حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
في ميزان العدل الإلهي (1)
الشيخ حسين الخشن



 

كيف ننظر إلى أعمال البر والخير ـ غير العبادية ـ التي يؤديها غير المسلمين؟ هل يثابون عليها؟ أم أنّها تذهب هباءً منثوراً؟ وعلى سبيل المثال فإن أعمالاً من قبيل مساعدة الفقراء والمحتاجين وتوفير الغذاء والدواء لهم، أو بناء المشافي والسدود والجسور والمدارس، أو من قبيل المكتشفات التي يهتدي إليها بعض هؤلاء ويكون فيها الخير الكثير للبشرية جمعاء، كالأدوية التي تخفف معاناة المعذبين والمرضى أو الكهرباء التي أنارت ظلمات الليالي، إلى غير ذلك من أعمال الخير أيعقل أن لا توضع في  سجل حسناتهم ولا يكون لها قيمة عند الله لمجرد أن هؤلاء من غير المسلمين؟ بينما يدخل الجنة بعض البطالين من المسلمين؟!

 

ميزان الحسن والقبح:

 

وقبل أن ندخل في الإجابة على هذا السؤال لا بدّ لنا أن نتعرف على الميزان في توصيف العمل بالحسن أو القبح؟ فهل يكفي في حسن العمل وخيريته أن تكون نتيجته في صالح الناس؟ أم أن دوافع العامل لها دور في التحسين والتقبيح؟

 

الظاهر أنه في الحكم بالحسن والقبح لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار نوايا الفاعل ودوافعه، ولا ينظر إلى ظاهر العمل ونتيجته فحسب، وإنما الميزان الصحيح أن ينظر إلى العمل والدوافع معاً، وهذا المعنى ـ مضافاً إلى أنه يستفاد من التعاليم والنصوص الإسلامية الكثيرة التي تؤكد على أنّ الإخلاص شرط في قبول الأعمال، أو أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرأ ما نوى ـ فإنه ميزان عقلائي، ألا ترى لو أننا نظرنا ًإلى شخص يضرب يتيماً فإنا لو تعاملنا مع ظاهر الأمر فإننا لن نتردد بالحكم على عمله بالقبح، لكن لو اطلعنا على أن هذا الضرب هو بغرض التأديب لا التشفي والانتقام لغيّرنا رأينا وحكمنا على فعله بالحسن، ألا ترى في المقابل لو أننا رأينا شخصاً يهمّ بقتل إنسان مؤمن وقد أطلق النار أو السهام عليه فإننا سوف نصف عمله بالقبح حتى لو أن السهم أخطأ الهدف وأصاب شخصاً مجرماً مستحقاً للقتل؟ وفي ضوء ذلك فلو أننا أردنا تقييم المكتشفات التي قد يستفاد منها  في أعمال الخير كما يستفاد منها  في أعمال الشر، كما الحال في التقنية النووية مثلاً، فالذي يحدد الخير من الشر في هذا الاكتشاف هو جهة الاستخدام، هذا بالنسبة للاكتشاف، كاكتشاف، أما بالنظر إلى المكتشف والمخترع فإن الذي يحدد استحقاقه للمدح أو الذم هي دوافعه الكامنة وراء الاكتشاف، فإن هَدَف مكتشف الذرة إلى استخدامها في الأنشطة السلمية فإنه يستحق المدح والثناء، حتى لو استغلت استغلالاً سيئاً على خلاف ما هدف إليه المكتشف.

 

أصناف عمل الخير:

 

بعد هذه المقدمة نعود إلى الإجابة على السؤال المتقدم، فنقول: إن أعمال الخير التي يقوم بها الإنسان هي على عدة أنحاء:

 

الأول: أن يأتي بعمل الخير لوجه الله سبحانه ورجاء ثوابه، كما هو حال الكثير من أهل الخير الذين لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكوراً، وإنما يتطلعون إلى رضوان الله ورحمته الواسعة.

 

ومقتضى العدل والإنصاف أن يتقبل الله هذا النحو من الأعمال حتى لو صدرت من غير المسلم، لا سيما بملاحظة ما ذكرناه سابقاً من أن نية القربة يمكن أن تتأتى من غير المسلم، وكيف يُخيِّب الله ظنون أو آمال عبد أجهد نفسه وأفنى عمره في عمل الخيرات ولا همّ له إلا رضا الله سبحانه؟!

 

النحو الثاني: أن يكون هدف العامل دنيوياً بحتاً، كتحصيل الربح المادي أو الشهرة بين الناس أو نحو ذلك، فهو لم يقم بهذا العمل أو الانجاز بهدف نيل رضوان الله والتقرب إليه ولا بهدف خدمة الناس والتخفيف من معاناتهم أو نحو ذلك من الأهداف السامية، وإنما هدفه دنيوي بحت، وفي هذه الحال قد يتحقق لهذا الإنسان ما هدف إليه من الربح أو الشهرة، وربما يستحسن أن نمدحه، لأننا في نهاية المطاف أفدنا من اختراعه وعمله، ولكنه لا يستحق الشكر أو الثناء لا علينا ولا على الله، بحيث إذا لم نمتدحه نحن نكون مستوجبين للذم وإذا لم يثبه الله كان مخلاً بالواجب فاعلاً للقبيح، والوجه في ذلك أن عمله لم يكن في سبيل الله ولا في سبيل عيال الله وعباده، "ولا شك أن كل طريق لا يؤدي إلا إلى غايته، فإذا لم يكن الله هو المقصود فإنه سوف لن ينتهي إلى الله"(العدل الإلهي 293). لقد كان غرضه هو الدنيا وقد وصل إلى غايته ومراده، نعم ربما يثاب هذا الشخص من ناحية أخرى، وهي أنه إذا ما كان عمله بدافع إعالة نفسه وعياله وكفّ وجهه عن الناس، فإنه يؤخر عند الله كما يستفاد من بعض الروايات، كما في قول الإمام الصادق(ع) ـ فيما روي عنه ـ : " الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"(الكافي8/88).

 

عمل الخير لوجه الخير:

 

النحو الثالث: أن يكون هدف العامل هو صِرف خدمة الناس ومساعدتهم، فهو يعمل الخير للخير، لا لوجه الله ولا لهدف تجاري دنيوي، وهنا يمكن القول: إن هذا الشخص يستحق على الناس الثناء والشكر، لأنه منعم عليهم ومحسن إليهم، وشكر المنعم واجب عقلاً، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}(الرحمن:60)، ولكن هل يستحق الثواب على الله لما قدّمه من خدمات لعباد الله، مع أنه لم ينو التقرب إليه تعالى؟

 

المعروف لدى علماء الكلام وغيرهم أن هذا الشخص لا يستحق على الله شيئاً، ويمكن توجيه قولهم هذا بأحد وجهين:

 

أولاً: أنه لا مقتضي لاستحقاقه الثواب، لأنه لم يقصد وجه الله ولم يتوجه إليه تعال ليستحق عليه شيئاً.

 

ثانياً: وجود المانع وهو النصوص التي تنص، إمّا على نفي الثواب لغير المؤمن، أو على أن الكفر يمحق العمل ويبطله.

 

ولكن يمكن التعليق على هذين الوجهين:

 

أما الوجه الأول: أنه لا مقتضي للثواب على أعمال الخير المشار إليها فهذا ما لا يمكن الجزم به، بل يمكن القول إنه مثاب ومأجور، بتقريب: أن الشخص الذي يعمل الخير لوجه الخير لا شك أنه يستحق في نظر العقل والعقلاء المدح والثناء لا سيما ممن كان عمله موجهاً إليهم واستفادوا منه، فكيف لا يستحق الثناء من خالق العباد وسيد العقلاء؟! ثم إن إعمال الخير التي يرّغبنا الله بها ويحثنا عليها، لا يريدها لنفسه، بل لخدمة عباده وعياله، لأنه غني عن أعمالنا ولا ينتفع منها بشيء، ولذا فإن عمل الخير ولو كان دافعه الوحيد  حب الخير هو محبوب لله سبحانه وتعالى، كما يستفاد من قوله(ص) ـ فيما روي عنه ـ : الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيته سروراً"(الكافي:2/164)، وقد مال الفقيه الكبير السيد كاظم اليزدي  إلى هذا الرأي، فرأى أن من الجائز أن يثيب الله على عمل الخير ولو لم يأت بها الفاعل لوجه الله، قال رحمه الله: "نعم ترتب الثواب موقوف على قصد القربة مع أنه يمكن أن يقال بترتبه على الأفعال الحسنة وإن لم يقصد بها وجه الله، فإن الفاعل لها يستحق المدح عند العقلاء وإن لم يقصد بفعله التقرب إلى الله، فلا يبعد أن يستحق من الله التفضل بالثواب، ويؤيده: ما في الأخبار المرّغبة من انتفاع الميت بولده الصالح، مع أنه لم يقصد القربة في طلبه، وإنما قصد لذة النفس بالمقاربة أو بتحصيل الأولاد"(العروة الوثقى:ج6/282)، ومال الشهيد مطهري رحمه الله أيضاً إلى هذا الرأي فقال: "من الممكن أن يقال: أنه لا ضرورة لوجود الحسن الفاعلي في قصد التقرب إلى الله، فإذا عمل شخص عمل خير بدافع وجدانه والرحمة المستولية على قلبه فذلك كافٍ ليتحقق لعلمه الحسن الفاعلي، ولا يهم حينئذ أن يكون الدافع هو الله أو الإنسانية"(العدل الإلهي 295).

 

أما الوجه الثاني وهو وجود المانع من قبول عمله، والمانع هو الكفر وعدم الإيمان، فإن الكفر مانع من قبول الأعمال أو محبط لها، قال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقبعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوّفاه حسابه والله سريع الحساب}(النور:39)، وقال سبحانه في آية أخرى:{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد}(إبراهيم:18)، ومانعية الكفر من قبول الأعمال تستفاد أيضاً من السنة، فعن أبي عبد الله الصادق(ع): "لا يضر مع الإيمان عمل ولا ينفع مع الكفر عمل، ألا ترى أنه تعالى قال: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنهم كفروا بالله وبرسوله... وماتوا وهم كافرون"(الكافي2/464، الحديث:3و4)، إلى غير ذلك من النصوص التي تحتاج إلى متابعة تفصيلية.

 

 إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نسجل ملاحظة عامة على هذه النصوص وهو ما قد يعطينا مؤشراً على كيفية التعامل مع سائر النصوص، والملاحظة التي نود تسجيلها هنا هي أن العقل حاكم "أن الله سبحانه عادل، ومن عدله أن لا يكون المحسن والمسيء لديه سواء، بل للمسيء جزاؤه وللمحسن جزاؤه... واختصاراً: إن الإنسان مجزي بأعماله إن خيراً فخير، وإن شراًُ فشر، والكافر يستحق العقاب على كفره، وقد فعل الخير لوجه الله، فيستحق عليه الثواب ولكل عمل حساب..."(تفسير الكاشف2/212)، وفي ضوء هذا الحكم العقلي لا بدّ أن تُفسّر النصوص المذكورة، وذلك بأن يقال: إنها إما ناظرة إلى كفر الجحود والتمرد على الله، والمتمرد على الله لا يستحق عليه شيئاً حتى لو خدم الناس بجفون عينيه، وإنما له حق الشكر على من خدمهم وعمل لأجلهم، وإما أنها ناظرة إلى الأعمال التي يعملها هؤلاء لا لغرض إلهي أو إنساني وإنما لغرض دنيوي بحت (راجع تفسير الكاشف4/435).

 

وفي ضوء ذلك لا بدّ أن نفهم قوله تعالى" {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة:30)، إذ ليس المراد به "أن الإنسان إذا عصى الله في شيء لا يقبل منه إذا أطاعه في شيء آخر وإلا لزم أن لا يتقبل إلا من المعصوم، وهذا يتنافى مع عدله وحكمته، وإنما المراد من الآية أن الله سبحانه لا يقبل إلا العمل الخالص من كل شائبة دنيوية، وأن من عمل لغير الله والخير يكله إلى من عمل له، وليس من شك أن من عمل الخير لوجه الخير والإنسانية فقد عمل لله، سواء أراد ذلك أم لم يرد، ومن عمل لله فأجره على الله" (تفسير الكاشف2/212).





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon