حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
حول حجية خبر الواحد في العقائد
الشيخ حسين الخشن



 
لقد تسالم المسلمون على تعريف وتقديم الإسلام بأنه عقيدة وشريعة، والعقيدة تمثل البناء الفكري والنظري للإسلام، بينما تمثل الشريعة السلوك العملي، والبناء النظري يرتكز على إذعان القلب وقناعة العقل والفكر، من هنا كان الدين غير قابل للاكراه {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(البقرة:256)، فإنّ الاعتقاد والاقتناع من أفعال القلوب والجوانح وهي لا تقبل الاكراه والاجبار، خلافاً للسلوك العملي فلا يتوقف على الاذعان لارتباطه بالجوارح وهي تقبل التعبد بل والإكراه.
 
الإسلام تصديق بالجنان وعمل الأركان:
 
ولذا نرى المؤمن المعتقد بالله ورسوله واليوم الاخر قد يقوم ببعض الأعمال العبادية أو غيرها مما جاءت به الشريعة حتى لو لم يفهمها، أو وصلت إليه بالطرق الظنية، لأن اذعانه وتسليمه لله ولرسوله وإيمانه بحكمته وعلمه تعالى يدفعه للالتزام والتعبد العملي بما نصّت عليه الشريعة، وبعبارة أخرى: إن أمر الاعتقاد والاذعان ليس بيد الإنسان فلا يمكنه أن يكره نفسه على الاذعان بشي‏ء إن لم يملك هذا الشي‏ء من عناصر الاقناع ما يوجب الاعتقاد، وأما السلوك العملي فهو أمر اختياري وخاضع لارادة الإنسان فيمكن إكراهه عليه كما بإمكانه أن يكره نفسه على الانقياد العملي ولو في حالة الشك بالشي‏ء أو عدم فهم فلسفته.
 
وقد أشارت الأحاديث إلى هذا الفارق ففي الحديث عن الإمام الرضا (ع) عن ابائه عن أمير المؤمنين (ع) قال سمعت رسول الله (ص) يقول:" الإيمان: قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالاركان" (الأمالي للطوسي448)، وفي حديث اخر عن الإمام الصادق(ع) : "الإيمان: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالاركان" (دعائم الإسلام 3/1)، وفي حديث اخر عن الإمام الرضا(ع): "الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل بالاركان" (عيون أخبار الرضا(ع)205/2)، فإن العقد بالقلب أو المعرفة القلبية أو التصديق بالجنان تشير إلى معنى واحد وهو الوظيفة الاعتقادية للإيمان، بينما يشير العمل بالاركان إلى الوظيفة السلوكية، وأما النطق باللسان فهو يرمز إلى الإسلام الرسمي باعتبار النطق علامةعلى الانتساب إلى الإسلام.
 
عدم حجية الظن في العقائد:
 
إن هذا الفارق الجوهري بين الإيمان الاعتقادي والإيمان السلوكي هو الذي يفسر ويبرر الاجماع الإسلامي حول عدم حجية الظن في أصول العقيدة، فإن الاعتقاد يتطلب إذعاناً وتصديقاً قلبياً، والظن لا يورث إذعاناً للقب ولا قناعة للعقل، وعلى ضوء ذلك فإن القدرالمتيقن من الايات الناهية عن اتباع الظن كقوله تعالى:{إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}(الأنعام:116)، أو قوله سبحانه:{وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}(يونس:36)، هو الظن في المجال العقائدي، أما في الحقل التشريعي فإن عدم حجية الظن لا تزال غير محسومة بل تخضع للكثير من الجدل على الأقل في بعض وسائل الاثبات الظنية كالقياس أو الاستحسان أو غير ذلك.
 
إن عدم حجية الظن في القضايا الاعتقادية لا يفرق فيها بين الأصول التي تجب فيها المعرف التفصيلية كالأصول الخمسة المشهورة، أو فروع العقيدة مما لا يشترط فيها المعرفة التفصيلية بل يكفي الإيمان فيها على ماهي عليه، فالجميع يحتاج إلى عقد القلب وتصديق الجنان مما لا يتوفر بالطرق الظنية.
 
خبر الواحد بين الفقه والعقائد:
 
وفي هذا السياق فقد ذهب مشهور العلماء إلى التفصيل في حجية الخبر بين المجال التشريعي والمجال العقيدي، فقالوا بحجيته في المجال الأول إذا كان رواته ثقاة دون المجال الثاني، لأن خبر الواحد، وإن كان رواته عدولاً لا يفيد في حد ذاته علماً ويقيناً مما يتطلبه الاعتقاد إلا إذا احتف بقرائن خارجية أوجبت حصول العلم واليقين بمضمونه أو بصدوره أو وصل إلى حد التواتر.
 
ومما يعزز من وجاهة التفصيل المذكور أن الأخبار المرتبطة بالمجال التشريعي خضعت للنقد والغربلة من خلال الجهود التي بذلها الفقهاء والعلماء، بخلاف الأخبار المرتبطة بالشأن العقائدي فإن التساهل إزائها ظل سيد الموقف، مع أنها عرضة للكذب والدس والتزوير أكثر من تلك، بناء على ما هو المعروف أن إحدى دواعي الوضع والكذب قامت على خلفية النزاع الكلامي ومحاولات الانتصار المذهبي. أضف إلى ذلك: أن الخلل في أخبار العقيدة أكثر خطورة من الخلل في الأخبار المرتبطة بالأحكام الشرعية والسلوك الشخصي.
 
ويمكن مقاربة الاستدلال على التفصيل المذكور من زاوية أخرى مفادها: ان مقتضى القاعدة الثابتة بالبرهان والقران عدم حجية الظن مطلقاً وفي كافة الحقول المعرفية، بيد أن ما دل على حجية خبر الثقة يدفعنا لرفع اليد عن ذاك الإطلاق بخصوص الأخبار الواردة في الحقل التشريعي دون ما هو وارد في المجال العقائدي أو التكويني ، فهذه إذا لم تحتف بالقرائن الموجبة لليقين أو الاطمئان تبقى داخلة في عموم النهي القراني عن اتباع الظن، بل لا معنى للحجية فيها، لأن الحجية لا تعني سوى ترتيب الاثار الشرعية على مضمون الخبر فيما كان له أثر شرعي وهو غير موجود سوى في روايات الأحكام.
 
وعلى ضوء ذلك فلا يصح الاعتراض على ما ذكرناه بأن ما دل على حجية الخبر كالسيرة العقلائية مثلاً عام وشامل لمطلق الأخبار سواء كان مضمونها تشريعياً أو عقدياً، لأن السيرة المشار إليها لا يحرز قيامها على الأخذ بخبر الثقة في الشؤون العقائدية إلا إذا كان الخبر مفيداً لليقين أو محتفاً بقرائن توجب الاطمئنان. على أن حجية السيرة في المقام رهن بعدم الردع عنها، وما دل على عدم حجية الظن يشكل رادعاً عنها في المجال العقدي على أقل تقدير.
 
بين الوثوق والوثاقة:
 
هذا كله لو بنينا على الرأي المشهور في حجية خبر الثقة، بيد أن هناك اتجاهاً اخر اختاره جمع من الاعلام وهو يرى أن الحجية ثابتة للخبر الموثوق لا لخبر الثقة، والفرق بين الاتجاهين: أن الأول يعتمد وثاقة الراوي أساساً في الحجية، فإذا احرزت وثاقته أخذ بالرواية سواء حصل الوثوق بصدورها أو لم يحصل، وأما الاتجاه الثاني: فيرى أن العبرة بحصول الوثوق بالرواية لا بالراوي، فكلما حصل وثوق بصدورها كان ذلك كافياً للأخذ بها ولو لم تحرز وثاقة الرواة، وإذا لم يحصل الوثوق بها كان ذلك كافياً لرفضها حتى لو كان رواتها ثقاة عدولاً.
 
إنه وبناء على هذا الاتجاه قد لا يبقى ثمة مجال للتفصيل المشار إليه بين "أخبار الفروع" و"أخبار الأصول"، لأن الوثوق والاطمئنان علم عرفي فلا تشمله الايات الناهية عن اتباع الظن، وهو طريق جرى عامة العقلاء على الاعتماد عليه في شتى المجالات سواء العقيدية أو التشريعية أو القضائية أو غيرها. أجل الشأن كل الشأن في تحصيل الوثوق والاطمئنان بصدور الخبر، فإن ذلك رهن توفر عناصر موضوعية تساعد على حصوله ومن أهمها: وثاقة الرواة، وموافقة الخبر للكتاب والمرتكزات العقلائية، وموافقته وعدم منافاته لأحكام العقل ولما عليه جمهور العلماء.
 
اعتراض مرفوض:
 
وقد اعترض بعضهم على القول بعدم حجية خبر الواحد في العقائد ما لم يكن مفيداً لليقين أو الاطمئنان، بأن لازمه إلغاء كل حديث النبي (ص) وأهل بيته (ع) والاقتصار على بضعة أحاديث قد لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، إذن فعلى الإسلام السلام..(خلفيات 134/2)، إلا أن هذا الاعتراض مجرد تهويل لا يصغى إليه، لأن أمهات القضايا العقدية وبعض تفاصيلها ثابتة بالادلة القطعية العقلية أو النقلية، وليست بحاجة إلى أخبار الاحاد، على أن الروايات التي يمكن تحصيل الوثوق بها ليست بهذه الندرة لينعى الإسلام بهذه الطريقة التهويلية، كيف وقد تبنى جمع من كبار الفقهاء كالمرتضى وابن ادريس وغيرهما موقفاً رافضاً لاعتماد أخبار الاحاد حتى على المستوى الفقهي فضلاً عن العقائدي ومع ذلك لم يلزم خراب الدين ولا تأسيس دين جديد.
 
نتائج الاعتماد على أخبار الاحاد:
 
في ضوء ما تقدم من عدم حجية أخبار الاحاد في الحقل العقائدي لا بدّ من تسجيل تحفظنا على ظاهرة التساهل والتسامح الملحوظة في اعتماد الخبر الواحد في مجال الاستنباط العقدي حتى من قبل من يصرّح بعدم حجيته في هذا الحقل، وقد بُني على التسامح المشار إليه الكثير من التصورات والمفاهيم التي تصل إلى حد الغلو ببعض الرموز أو اتخاذ مواقف واراء متشددة ومتشنجة قد تصل إلى حد تكفير الاخر، أو الحكم على أمة كبيرة من الناس بالهلاك والعذاب، كما في مفهوم الفرقة الناجية الذي ينص على هلاك معظم الأمة الإسلامية لمجرد خبر واحد وصحيح السند على أفضل التقادير، ومما يمكن ذكره في هذا السياق ما روي عن رسول الله (ص) بشأن أمه رضي الله عنها قال (ص) :"استأذنت ربي أن استغفره لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" (صحيح مسلم 671/2)، وفي حديث اخر بشأن والده: أن رجلاً قال يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما مضى دعاه فقال له: إن أبي وأباك في النار" (صحيح مسلم191/1) إن هذين الحديثين مخالفان لحكم العقل بقبح معاقبة من لم تقم عليه }الحجة، وأهل الجاهلية في معظمهم كذلك فهم من أهل الفترة الذين لم يبعث الله فيهم نبياً حسبما أشارت له الاية الكريمة :{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon