حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> خطب جمعة
إمام الحوار جعفر بن محمد الصادق(ع)
الشيخ حسين الخشن



 

"ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً".                        
مالك بن أنس

 

   لا يستريب أحد من علماء المسلمين أو الدارسين للتاريخ الإسلامي في أن شخصية الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) هي شخصية استثنائية ومحورية في الحياة الثقافية الإسلامية، بحيث لا نبالغ إذا قلنا إنّها مثّلت انعطافة أساسية في تاريخ التشيع على المستوى الفكري والفقهي والاجتماعي والسياسي، فقد كان هذا الإمام - بحق - مدرسة متكاملة في الفقه والكلام والتفسير والحديث والأخلاق وغيرها من المعارف الإسلامية، ولذلك أمّه طلاب العلم وقصده رواد الفكر من مختلف بلدان المسلمين وعلى اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، وفي هذا الصدد يُنقل عن الحسن بن علي الوشّا أنّه قال: "أدركت في هذا المسجد (وأشار إلى مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد الصادق(ع)". 

 

   وقد كُتب كثيراً عن شخصية الإمام الصادق (ع) ومزايا مدرسته وخصائصها، ومع ذلك فإنّ ثمة مجالاً واسعاً للحديث عن جوانب عديدة من شخصية هذا الإمام والإضاءة عليها، إما لأنها لم تأخذ حقها من الدرس والتأمل، أو لأنّ من الضروري إعادة مقاربتها بطريقة جديدة  تحاكي  الواقع المعاصر وهمومه وأسئلته.

 

مدرسة الحوار والانفتاح الفكري

 

   ومن أبرز هذه الجوانب التي أخال أنّ مدرسة الإمام الصادق(ع) تميزت بها إلى حد الفرادة تلك الرحابة أوذاك الانفتاح الفكري الذي جعلها مدرسة مشرعة الأبواب أمام رواد الحقيقة وطلاب المعرفة على اختلاف مذاهبهم ومتبنياتهم الفكرية، وهكذا هم أهل البيت(ع) كالشمس ترسل نورها لكل الناس، المؤمن منهم والكافر، البر والفاجر، أو كالمطر الذي يروي ظمأ البلاد وعطش العباد دون تمييز بين غني أو فقير، ولقد كنت تجد في طلاب الإمام الصادق(ع) - الذين قيل إنهم بلغوا ما يزيد على أربعة آلاف شخص - الفقيه والمتكلم والمفسِّر والأديب والمؤرخ.

 

 وهكذا فأنت تجد في تلامذته من يؤمن بإمامته (ع) وحجية قوله - كما هو معتقد أتباع أهل البيت(ع)- وهؤلاء هم أكثرية في تلاميذه، وتجد فيهم أيضا من لا يؤمن بإمامته على النحو المذكور لكنه يؤمن بفقاهته وعلمه ويعتبره شيخاً يُرجع إليه في التعرف على أحاديث رسول الله(ص)، من قبيل الراوي المعروف بـ"إسماعيل بن زياد السكوني" الذي عُرف عنه أنه "عامي المذهب"، ومع ذلك لازم الإمام (ع) كثيرا واستفاد منه وروى عنه مئات الأحاديث، وتميّزت هذه الأحاديث بظاهرة لافتة، وهي أنّ الإمام(ع) لا يعطي فيها رأيه الخاص، بل يحدثّه عن أبيه(ع) عن آبائه(ع) عن رسول الله(ص)، والسرّ في ذلك هو أن السكوني لا يؤمن بحجية قول الإمام، وإنما يؤمن بأنّه عالم جليل يؤخذ منه ويُرد، وقد كان هذا إيمان جماعة آخرين من تلامذته (ع) كـ"طلحة بن زيد"، وغيره  .

 

  مبادئ الحوار ومرتكزاته عند الامام الصادق (ع):   

 

   ويمثل الحوار في مدرسة الإمام الصادق(ع) مرتكزا للتلاقح الفكري والثقافي، كما ويمثل أيضا المدماك الأساس في بناء العلاقات الإنسانية، فعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان لا تبنى على أساس التناحر أو التخاصم، بل على أساس التعارف والتنافس والتحاور، إلاّ أنّ نجاح الحوار يتوقف على توفير ظروفه ومناخاته وتهيئة مقدماته و شروطه، ومن أهم شروط الحوار ومبادئه عند الإمام الصادق (ع):

 

1-    مبدأ الرفق، فأنت عندما تكون رفيقا في تعاملك مع الآخرين فإنك تكسب ودّهم، وتدخل قلوبهم بدون استئذان بما يسهل عملية الحوار ويوصلها إلى نتائج طيبة ومرضية، بعيدا عن الهوى والتعصب للرأي، يقول (ع) فيما روي عنه: "من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس". (أنظر: الكافي ج 2 ص120).وقد كان(ع) يؤكد على مبدأ الرفق باعتباره منهج حياة لا بدّ أن يحكم كافة العلاقات الإنسانية، فالله رفيق ويحب الرفق (أنظر: الكافي ج2 ص118)، والرفق مفتاح النجاح، يقول (ع): "ما زوي الرفق عن أهل بيتٍ إلاّ زوي عنهم الخير"، وينقل عن جدّه رسول الله(ص) أنه قال: "ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه" (م . ن ص120)
 
2-    مبدأ احترام الآخر والاعتراف بخصوصياته الدينية والفكرية، وهذا ما عبّر عنه الإمام الصادق(ع) بكل وضوح في تأكيده على عدم التعرض لكرامات الآخرين أو النيل من أعراضهم، ولذا لما قُذف رجل مجوسي في محضره (ع) فقال للقاذف: مه، فقال الرجل مبررا قذفه له :إنه متزوج أمه وأخته! فقال(ع): "ذلك عندهم نكاح في دينهم" (م . ن).

 

3-    مراعاة آداب الحوار، وهذا الأمر مهم جداً، وقد حرص عليه إمامنا الصادق(ع) قولا وفعلا، وكان مصداقاً جلياً، لقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، وعرف عنه هذا الأمر، فلم يكن (ع) يستخدم العنف اللفظي مع أحد من الناس ولا سيما محاوريه، ولا يتمكن أحد من استدراجه ليقع في فخ الانفعال والغضب، وهذا ما شهد به أحد كبار الملاحدة، ففي إحدى حوارات تلميذ الإمام (ع) المفضل بن عمر مع ابن أبي العوجاء نجد أنّ المفضل يقسو على ابن أبي العوجاء ويُغلظ له في القول مستخدماً عبارات من قبيل: "يا عدو الله ، ألحدت في دين الله وأنكرت الباري جل قدسه.." فيجيبه ابن أبي العوجاء قائلاً: "يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر الصادق فما هكذا يخاطبنا ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وإنّه للحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستغرق حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه" (بحار الأنوار ج3 ص58).

 

4-    إلتزام الحق في أسلوب الحوار: وكان(ع) يرى أن على المحاور أن يلتزم الحق في الوسيلة كما في الغاية، ولهذا فإنّ عليه أن يبتعد عن أساليب الخداع والمغالطات اللفظية التي لا تقوم على أساس من الهدى ولا مرتكز من الحق، فمن كان الحق هدفه وإيصال الهدى إلى الآخرين غايته فعليه أن يتبع طريقاً محقا ومستقيما، لا أن يستخدم الباطل للوصول إلى الهدى، ولهذا فإنّ الإمام الصادق(ع) وبعد أن استمع إلى حوار أجراه بعض أصحابه وتلامذته مع رجل من أهل الشام أخذ يقيّم هذا الحوار، ويلفت نظر كل واحد من تلامذته إلى عنصر القوة أو الضعف في أسلوبه، ومما قاله (ع) في تقييم  تلميذه قيس بن الماصر إنك "تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يغني عن كثير الباطل". (الكافي ج1 ص173).

 

الحوار مع كل الناس

 

وباب الحوار عند الإمام الصادق (ع) مفتوح لكل الناس، ممن تتفق معهم في بعض قضايا الدين والمتقد، أو تختلف معهم في ذلك كله، وقد مارس (ع) هذا الحوار في  تجربة  غنية ورائعة ومليئة بالدروس والعبر    

 

1)    الحوار مع المسلمين الذين يختلفون معك في المذهب أو الفكر أو الفقه أو الكلام.

 

   فقد حاور العديد من فقهاء زمانه وبالحجة والبرهان، فحاور أبا حنيفة النعمان، - والذي كان يقر للإمام بالمرجعية العلمية، وقد روي عنه وقد سئل عن أفقه من رأيت؟ فقال: جعفر بن محمد"- في الكثير من قضايا الفقه وأصوله، كما في حواره معه بشأن القياس الذي كان يعتمده أبو حنيفة ورفضه الإمام، وكان الإمام يقول له: "لا تقس، فإنّ أول من قاس إبليس حين قال: "خلقتني من نار وخلقته من طين" فقاس ما بين النار والطين ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر" (الكافي ج1 ص58).

 

   وكان(ع) يرى أنّ اختلاف المسلمين في الرأي الفقهي أو الكلامي لا يجوز أن يمزقهم فرقاً متنافرة يقطع بعضهم صلة البعض الآخر أو يؤدي إلى حصول فرز فيما بينهم في المساكن أو المساجد، يقول (ع) فيما روي عنه متوجهاً إلى أصحابه: " أوصيكم بتقوى الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: "وقولوا للناس حسناً"، ثم قال: عودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم واشهدوا لهم وعليهم وصلوا معهم في مساجدهم" (المحاسن للبرقي ج1 ص18).

 

2)    وحاور الصوفية أو الأشخاص ذوي الميول الصوفية، ففي الحديث المروي في الكافي عنه(ع)يقول:" بينا أنا في الطواف وإذا رجل يجذب ثوبي وإذا عباد بن كثير البصري، فقال: يا جعفر تلبس مثل هذه الثياب وأنت في هذا الموضع، مع المكان الذي أنت فيه من علي؟! فقلت: فرقبي ( ثوب مصري أبيض) اشتريته بدينار، وقد كان علي في زمان يستقيم له ما لبس فيه، ولو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس: هذا مرائي مثل عبّاد".

 

 وفي الكافي أيضاً أن رجلاً قال للصادق(ع): "أصلحك الله ذكرت أنّ علياً بن أبي طالب كان يلبس اللباس الجيد! فقال له: إنّ علي بن أبي طالب(ع) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله" ، وجرى معه في هذا الشأن حوار مع سفيان الثوري أيضا. (أنظر: بحار الأنوار ج47 ص232).

 

3)    وحاور أيضاً "الزنادقة"، وهم الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل ولا باليوم الآخر ويشككون في ذلك كله، وقد نقلت لنا المصادر صوراً من هذه الحوارات الرائعة والتي كان يقسو فيها بعض هؤلاء في نقدهم ويسجلون اعتراضاتهم على الإمام بكل حرية وجرأة، في أقدس بقاع الأرض، أعني مكة المكرمة، ولكنه (ع) كان يقابلهم بالحجة الدامغة والكلمة الطيبة، وهناك نماذج رائعة من هذه الحوارات نأمل أن نوفق للتطرق إليها في مجال آخر .
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon