وتعود عاشوراء مثقلة بكل جراحات التاريخ وآلامه وسهامه ومواجعه، وتعود عاشوراء مضمخة بالأحمر القاني معلنة بكل وضوح: "إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً"، وتعود عاشوراء مفعمة بكل معاني العزة والإباء ويعود النداء الحسيني الخالد: "هيهات منا الذلة"، وتعود عاشوراء ويعود معها الشوق والحنين، والدمع والأنين، وتعود عاشوراء ونستعيد معها صبر زينب (ع) وعزيمة الحسين، وإيثار أبي الفضل العباس وشجاعة علي الأكبر وتضحية كل تلك الصفوة الطاهرة من أصحاب الحسين (ع)، هكذا عرفنا عاشوراء، وهكذا ينبغي أن تكون وتستمر..
ولكنّ هل لنا أن نرى في عاشوراء قيمةً إضافية أخالها غائبة أو مغيّبة عن قاموسنا الإسلامي وهي قيمة الحب؟ هل لنا أن نرى في عاشوراء غير الدماء والأشلاء؟ أو قل: هل لنا أن نرى الحب في وسط الدماء والأشلاء؟
بكل تأكيد يمكننا أن نرى ذلك، وأن نتعلم الحبّ في مدرسة عاشوراء، لأنّ عاشوراء ليست مدرسة للحقد والكراهيّة ولا لإثارة الغرائز وإيقاد الفتن، وإنما هي مدرسة نتعلم منها كل المعاني السامية وعلى رأسها قيمة الحب الإنساني والعشق الإلهي، بل يمكنك القول : إنّ حاجتنا إلى الحسين(ع) وحاجتنا - قبل ذلك- إلى رسول الله(ص)، كما علي(ع) والزهراء(ع) وكل المثل العليا هي في جانب أساسي منها تعود إلى حاجتنا إلى الحب والروح والعاطفة، لأنّ هؤلاء هم مصدر الحب والجمال، كما هم مصدر الفكر والأخلاق .
ودعوني أسلط الضوء على هذه القيمة العظيمة من خلال المحاور الثلاثة التالية:
1- دور الحب في الحياة
2- دور الحب في العقيدة الإسلامية
3- دورالحب في عاشوراء
المحور الأول دور الحب في الحياة
الحب من أنبل العواطف الإنسانية
في المحور الأول علينا أن نقول بادىء ذي بدء : إنّ عاطفة الحب التي أودعها الله فينا هي من أجمل العواطف الإنسانية وأنبلها وأعمقها أثراً، فهي منطلق كل خير، وهي – بكل تجلياتها وامتداداتها- الطاقة الملهمة للإنسان والمحركة له، ولا نبالغ بالقول: إنها التي تعطي الإنسان معنى الإنسانية، لأنّ الإنسان بدون حب صخرة صماء، ولا يمكن أن نرى في هذه العاطفة شيئاً سلبياً، وهكذا هو الحال في كل الغرائز والعواطف التي أودعها الله فينا وفطرنا عليها هي خير لنا شريطة أن نوجهها في الإتحاه الصحيح، فغريزة الغضب – مثلاً- أو ما يسميه الفلاسفة بالقوة الغضبية هي بكل تأكيد خير للإنسان عندما نغضب لله أو انتصاراً للحق، حيث يدفعنا الغضب للدفاع عن أنفسنا أو أعراضنا أو أرضنا، رافضين الذل والهوان والخنوع، وهكذا غريزة الشهوة التي بها استمرار النسل..
وهكذا هو الحال في عاطفة الحب بكل تجلياتها، بما في ذلك حب الذات - مثلاً- فهو ليس أمراً مذموماً، فالإنسان مجبول على حب ذاته، ومن أحبّ ذاته حقاً وصدقاً فلا بدّ أن يحب ربه، وأن لا يعصيه طرفة عين أبداً لأن عصيانه لربه فيه تعريض النفس للمهالك، فمن أحبّ نفسه أحبّ ربه، كما أنّ من عرف نفسه عرف ربه.
وإذا كان حب الذات شيء جميل من حيث المبدأ إذا وُجِّه توجيهاً صحيحاً، فبالأولى أن يكون حب الكمال جميلاً، لأن حب الكمال والجمال يدفع الإنسان دائماً نحو الأمام والتطلع نحو الأفضل فلا يستكين ولا يتجمد، ولولا هذه العاطفة لكنا كسائر المخلوقات التي لا تعرف الإبداع ولا التطور مهما كانت أفعالها متقنة، كما هي مملكة النحل مثلاً، فإنها في غاية الجمال والإتقان، بيد أنّه جمال ساكن لا يعرف التطور، أما إلإنسان فإنه يضفي على أفعاله وصنعه رونقاً خاصاً من حيويته ولمسةً مميّزة من جمال ذوقه، ولهذا نقول: إنّ عاطفة الحب هي التي تصنع الحياة وتعطيها جمالها، فلولا حب المفكر للمعنى لما أنتج الفكر المبدع، ولولا حب الشاعر لجمال القصيدة لما أنتج شعراً وأدباً، ولولا حب الأم لوليدها لما صبرت على عناء حمله ووضعه ومشقة تربيته، إنّه الحب هو الذي يجعلها تستعذب كل هذه المشقات والآلام، ولولا حب الفلاح للأرض لما غرسها بالأشجار والورود، ولولا حب الإنسان للوطن لما دافع عنه وبذل دمه في سبيله، وإلى هذا الدور المهم للحب في صناعة الحياة أشار الإمام علي(ع) بقوله: "عمرت البلدان بحب الأوطان" 1، فأن تحب وطنك معناه أن تعمره وأن تحافظ على جماله ولا تسيء إلى بيئته، وأن تحب وطنك معناه أن تنشر الحب في ربوعه وتبذر الخير في أرجائه.
ومن هنا يتضح أنّ حب المرء لوطنه وأهله وذاته وبيته.. ليس دنساً، بل هو جزء من الإيمان، "حب الوطن من الإيمان" 2، ولذا وجدنا رسول الله(ص) عندما هاجر من مكة المكرمة كان يتلفت وراءه والشوق يغمره ويقول مخاطباً مكة: "الله يعلم أني أحبك ولولا أنّ أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ولا ابتغيت عليك بدلاً" 3. وقد كان (ص) يرسل نفحات حبه إلى الطبيعة والجبال وهو القائل فيما يروى عنه: "أحدٌ جبلُ نحبّه ويحبنا".
الحب والعلاقات الإنسانية
وإذا كان الحب الفطري هو الذي يحكم علاقتنا بالوطن والأرض والحيوان والجبال، فبالأولى أن يحكم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان على اختلاف دوائرها ومستوياتها، ففي دائرة العلاقات الزوجية يقول لنا الله: {وجعل بينكم مودة ورحمة}، لتكون المودة هي الحاكمة بين الزوج وزوجته، وفي دائرة العلاقة بين الآباء والأبناء تأتي الوصية المروية: "أحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم فإنهم لا يدرون إلاّ أنكم ترزقونهم"4، وهكذا فإنّ الولد مأمور بأن يحب والديه وأن يخفض لهم جناح الذل من الرحمة، ولو انطلقنا إلى دائرة الأخوان في الدين فإنّ توصيفهم القرآني أنهم "رحماء بينهم"، وعلى مستوى علاقة الحاكم بالرعية فإنّه مطلوب منه أن يعيش الحب لهم، وإذا عاش الحب للناس فلن يستطيع إلاّ أن يعدل منهم، يقول أمير المؤمنين(ع) في عهده المعروف لمالك الأشتر: "وأشعرْ قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"5 .
ولم يكتف النبي(ص) بدعوتنا إلى إعتماد لغة الحب في كل علاقاتنا بل إنّه علَّمنا ابتكار أساليب التحاب، ومن هذه الأساليب أسلوب التهادي، يقول(ص): "تهادوا تحابوا"6 .
المحور الثاني: دور الحب في العقيدة الصحيحة
بعض تجليات الحب الإلهي
وأما في المحور الثاني فنقول: إنّ الحبَّ كما أنّه محور الحياة ومحركها، فإنّه يأتي ويندرج في صلب العقيدة الإسلامية الصحيحة، لأنّ الله تعالى هو ملهم الحب ومصدره الأول، ومن صفاته عز وجل "الحبيب"، وحبه تعالى وإن كان لا يتجزأ ولا يُحَدُّ ولا يوصف كما هو الحال في سائر صفاته، لكن هذا الحبَّ - من جهتنا نحن لا من جهته تعالى - على نحوين :
حب عام يستفيد منه البر والفاجر، وحب خاص، لا يستفيد منه إلا من دخل الباب.
أما الحبَّ الخاص، فلا يفقه معناه ولا يدرك مغزاه إلا من عرف حلاوة مناجاة الله تعالى، "من الذي ذاق حلاوة حبك فرام عنك بدلاً" 7، وكون هذا الحب خاصاً ليس ناشئاً من قبله تعالى أو بسبب بخله حاشاه، بل إن السبب يأتي من جهة العبد، أي أنّ المشكلة كما يقال في القابل وليس في الفاعل، فإنّ "بابه تعالى مفتوح لداعيه وحجابه مرفوع لراجيه" 8.. لكنّ الإنسان قد يحرم نفسه من نعمة الحب الإلهي بابتعاده عن طاعة الله وعن مناجاته وعبادته، إنّ هذا النوع من الحب يحتاج إلى تفاعل من الطرفين، كما يقال في لغة اليوم، ويكفي العبد أن يحاول ويسعى للتحبب إلى الله والتقرب منه ليفتح له الباب ويتذوق شيئاً من طعم الحب الإلهي، وقد ورد في الدعاء: "يا حبيب من تحبب إليه"، فحتى لو كنت "تتحبب" إلى الله وتسعى في هذا السبيل، فإنك لن تُحرم من بركة حبه، بل ستشعر بشيء من حلاوة حبه تعالى لك، فكيف إذا كنت تحبه حقاً أو قطعت شوطاً في مسيرة حبه وعشقه؟
وأما الحب العام الذي يشمل البر والفاجر، فإنه يتجلى:
أ- في كل هذا الكون البديع، في أنفسنا، وفيما حولنا، فكل ما في هذا الكون من جمال وروعة وحب إنّما هو رشحة من فيض حبه وجماله تعالى الذي لا ينضب، إنّ كل هذا العطاء التكويني والنعم التي لا تعد ولا تحصى، وكل هذا الجمال الذي لا تحيط به الباصرة هو تعبير عن حبه لنا ولطفه بنا، إذ سخر لنا كل هذا، ووعدنا بالمزيد، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (النحل: 18).
ب- في إرسال الرسل ومعهم الكتاب والميزان، ليأخذوا بيد الإنسان إلى شاطئ الأمان، وليقوم الناس بالقسط والعدل، فالأنبياء هم رسل الحب والسلام.
ج - ومن رشحات حبه تعالى أنه خلق لنا الجنة لنعيش فيها نعيم الأبد الذي لا ينفذ في جواره تعالى وفي صحبة الأنبياء والأوصياء
والصالحينوحسن أولئك رفيقاً.
د- ويمكننا القول: إنّ خلق النار هو من فيض حبه - أيضاً- ، لأنه تعالى لم يخلق النار للتشفي من خلقه ولا للانتقام منهم، بل لتكون رادعاً لهم عن البغي والعدوان والظلم والعصيان، وليحملهم على الهدى ويأخذ بأيديهم إلى الكمال المطلق، وهذا منتهى الحب، أليس حُبُّك لابنك هو الذي قد يدفعك لأن تقسو عليه أحياناً، أو تهدده بالعقاب، لتشعره بالمسؤولية وتأخذ بيده إلى طريق المكارم، لأنّ كثرة الدلال والغنج تفسد الطفل، وهي خطأ تربوي دون أدنى شك، هكذا هو ربنا تعالى، بل هو فوق ذلك، فهو أرأف بنا من الأب بابنه ومن الأم برضيعها، فهو خَلَقَ النار لا لأنّه يحب تعذيبنا، بل خَلَقَها بهدف إصلاحنا، بل إنّه وطبقاً لنظرية "تجسم الأعمال" فإنّ النار إنّما هي الأثر الطبيعي لأعمالنا، فنحن الذين "نخلقها" بسوء اختيارنا وتمردنا على الله. إنني لا أتحدث شعراً، وإن كان الشعر ينتمي إلى مدرسة الحب، وإنما أتحدث عن فلسفة الحب الإلهي التي تتجلى في كل عطائه التكويني والتشريعي، كما تتجلى في ثوابه وعقابه، في جنته وناره.
جريمة نكراء
والجريمة الكبيرة التي جنيناها على أنفسنا وديننا، أننا – في بعض خطابنا الديني- لم نر الله تعالى ولم نقدّمه على هذه الصورة، بل رأيناه مصدراً للخوف والرعب، حيث تتقدم عندنا - في حديثنا عن الله- صور العذاب على صور الرحمة، فالله هو الجلاد المنتقم، وتغيب عن هذا الخطاب صورة: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان..}، إنّ الخطاب الديني الذي يقدم الله تعالى على هذه الصورة يكرّه الله إلى الناس ويحوله إلى كابوس دائم ومخيف، ما يدفع بعض الناس إلى أن يفروا من الدين ومن الحديث عن الله، ولست أتحدث بكلام تهويلي، بل هو كلام من صلب الواقع، وإليكم هذه القصة التي هي من أعجب ما واجهتُه في حياتي:
أتاني قبل مدة شاب ملتزم دينيا فرأيته حائراً خائفاً نحيلاً! قلت: ما بك؟ قال: إني أكره الله!! فصدمت لما سمعت، لأني لم أكن أتوقع مثل هذه الإجابة، فنحن نعرف وقد اعتدنا أن يأتينا بعض الشباب وهو يقول: أنا أشك في وجود الله فكيف تثبت لي وجوده؟ أمّا أن يأتي شخص يؤمن بالله ويقول لك: "أنا أكره الله!" فهذا أمر عجيب، قلت للفتى: أتكره الله أم أنك لا تؤمن به؟ قال: أنا أؤمن به وأعتقد بوجوده، لأن كل شيء في هذا الكون يدل عليه، إذن لِمَ تكرهه قلتها له مستنكراً؟! فحكى لي الفتى، قصته مع رجل من مدعي العرفان، وكانت "نصيحة" هذا الشخص "العرفاني" له هي التي أوصلته إلى هذا الحالة الغريبة، وخلاصة القصة:
أنّ هذا الفتى وهو شاب جامعي قد أحب فتاةً معه في الجامعة حباً بريئاً، ولأنه لا يستطيع الزواج بها في مرحلة الدراسة، لعدم تيسر أسباب الزواج وظروفه، فأخذ هذا الأمر يقلقه ولا سيما أنّه خشي الوقوع في الحرام، فشكى أمره إلى ذاك الرجل الذي كان يثق به، فـ"أفتاه" ذاك الرجل بأنّ عليك ترك الفتاة فورا،ً لأنه لا يمكن أن يجتمع في قلبك حبان: حب الله، وحب هذه الفتاة! فاستجاب المسكين لهذه "النصيحة"، وأبلغ الفتاة بتركه لها، ليكون حبه خالصاً لله وحده ! ومع الوقت أخذ الفتى يعيش صراعاً مريراً، لأنّ حبّ الفتاة لا يزال نابضاً في قلبه، رغم أنه ضحى بها لحساب الله، وفي ذروة هذا الصراع الداخلي الذي لازم هذا الفتى لأشهر عديدة، خلص إلى النتيجة التالية وهي: أنّ "حب الله" هو الذي أفقده حبيبته وخسرها، فانقلب رأساً على عقب، وتجول حبه لله إلى بغضٍ لله، أي أصبح الله خصمه وعدوه الذي أفقده حبيبته.!
إنّ هذا الفتى وأمثاله هو ضحية من ضحايا الخطاب الديني المتخلف والمنفر، إنّه ضحيّة الجهل، إذ متى كان حب الرجل للمرأة أو حب المرأة للرجل يتنافى وحب الله؟! أحببْ من شئت إنساناً أو حيواناً أو جماداً لكن ليكنْ حبك إياه في خط حبك لله تعالى، إنّ الحب عندما يكون انجذاباً شعورياً لا إرادياً نحو الآخر لا يكون مبغوضاً لله تعالى، لأنّه انفعال جبلي طبيعي خارج عن الإرادة، وما كان كذلك لا يلام عليه صاحبه ولا يعاقب، أجل يفترض بالمؤمن أن لا ينجرف مع المشاعر إلى الحد الذي يخرج عن توازنه أو يدفعه الهيام لارتكاب الحرام ولو على مستوى النظر أو اللمس أو غير ذلك من المقدمات المحرمة، ولا يجوز أن نبرر كثيرا من التجاوزات الشرعية على أساس الحب أو العشق.
وكما أساء خطابنا الديني إلى صورة الله تعالى، فإنه أساء إلى صورة الأنبياء، فقدمهم باعتبارهم دعاة فتك وكراهية، لا باعتبارهم دعاة سلام وحب وتراحم، ويصبح شعار النبي الأكرم محمد (ص) لدى بعض المسلمين الذين يحملون راية التكفير: "لقد جئتكم بالذبح"، كما يُروى عنه9، أهكذا هو رسول الله حقاً؟ لا والله، كيف يكون كذلك وهو الرحمة المهداة، وقول الله فيه أصدق القول: {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين}! (الأنبياء: 107).
وهكذا فإنّ هذا الخطاب التهويلي والتخويفي قدّم لنا يوم القيامة بصورة مجتزأة يغلب عليها طابع العذاب والنيران وتجاهل مشاهد الرحمة الإلهية التي تسبق الغضب والنقمة، وتتطلع إليها عنق إبليس في ذلك اليوم، وبذلك يكون الخطاب قد جنى على العقائد الثلاث للمسلمين وهي: "الإيمان بالله" و"الإيمان بالرسول" و"الإيمان بالمعاد"، فقمها بطريقة تهويلية منفّرة، هذا من جانب العقيدة، وأما الشريعة فقد غدت من خلال هذا الخطاب عبئاً ثقيلاً على النفوس يشعر الإنسان المسلم بالعجز عن امتثالها، إنّ الشريعة التي طابعها العام هو السهولة واليسر "ويعثت بالحنيفيّة السمحة" 10 ىفإذا بها تتحول إلى قيود تكبِّل المسلم وتنقل كاهله وتعرقل حياته وتوقعه في المشاكل الصحيّة والنفسية كما نلاحظ ذلك لدى الأشخاص الذين ابتلوا بكثرة الوساوس بشأن الطهارة أو القراءة في الصلاة أو نحوها.
التوحيد في الحب:
أعود إلى قصة الجمع بين حب الله وحب من سواه، لأقول: إنّ حبنا لكل من عدا الله هو حب مشروع، لأنّ الله أمرنا بذلك، وفطرّنا على ذلك، لكنّ مشروعية هذا الحب مشروطة بأن لا يتقدم حب أحد على حب الله عندما يتزاحم الحبان، حتى لو كان هذا الشخص هو أباؤنا أوأمهاتنا أو أولادنا: {قل إن كان أباؤكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة 24)، إنّ المشكلة هي عندما يتحول حبك لابنك أو لزوجك، أو لدنياك، أو لموقعك في السلطة... إلى معبود من دون الله وتتجاوز لأجله تعاليم الله، فهنا يكون الشرك في الحب والانحراف عن حب الله، {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله..} (البقرة 16).
وبهذا يتضح لنا معنى التوحيد في الحب الذي، فإننا عندما نوحد الله في الحب كما نوحده في الألوهية أو الخالقية أو الربوبية أو العبودية.. فلا يراد بذلك أن لا نحب أحداً غيره، بل أن لا يتقدم حب أحد من الناس على حبه، لنحبّ في الله، ونبغض في الله، وبذلك تبقى قلوبنا نابضة بحب الله، يقول الإمام الصادق(ع) فيما روي عنه : "القلب حرم الله فلا تسكن في حرم الله غير الله" 11. وعن الإمام زين العابدين(ع): "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة حبك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك بدلاً"12 .
كيف نحب الله؟
وتسألني وأتساءل معك: كيف لنا أن نصل إلى مرتبة الحب لله تعالى؟
إنّ الوصول إلى درجة المحبين لله والذين يحبهم الله ليس بالأمر الهين، إنه يحتاج إلى مجاهدة مستمرة لأنفسنا حتى لا يسيطر عليها حب الأنا أو حب الأهل أو المال أو الجاه، أو غيرها من الحجب، وما أكثر الحجب التي تحجبنا عن الله تعالى! فيغيب حب الله عن قلوبنا في غمرة الهوى وسطوة الشهوات ووسوسة الشيطان. ولهذا فإنّ المؤمن - وفي سعيه للفوز بلذيذ محبة الله- بحاجة مستمرة إلى المراقبة والمحاسبة لنفسه، كما هو بحاجة للتأمل الواعي والبصير في كل آيات الله باعتبارها من مظاهر حبه لخلقه، سواء كانت في الآفاق أو في أنفسنا، وهو أيضاً بحاجة إلى الطلب من الله والتوسل إليه ليوفقه للوصول إلى درجة المحبين، كما كان يدعو الإمام زين العابدين(ع) فيما نُسب إليه من مناجاة: إلهي "أسألك حبَّك وحبَّ من يُحبك وحبَّ كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحبَّ إليّ مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائداً إلى رضوانك وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك"13 .
هل نخاف الله أم نحبه؟
وفي ضوء ما تقدم، فإننا نعتقد أنّ العلاقة مع الله لا بدّ أن يحكمها مبدأ الحب لا مبدأ الخوف، لأنه سبحانه ليس مصدراً للخوف والرعب لنخافه كما نخاف السلاطين الظلمة – مثلا - ؟
صحيح أنّ الكثير من النصوص الدينية من الآيات والروايات تحدثنا عن "مخافة الله" باعتبارها صفة كمال في الإنسان، قال تعالى: {إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175)، إلى غير ذلك من الآيات أو الروايات التي تمتدح الذين يخافون الله سبحانه وتعالى، إلاّ أن "خوف الله" هنا لا ينطلق من كونه تعالى - في ذاته أو صفاته – مصدراً للخوف، وكيف يكون مخيفاً، وهو العدل المطلق والجمال الكلي والرحمة الشاملة التي لا تحد والتي وسعت كل شيء؟! كيف يكون مخيفاً وهو الذي كتب على نفسه الرحمة؟!
إذن لماذا علينا أن نخاف الله، طبقاً لما جاء في بعض الآيات والروايات؟
إننا نخافه خوف المذنب الذي يؤلمه التقريع والحساب، أي أننا في الحقيقة نخاف من ذنوبنا، من جرأتنا وتمردنا عليه، {يخافون سوء الحساب} ( الرعد: 21)، ولا نخاف منه لكونه مصدر الخوف أو القلق، أو لأنّه يبطش ويظلم, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
أنّ معنى أن نخافه تعالى هو أن نستحضره في كل أعمالنا وخطواتنا وفي كل ما نهم بارتكابه وفعله، أن نخافه يعني أن لا نعيش الغفلة عنه طرفة عين أبداً، إنّ معنى: "خف الله"، أو "اتقِ الله" أو "اخشَ الله" أن لا تتجرأ عليه، لأنّ الجرأة عليه ستوقعك في الشقاء، لا لأن جرأتك عليه تضره، فهو "لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه" 14، فالدعوة إلى خوف الله هي في عمقها دعوة إلى مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، بل هي دعوة إلى حب الله والسير في خط رضوانه وطاعته، لأنّ العاصي المذنب المتمرد على سيده هو كاذب في دعوى الحب، لأنّ الحب يدفع إلى الطاعة، والحبيب لا يقدم على أي عمل يبغض حبيبه، ولهذا فإننا نخاف الله خوف المحبين، ولا نُحبُّه حب الخائفين، لأن َّالخوف لا يصنع حباً، بينما الحب يجعل المحبَّ خائفاً وجلاً من التقصير في خدمة الحبيب.
آثار حب الله في حياتنا:
ثم إنَّ حبَّ الله تعالى إذا تمكن من القلب، فسوف يترك آثار طيبة ومهمة في حياتنا الفردية والاجتماعية:
1-فهو سوف يمنحنا الأمن والاطمئنان، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28)، فمهما واجهنا من صعوبات يبقى حب الله هو أنيسنا، يروى عن الإمام الحسين(ع) أنه قال في دعائه: "ماذا وجد من فقدك ؟وما الذي فقد من وجدك ؟"، إنّ لسان المحب على الدوام:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والآنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
2-وسوف يمنحنا الانضباط العملي والسلوكي، لأنّ المحبَّ لا يمكن أن يغضب أو يزعج حبيبه، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران: 31)، وقد نسب إلى الإمام الصادق(ع) بيتان من الشعر:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك من الفعال بديع
15لو كان حبك صادقاً لأطعته إنّ المحب لمن يحب مطيع
3-إنه سوف يدفعنا لنحب كل من أحبَّ الله وأحبّه الله، بعيداً عن الهوى والعصبية.
المحور الثالث: الحب في مدرسة عاشوراء
حب أولياء الله هو من حب الله
وأما المحور الثالث، وهو دور الحب في عاشوراء فالذي أعتقده أنّ أروع ما في عاشوراء هو مشاهد العشق والحب لله وفي الله والتي نراها في معسكر الإمام الحسين (ع)، حيث يغدو الموت في سبيل الله سعادة، ونستهل الحديث في هذا المحور عن الرابط بين حب الله وحب أولياءه، فنقول: إنّه وطبقاً لما أسلفنا في المحور الثاني، فإنً على المسلم أن يوحّد الله في الحب، ليكون حبه خالصاً له ولا يشرك معه أحداً، ولا شك أنّ حبَّ أولياء الله هو من حب الله تعالى فلا يتنافى وحبه تعالى، تماماً كما قلنا بأنّ حبنا لكل من حولنا لا يتنافى وحب الله ما دام متحركاً في خط حب الله.
ومن هنا, فأنت معني بأن تحب أولياء الله – وهم رسله وحججه على العباد- لأنهم (ع) "أحباء الله وأودؤه"، بل لأنهم "الأدلاء على الله"، وهم يدلونك على طريق الحب الإلهي، وأعتقد أنّ حب أولياء الله لا يحتاج إلى وصايا خاصة من أحد، فهم بما يمتلكون من جاذبية روحانية وأخلاقية سوف يدخلون القلوب بدون استئذان، وذلك هو سرّ إمامتهم وولايتهم، لكنّ مع ذلك نجد أنّ الله تعالى قد أكدّ على أهمية محبتهم، حتى جعل مودتهم هي أجر الرسالة، {قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى} (الشورى: 24)، وهكذا نجد أنّ رسول الله(ص) الحبيب المصطفى قد نصّ على أهمية محبتهم وأنّ بها قوام الإيمان، فقال (ص): "حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً" 16، إنّ حب الحسين (ع) – إذن- هو من حبنا لرسول الله (ص)، وحبنا لرسول الله هو من حبنا لله، بينما بغض الحسين (ع) - كما بُغض أبيه علي (ع)- هو علامة على عدم حب الله ولا رسوله، أي هو علامة النفاق، كما جاء في الأحاديث المختلفة 17.
الحسين شهيد الحب الإلهي
وعندما نطل على حب الحسين(ع) لله تعالى والذي تجلى في كل حياة أبي عبد الله الحسين (ع) ولا سيما في عاشوراء فسنرى أننا أمام ظاهرة منقطعة النظير من حب الله وعشقه، وإليك توضيح ذلك من خلال صورتين روتها لنا المصادر التاريخية:
الأولى: "هون ما نزل بي أنه بعين الله".
عندما يسقط أصحاب الحسين (ع) وأبناؤه صرعى على رمضاء كربلاء، يخرج الحسين(ع) إلى جيش عمر بن سعد طالباً منهم أن يسقوا الطفل الرضيع، لأنّ العطش أخذ منه مأخذاً عظيماً، وكان ما كان، أن يرميه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم ويذبحه من الوريد إلى الوريد وهو في حجر والده، فماذا يكون موقف الحسين (ع) بعد أن يَرمي دمَ رضيعه نحو السماء؟ هل يبكي أو يشكو أو يجزع أو يتراجع؟ كلا، بل إنه يتوجه إلى الله ليخاطبه بكلمات العشق التالية: "هوّن علي ما نزل بي أنه بعين الله" 18، ما أصعبه من موقف! أن يذبح رضيعك في حجرك! ولكن ما أعظمه من يقين "هون ما نزل بي أنه بعين الله"!
ويتردد على ألسنة البعض أنه (ع) لمّا كثرت الجراحات في جسد الإمام الحسين (ع) كان يقول: "إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ مني حتى ترضى"، ولكن لم أعثر على هذا الكلام في المصادر، أجل نقل في "شرح أحقاق الحق" ذلك عن الإمام الحسن(ع) بعد أن أخذ السم منه مأخذاً ولفظ كبده "استقبل القبلة وقال: "يا رب خذ مني حتى ترضى"19 .
الثانية: "إني أحب الصلاة".
ينقل الطبري وغيره: "أنه وفي اليوم التاسع من محرم وبعد أن أصبحت الخيارات واضحة، "إما السلة، وإما الذلة" طلب الإمام الحسين (ع) من أخيه العباس أن يتفاوض مع عمر بن سعد ليؤخرهم إلى غد، ويتركهم هذه العشية، لماذا؟ هل ليودعوا العيال؟ أو ليفكروا بطريق لأجل الهرب؟ كلا لا هذا ولا ذاك، بل "لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار"20 .
وإننا لا ندري أي صلاة صلاها الحسين (ع) تلك الليلة؟ وفي أية حالة من حالات الانقطاع إلى الله كانت صلاته؟؟ فعلاً لا ندري، لأن هذا المقام المعنوي لا يفقهه إلا من ذاق حلاوته، ولكن ما نستطيع أن نجزم به أن صلاته كانت صلاة المحبين العاشقين الوالهين، ونلاحظ هنا أنّ الإمام (ع) لم يذهله تكاثر الهموم فيحتم في كلامه، ويقول مثلاً: "لنصلي"، بل قال: "لعلنا نصلي"، لأنّه (ع) قد لا يستطيع الصلاة، ثم الأهم من ذلك أنه (ع) يقول: إنّ الله تعالى "يعلم أني أحب الصلاة، كما أحب تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار".
وتحدثنا بعض المصادر أنّ الحسين (ع) قد طلب توقيف الحرب أو تأخيرها قليلاً مرة أخرى، وذلك في ظهيرة يوم العاشر من محرم، فإنّه وبعد أن قُتل جمعٌ من أصحاب الحسين(ع) وأحسّ بعض أصحابه (ع) أن الموت قد اقترب والأجل قد دنا، تقدم من الحسين(ع) قائلاً: "يا أبا عبد الله نفسي لك الفداء إني أرى هؤلاء القوم قد اقتربوا منك ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن القى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها، قال: فرفع الحسين رأسه، ثم قال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي.."21 .
فالحسين(ع) يطلب من القوم استمهاله بضع دقائق، لماذا؟ هل ليرتاح أو ليشرب الماء؟ كلا، بل لأجل إقامة الصلاة، وأيّ صلاة تلك هي التي صلاها الحسين(ع) ظهيرة العاشر من محرم؟ صلى (ع) والسهام تنهمر عليه كالمطر حتى استشهد بعض أصحابه ممن وقف أمامه ليحميه من السهام ليتمكن (ع) من الصلاة جماعة بمن تبقى من أصحابه 22 .
إنّ إصرار الحسين (ع) على إقامة الصلاة وهو في وسط القتلى والأشلاء، يذكرنا بموقف أبيه علي(ع) في ليلة الهرير في صفين، فقد كان - والسهام تتساقط عليه والسيوف والألسنة تتشابك من حوله - ينظر إلى السماء مراقباً وقت الصلاة، فقال له ابن عباس: "يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ قال: أنظر إلى الزوال حتى نصلي، فقال له ابن عباس: إنا عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة، فقال(ع): على ما نقاتلهم؟ إنما نقاتلهم على الصلاة" 23.
معسكر الأولياء المتفانين في الله وفي محبو وليه(ع)
وهذا الفداء المنقطع النظير المتمثل بوقوف هذا الإنسان العظيم أمام الحسين(ع) يقيه من السهام ليصلي مع صحابته، يجعلك حائراً أمام هذه الثلة الطاهرة التي عشقت الحسين (ع) وفدته بأرواحها والنفوس، فأن يقف المرء أمام شخص آخر ليقيه السهام المتوجهة إليه ويتلقاها بصدره وجسده إنّ هذا لا يفعله إلاّ أولئك الذين أعاروا جماجمهم لله، ولا يفهمه إلاّ من ذاق حلاوة العشق الإلهي، فقد روي أنّ الإمام (ع) طلب من زهير بن القين وسعيد بن عبد الله أن "تقدما أمامي حتى أصلي الظهر، فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلى بهم صلاة الخوف، وروي أن سعيد بن عبد الله الحنفي تقدم أمام الحسين(ع) فاستُهدف لهم، يرمونه بالنبل، كلما أخذ الحسين(ع) يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عاد وثمود، اللهم أبلغ نبيك السلام عني، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك نصرة ذرية نبيك، ثم مات، فوجدوا به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح" 24. وهذا نموذج عن حب أولائك الثلة لإمامهم(ع).
وإليك نموذج أخر يعكس حبهم لله وسرورهم بلقائه، فهذا برير بن خضير يهازل ويمازح عبد الرحمن بن عبد ربه، فقال له الأخير: "والله ما هذه بساعة باطل، فقال برير: والله إن قومي لقد علموا أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكني مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء بأسيافهم" 25.
وفي رجال الكشي أن حبيب بن مظاهر أخذ يمزح، فقال له يزيد ( برير) بن خضير الهمداني وكان يقال له سيد القراء: "يا أخي ليس هذه بساعة ضحك! قال: فأيّ موضع أحق من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين" 26.
واكتفي بهذا القدر من نماذج التفاني في الله تعالى، وإلاّ فالنماذج لدى أصحاب الحسين(ع) كثيرة جداً، وقد كانوا يتمنون أن يُقتلوا ثم يُنشروا ثم يُقتلوا ثم يُنشروا، يُفعل ذلك بهم ألف مرة فداء للحسين(ع) 27.
الحسين وشفقته على أعدائه:
ذكرنا في المحور الثاني أنّ من يسيطر عليه حب الله فلا يمكن أن يشرك معه أحداً في فعل أو قول أو نبضة قلب، ونقول هنا: إنّ من يمتلئ قلبه بحب الله فلن يعرف هذا القلب غير لغة الحب ولن يجد متسعاً للحقد، لأنّ الحب والبغض لا يجتمعان في قلب المؤمن، ولهذا فإنّه حتى عندما يبغض أعداء الله وأعداء الإنسانية فهو لا يبغض فيهم سوى كفرهم وعصيانهم وتمردهم على الله، ولكنه يشفق على أشخاصهم، لأنهم يسيئون إلى أنفسهم ويوردونها مورد الهلكة، ولذا فهو يتألم عليهم ويدعو لهم بالهداية، ولهدايةُ شخص واحد من أعدائه أحب إليه من أن يموت على يديه ولو كان يموت ظالماً ويبوء بآثامه، وهذا ما عبّر عنه علي(ع): "فوالله ما وقعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي وذلك أحب إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها" 28.
وهكذا كان الحسين(ع) يخاف على أعدائه من مغبة جرأتهم عليه وإقدامهم على قتله وسفك دمه، يحدثنا أحدهم أنه وقف على الحسين(ع) فقال له أبو عبد الله(ع): "معنا أنت أم علينا؟ فقلت: يا ابن رسول الله: لا معك ولا عليك، تركت أهلي وولدي، أخاف عليهم من ابن زياد، فقال الحسين(ع): فول هرباً حتى لا ترى لنا مقتلاً فوالذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلاّ أدخله الله النار" 29، وهكذا نراه يقول ذلك لعبيد الله بن الحر الذي فرّ من الكوفة حتى لا يلتقي بالحسين(ع) ولكن تشاء الأقدار أن يلتقيه في الطريق، ويقصده الإمام (ع) طالباً منه نصرته والإنضمام إليه، لكنه اعتذر، فقال له الحسين(ع): "فإن لم تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، والله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك" 30.
فالحسين(ع) يخاف على هذا الشخص أو ذاك من النار أو الهلاك إن حضرا مقتله ولم ينصراه، وفي كل الأحوال فإنّ هذا الشخص لن ينجو من المساءلة يوم القيامة، ولا ندري إذا كان الله يقبل عذره بالخوف على ذريته، لأنّ ذريته ليست أعز من ذرية الحسين(ع)، كما أنّ قوله: "لا لكم ولا عليكم" مرفوض، لأنه لا حيادية بين الحق والباطل، ومن لم يخذل الباطل فهو قد خذل الحق، وقد قال (ع) في الذين اعتزلوا القتال معه: "خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل" 31.
الحسين صاحب مشروع إحيائي وليس انتقامي:
ومن هنا تعرف أنّ أبا عبد الله الحسين(ع) لم يكن صاحب مشروع انتقامي ولا ثأري، ولم يكن راغباً في سفك الدماء، وإنّما مشروعه هو إحياء النفوس والمجتمعات بنور الإسلام، وهكذا هو مشروع حفيده الإمام المهدي(عج)، فهو لن يخرج لأجل الثأر والانتقام واستخراج جثث الموتى من القبور ثم صلبها، كما يزعم البعض، بل إنه يخرج حاملاً لواء العدل، ومبشراً بثقافة الحياة، ولا حياة بدون عدل، فالعدل هو عماد الحياة، كما أنه لا حياة بدون حب، فالحب هو روح الحياة.
مسؤلية الخطاب العاشورائي "حببونا إلى الناس"
في ضوء ما تقدم، من أنّ مشروع الحسين (ع) والثقافة التي بشر بها هي ثقافة الحب والرحمة والتواصل فإنّ من مسؤليتنا أن نقدم الحسين(ع) باعتباره داعية للسلام وللحب، كما هو داعية للعدل، إنّ مسؤلية الخطاب العاشورائي أن يقدم الحسين(ع) على هذا الأساس، وأن يقدم كل الأئمة من أهل البيت(ع) كذلك، وهكذا فإنّ وظيفة الشعائر الحسينية والإحياءات المختلفة لذكرى الحسين (ع) وكل الأئمة من أهل البيت (ع) أن تؤدي هذه الوظيفة وهي أن تدخل الحسين(ع) إلى القلوب، وتعرف الناس برسالته، فإذا كانت أساليب الإحياء منفرة أو مقززة بشكلها أو بمضمونها فإنها ستشكل خيانة للحسين(ع)، لأنّ وظيفة وسائل الإحياء هي فتح قلوب الناس على الحسين (ع) ورسالته؟ وأنت إذا فَتحت قلوب الناس على الحسين(ع) وأهل البيت(ع) فأنت بذلك ستدخل بكل سهولة إلى عقولهم لتفتحها على فكر الحسين (ع) وستدخل إلى حياتهم لتغيّرها على صورة الحق الذي يمثله الإمام الحسين(ع)، وهذا ما عبر عنه الإمام الصادق(ع): "حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم، فجروا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل شر" 32.
وأعتقد أنّ الخطاب الديني عموماً سواء الخطاب الذي يتحرك به الخطيب والمبلغ أو الفقيه أو الفيلسوف أو المتكلم معني بأن يستفيد من قيمة الحب ويتخذها قيمة هادية وحاكمة لكل نتاجه سواء كان موعظة أو فتوى أو فكراً، فهل أنّ صاحب هذا الخطاب يلاحظ إلى أي حد يسهم خطابه وفكره وفتواه في تحبيب الناس بالإسلام وسوقهم إلى الكمال أو أنه يسهم في تنفيرهم عن الدين وعن الله تعالى؟
ولهذا تعالوا أيها العاشقون للحسين (ع) ونحن نبكيه أن نبكيه بكاء المحبين لا بكاء المنتقمين، وهلموا بنا ونحن نلبس السواد على الحسين (ع) أن لا ندع اللون الأسود يدخل قلوبنا ليملأها بالحقد والبغضاء، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) وقد سئل عن لبس السواد "بيض قلبك والبس ما شئت" 33، فالسواد هو تعبير رمزي عن التعاطف مع الحسين(ع)، ولكن لا بد أن تبقى قلوبنا نقية بيضاء، كبياض قلب الحسين(ع)، وكنقاء شرف زينب، وكصفاء منحر الطفل الرضيع.
والسلام على الحسين (ع) وعلى علي بن الحسين (ع) وعلى المستشهدين بين يدي الحسين (ع) وعلى السائرين على نهج الحسين (ع) ورحمة الله وبركاته.
هذه المحاضرة ألقاها سماحة الشيخ حسين الخشن في الخامس من شهر محرم في مسجد الإمامين الحسنين(ع),وقد أجرينا عليها بعض التعديلات وأضفنا عليها بعض الشواهد والتوضيحات.
1- تحف العقول ص 207.
2- أمل الآمل ج1 ص11.
3- التفسير المنسوب للإمام العسكري ص555.
4- الكافي: ج6 ص49.
5- نهج البلاغة.
6- الكافي ج5 ص144.
7- من مناجاة المحبين المنسوبة للإمام زين العابدين (ع).
8- من مناجاة الخائفين للإمام زين العابدين (ع).
9- صحيح ابن حيان رقم الحديث 6687.
10- أمالي الشيخ الطوسي ج2 ص105.
11- بحار الأنوار ج67 ص25.
12- الصحيفة السجادية.
13- مناجاة المحبي, مصدر سابق.
14- نهج البلاغة.
15- وسائل الشيعة..
16- مسند أحمد: ج4 ص172.
17- سنن النسائي ج8 ص115.
18- اللهوف في قتلى الطفوف ص69.
19- شرح إحقاق الحق: ج26 ص558.
20- تاريخ الطبري ج4 ص316.
21- تاريخ الطبري ج4 ص334.
22- أنظر: بحار الأنوار ج45 ص21.
23- أنظر: وسائل الشيعة ج4 ص246.
24- بحار الأنوار: ج45 ص21.
25- الكامل في التاريخ: ج4 ص60.
26- اختبار معرفة الرجال: ج1 ص293.
27- أنظر: تاريخ الطبري: ج4 ص318.
28- نهج البلاغة.
29- وقعة صفين: ص141.
30- الإرشاد للمفيد: ص81، وتاريخ الطبري: ص308.
31- نهج البلاغة.
32- وسائل الشيعة، ج2 ص8.
33- وسائل الشيعة، ج4 ص385.