي(ص) ولأحد الصحابة بارتكاب الفاحشة فعليه إقامة البيّنة أمام الحاكم الشرعي، وإلا جُلد حد القذف، ولا يُسمح له  مادام لا يملك البينة  أن يتفوّه بهذا الكلام ويتداول به، لأنه من إشاعة الفاحشة، ومن الطبيعي أن لا يرضى المؤمن بنشر الفاحشة ؟! وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19] وأي مؤمن يرضى بأن يتفكّه بعرض النبي الأكرم(ص)؟! وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57].

 

سادساً: مع التنزل والتسليم فرضاً )وفرض المحال ليس محالاً) بأنّ الحديث المذكور مروي عن أحد الأئمة من أهل البيت(ع) فمع ذلك لا يمكن الاعتماد عليه أو الوثوق به، وذلك للاعتبارين التاليين:

 

الاعتبار الأول: أنّه معارض بما هو أقوى منه وأكثر اعتباراً، عنيت بذلك ما تقدم من أدلة ووجوه عقلية ونقليّة دلّت على براءة زوجات الأنبياء(ع) من ارتكاب فاحشة الزنا، وأنّ الله تعالى بلطفه وحكمته لا يسمح بوقوع ذلك الأمر حمايةً للنبي(ص) وحفظاً لدوره الرسالي من كل ما يلوّث سمعته ويوجب نفور الناس من حوله، وقد ذكرت بعض الروايات المتقدمة المرويّة عن رسول الله(ص): "الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت".

 

الاعتبار الثاني: أنّ القضيّة المبحوث فيها  ولو كانت في جانب معين ذات بعد تاريخي  هي قضية عقدية تمسّ النبي(ص) ودوره الرسالي وتؤثر عليه بشكل سلبي، ومن المعلوم أنّ القضايا العقدية لا يمكن إثباتها بأخبار الآحاد الظنية حتى لو كانت صحيحة، فضلاً عما إذا كانت ضعيفة ومرسلة، وإنّما تحتاج قضايا الاعتقاد إلى أدلة قطعية  عقليةً كانت أو نقلية  أو في الحد الأدنى إلى أدلة تورث الاطمئنان وتبعث على الوثوق بالأمر بناءً على بعض الآراء في

المسألة.

 

سابعاً: إذا صح ما نقل عن طلحة وأنه قال بعد نزول آية الحجاب: "لئن مات - يقصد النبي(ص) - لأتزوجن عائشة"، فهذا لا يثبت حصول شيء من ذلك في يوم الجمل، ولا يمكن أن يُبنى على الأوهام والتخرّصات في تناول عرض النبي(ص) ورمي زوجته بتهمة ارتكاب عمل قبيح ومشين، ولا سيما بعد مرور ما يزيد على عشرين عاماً على كلمته تلك، لأنّ المفروض أنّ تلك الكلمة إنما قالها طلحة في حياة رسول الله(ص).

 

ثامناً: إنّ الرواية الواردة عن الأئمة من أهل البيت(ع) تذكر على سبيل الإنكار والاحتجاج أنّ اثنتين من أزواج النبي(ص) ممن فارقهما النبي(ص) في حياته قد تزوجتا بعد وفاته، وهو الأمر الذي تعتبره الرواية عصياناً لأمر الله تعالى وتجاوزاً لنهيه، في إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} [الأحزاب: 53].

 

وفيما يلي ننقل الرواية ثم نلاحظ محل الشاهد فيها، والرواية هي ما رواه الكليني بسنده إلى عمر بن أذينة، قال حدثني سعد بن أبي عروة، عن قتادة عن الحسن البصري: أنّ رسول الله(ص) تزوج امرأة من بني عامر بن صعصعة يقال لها: سنى وكانت أجمل أهل زمانها، فلما نظرت إليها عائشة وحفصة قالتا: لتغلبنا هذه على رسول(ص) بجمالها فقالتا لها:

 

لا يرى منك رسول الله(ص) حرصاً، فلما دخلت على رسول الله(ص) تناولها بيدها فقالت: أعوذ بالله، فانقبضت يد رسول الله(ص) عنها فطلقها وألحقها بأهلها".

 

وتضيف الرواية: "وتزوج رسول الله(ص) امرأة من كندة بنت أبي الجون فلما مات إبراهيم بن رسول الله(ص) ابن مارية القبطية قالت: لو كان نبياً ما مات ابنه، فألحقها رسول الله(ص) بأهلها قبل أن يدخل بها، فلما قبض رسول الله(ص) وولي الناس أبو بكر أتته العامرية والكندية وقد خطبتا! فاجتمع أبو بكر وعمر، فقالا لهما: اختارا إن شئتما الحجاب، وإن شئتما الباه فاختارتا الباه، فتزوجتا فجذم أحد الرجلين وجن الآخر.

 

قال عمر بن أذينة: فحدثت بهذا الحديث زرارة والفضيل فرويا عن أبي جعفر(ع) أنّه قال: ما نهى الله(عز وجل) عن شيء إلاّ وقد عصي فيه! حتى لقد نكحوا أزواج النبي(ص) من بعده! وذكر هاتين: العامرية والكندية، ثمّ قال أبو جعفر(ع): لو سألتهم عن رجل تزوّج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أتحلّ لابنه لقالوا: لا، فرسول الله(ص) أعظم حرمة من آبائهم".

 

والشاهد في الرواية:

 

أولاً: إذا كان الإمام(ع) يعترض ويندد بزواج العامرية والكندية بعد وفاة رسول الله مع أنّه(ص) فارقهما في حياته، فلمَ لم يحتجّ على زواج امرأة توفي عنها رسول الله(ص) وهي لا تزال في رباط الزوجية عنيت بذلك عائشة! مع أنّ الثاني أولى بالاحتجاج، كما لا يخفى، فإنّ تحريم العقد على زوجات النبي(ص) اللاتي فارقهن في حياته ليس موضع إجماع إسلامي، كما هو الحال في حرمة العقد على اللاتي مات رسول الله(ص) وهن في عهدته، فإنّ حرمة الزواج بمن فارقها رسول الله(ص) في حياته هي محل خلاف بين المسلمين.

 

ثانياً: إذا صحّ ما نقل عن الحسن البصري من ابتلاء أحد الرجلين اللذين تزوجا بالمرأتين المذكورتين بالجذام والآخر بالجنون، لانتهاكهما حرمة رسول الله(ص) فلماذا لم يُبْتَلَ طلحة المُدَّعى أنّه تزوج عائشة بابتلاء مماثل، فهل لم تعد لرسول الله(ص) من حرمة عند الله؟!

 

 

الثانية: رواية الشيطان ونساء سليمان

 

وثمة رواية أخرى قد تُذكر لتأكيد أنّ زوجات الأنبياء لسن محصنات ضد الفاحشة، وهي ما ورد في قصة أزواج سليمان النبي(ع) من أنّ الشيطان الذي جلس على عرش سليمان وتشبّه به واستطاع أن يجامع نساءه في حالة الحيض وكان لا يغتسل من جنابة، كما أخبر آصف لمّا سألهن.

 

ولكن هذا الكلام مرفوض ومردود من جهتين:

 

الأولى: إنّ من غير الممكن أن يتشبّه الشيطان بالنبي(ع) أو ينطق على لسانه ويوهم الناس أنه النبي(ع)، وإلاّ لو أمكنه فعل ذلك لم يبق هناك وثوق بقول ىالنبي(ع) وفعله ولم يعد حجّة على العباد، لاحتمال كون الفعل أو القول ليس صادراً عن النبي(ع) بل عن الشيطان.

 

قال الفخر الرازي: "إنّ الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء(ع) فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع، فلعلّ هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى(ع) ما كانوا أولئك، بل كانوا شياطين تشبّهوا بهم في الصورة، لأجل الإغواء والإضلال، ومعلوم أنّ ذلك يبطل الدين بالكلية!"

 

الثانية: إنّ الكلام المذكور حول ما جرى مع زوجات سليمان(ع) لا قيمة له ولا يمكن التعويل عليه، لأنّه كلام يُنسب إلى بعض التابعين، وليس إلى النبي(ص) أو أحد الأئمة من أهل بيته(ع)، ومن غير المستبعد أن يكون هذا الرأي من تأثيرات أو تسريبات الفكر الإسرائيلي، التي امتدت إلى الثقافة الإسلامية على يد بعض الأحبار أو من عرفوا بمسلمة أهل الكتاب.

 

الثالثة: رواية الخصيبي والبرسي

 

وقد لاحظتُ أنّ بعض المواقع الالكترونية تتداول رواية باعتبارها شاهداً على أنّ الشيعة يطعنون في نساء النبي(ص) ويتهمون إحداهن بارتكاب الفاحشة، ولولا خشية انخداع بعض الناس بهذه الأقاويل لما تعرّضتُ لهذه الرواية أصلاً، لوضوح بطلانها وضعفها سنداً ومضموناً ودلالة ومصدراً.

 

والرواية هي التي رواها الخصيبي في كتابه "الهداية الكبرى"، وأوردها الحافظ رجب البرسي في كتابه "مشارق أنوار اليقين" وهي تتحدث عن دخول نساء النبي(ص) على الإمام الحسن(ع) يعزينه باستشهاد أمير المؤمنين(ع)، ومن جملة المعزّيات كانت السيدة عائشة، وقد قالت له: "يا أبا محمد ما مِثْلُ فَقْدِ جدّك إلاّ يوم فُقد أبوك، فقال لها الحسن(ع): نسيتِ نبشكِ في بيتك ليلاً بغير قبس بحديدة  حتى ضَرَبَتِ الحديدةُ كفَّك فصارت جرحاً إلى الآن  فأخرجتِ جراراً خضراً فيها ما جمعت من خيانة حتى أخذتِ منه أربعين ديناراً عدداً لا تعملين لها وزناً ففرقتها في مبغضي علي(ع) من تيم وعدي، وقد تشفّيتِ بقتله! فقالت: قد كان ذلك".

 

ويلاحظ على ذلك:

 

أولاً: إنّ الرواية لا عبرة بها ولا قيمة لها على الإطلاق من جهة السند، وبيان ذلك:

 

  1. أمّا بالنسبة لكتاب "الهداية الكبرى" فهو كتاب لا يعوّل عليه عند علماء الشيعة، لأنّ مؤلفه وهو الحسين بن حمدان الخصيبي (ت: 358 ه أو 343 ه) هو رجل "فاسد المذهب" كما صرّح بذلك شيخ الرجاليين الشيعة أبو العباس النجاشي )ت: 450 ه)، وإلى فساد المذهب أضاف رجالي آخر وهو ابن الغضائري )من علماء القرن الخامس الهجري( قائلاً في وصفه: "صاحب مقالة ملعونة لا يلتفت إليه"، وبصرف النظر عن فساد المذهب فإنّ أحداً من علماء الرجال لم يوثّق الخصيبي، ولم يهتم مشهور علمائنا من المحدثين والمتكلمين بكتابه هذا وبسائر كتبه، ثمّ لو صرفنا النظر عن مؤلف الكتاب، فإنّ سند الرواية يشتمل على الضعفاء الذين لا يمكن التعويل على رواياتهم وفقاً لموازين علم الرجال.

     
  2.  وأمّا المصدر الثاني للرواية وهو كتاب "مشارق أنوار اليقين" للحافظ رجب البرسي )ت: 813 ه(، فهو أيضاً لا يصحّ التعويل عليه، ولم يعتد بكتابه هذا حتى أخبارية الشيعة، فضلاً عن أصولييهم المحققين، على أنّ من المرجح أنّ البرسي قد أخذ الرواية من الخصيبي وليس له سند آخر، فيجري عليه ما جرى على سابقه، الذي عرفت وهنه.

 

ثانياً: لو سلّمنا  جدلاً  بصحة الرواية، فهي لا ترتبط بمسألة الخيانة الزوجية، لا من قريب ولا من بعيد، فإنّ الخيانة - كما أسلفنا في المحور السابق - هي عدم الأمانة، وعليه فجمع المال من الخيانة لا دلالة له على جمعه من خلال ارتكاب الفاحشة، والعياذ بالله.

 

ثالثاً: على أنّ مضمون الرواية يبعث على التأمل، وذلك لأنّه ليس من خُلُق الإمام الحسن(ع) أن يواجه امرأة دخلت عليه للتعزية بوفاة والده والتهنئة له بتعيينه خليفة للمسلمين بمثل هذا الكلام الجارح في اتهامها بالخيانة حتى لو كانت امرأة مشركة، فكيف وهي زوجة جده المصطفى(ص)؟!

 

نُشر في تاريخ 01-8-2019 م






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon