حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> متنوعة
السيد الإحيائي
الشيخ حسين الخشن



 
   في ذكراه الثالثة قد يكون من الضروري بل آن الآوان أن نقرأ السيد بوعي وموضوعية بعيدا ًعن غلواء الحب والكراهية معاً، لأن ّالعاطفة المفرطة – حباً أو بغضاً - تحجب الرؤية الصحيحة، أن نقرأه في تجربته الحركية ونتاجه الفكري والفقهي والعقدي والتفسيري، والقراءة الموضوعيّة هي أسمى تكريم للعظماء، وهي الاحتفاء والاحتفال الحقيقي بهم، لأنّه احتفال منتج وفاعل وليس احتفالاً غرضه التمجيد والمديح وحسب، والسيد بالتأكيد يستحق كل مديح وثناء، ولكنه كان يرفض ذلك، ويرى أن إحدى مشكلاتنا أننا أمة نتقن المديح أكثر مما نتقن العمل المفيد، ولذا امتلت قواميسنا بكل ألفاظ الجلالة والفخامة والسماحة.. وتجدر الإشارة إلى أنّ المديح ليس بالضرورة أن يعبر عن محبة صادقة، ولذا فإنّ المتزلفين يتقنون جيداً لغة المديح .

 

إنّ القراءة الموضوعية والناقدة لنتاج المفكرين وتجاربهم ستسمح ليس فقط بالإفادة من تجاربهم وتراثهم، بل بالبناء والمواكبة عليها وتطويرها نحو الأفضل.

 

مزاياه وملكاته

 

ومن بين كل المزايا والملكات والصفات التي قد كانت في السيد (المفكر، الأديب، الشاعر، المفسر، الفقيه، المصلح، المجاهد، الحركي، والداعية الرسالي) يهمني أن أضع يدي على أهم ما في السيد بحسب اعتقادي، وهو السيد "الإحيائي" وسوف أفضل هذا المصطلح وأقدمه على سواه، لعدة اعتبارات أهمها:

 

 أنّه مصطلح قرآني بامتياز، فقد حدثنا القرآن الكريم عن أنّ دعوة الأنبياء وعلى رأسهم نبينا وسيدنا محمد (ص) هي دعوة إحيائية، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، فالدين رسالة حياة وإحياء، والرسل هم القادة الإحيائيون، ومهمة خلفاء الرسل وورثتهم الروحيين أن يواصلوا رسالة الإحياء.

 

الحاجة إلى عمليّة الإحياء

 

والإنسان بحسب طبيعته التي تتجاذبها النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء، تراه في الأعم الأغلب يسقط في شباك النفس الأمارة بالسوء ويخلد إلى الأرض وينشد إلى الطين، ليصل الأمر به إلى مستوى يلامس حد الوحشية، بل يزيد عليها، فتراه يظلم ويبطش ويقتل ويذبح، وأخطر ما في الأمر أنّه قد يمارس الذبح "المقدس" ليذبح باسم الله! الأمر الذي يجعله بحاجة مستمرة إلى من يوقظ فيه حسن الإنسانية ومن يوقظه من "سبات العقل"، ويعيده إلى صفاء الفطرة ونقاوة الروح،  إنّ الإنسان  - باختصار - بحاجة مستمرة إلى عمليّة إحياء متجددة، ووظيفة الرسل والأنبياء وكذا ورثة الأنبياء أن يحيوا الموتى، لا أقصد موتى الأجساد، بل موت القلوب والأرواح والعقول، ووظيفة الرسول (ع) في هذا المجال تشبه وظيفة الطبيب، إلاّ أن الثاني هو طبيب الأجساد، بينما الرسول هو طبيب القلوب، يقول الإمام علي (ع) في وصف رسول الله (ص): "طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي وآذان صم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة.. ".

 

من هو الإحيائي؟

 

وفي ضوء ما تقدم، يبدو واضحاً أنّ الإحيائي شخصية استثنائية، وليس من السهولة أن تنجب الأمة  شخصية إحيائية، إذ ليكون الشخص إحيائياً فلا بدّ أن يتوفر فيه عدة مواصفات تضاف إلى فقاهته وبصيرته : 

 

1- أن يكون رسالياّ شجاعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تأخذه في قول كلمة الحق لومة لائم أو تجريح منتقد، إن ّالإحيائي لا بدّ أن يملك عقلاً نقدياً كما يملك بصيرة نافذة.

 

2- أن يكون حاضراً في الميدان، فالإحيائي لا يعتكف ولا ينعزل في صومعة الرهبان، الإحيائي لا بدّ أن يقرأ كتاب الحياة أكثر مما يقرأ في الكتب المسطورة.

 

3- أن يكون محباً للناس، لأنّك لن تتربع على عرش القلوب بمرسوم سلطاني أو بمال أو قوة قاهرة ولا بنظرياتك الجافة وأفكارك التجريدية، بل بقلبك النابض بالحب، بفكرك النابض بالروح.

 

ورحم الله السيد فقد كان كذلك، كان الفدائي الذي لا تأخذه لومة لائم، وكان الحاضر في وسط الساحة وفي معترك الحياة، وكان صاحب القلب الكبير والصدر الذي يفتح قلبه وبيته لكل الناس كان شعاره حتى الرمق الأخير: "لأني أحبكم جميعاً" وهذه الجملة قد تبدو سهلة في اللسان ولكنها ثقيلة في الميزان، لأنّه ليس من السهل أن تعيش وأنت الكبير في عقلك وطموحك وكثرة همومك مع الصغير والكبير مع الشاب والشيخ، وفي الناس - كما نعلم -  الشخص المتعجرف والثقيل.. فأن تحتضن كل هؤلاء وتحبهم جميعاً فذاك ما يحتاج إلى همة عالية وصدر رحب، ولطالما كان السيد يردد أنّ قوله تعالى {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه...} لا يختص برسول الله (ص)، بل هي خطاب لكل الرساليين.

 

 لقد كان السيد رحمه الله يتتقن فن الحب ولغته، فالحب في مدرسة السيد رسالة ودعوة، فهو يدعوك لأنّ تعيش الحب مع الله "يا حبيب من تحبب إليك ويا قرة عين من لاذ بك وانقطع إليك"، وهو يدعوك إلى أن تخلص في الحب ولا تشرك مع الله أحداً في حبك، لتحب الله ومن يحبه الله "اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك".

 

والحب في مدرسة السيد هو الشرط الأول لنجاح الدعوة الإحيائية "فالحب حياة والحقد موت"، والحب لا يقبل التجزأة فعليك أن تحب كل الناس "أن نحب الذين يتفقون معنا لنتعاون معهم وأن نحب الذين يختلفون معنا لنتحاور معهم"، ومن هنا  فإن عليك أن لا تبغض أحداً، حتى الكافر، فإنّنا نبغض فيه كفره وعصيانه، ولا نبغض فيه شخصه.

 

ساحة عمل الإحيائي

 

إنّ الإحيائي لا بدّ أن يتحرك على خطين متلازمين: 

 

الخط الأول: هو إحياء النفوس.

 

 والثاني هو إحياء النصوص، وإحياء النفوس إنّما يكون على هدي النصوص.

 

وإحياء النفوس معناه أن تربطها بالله، لأنّه هو حياة القلوب {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، وإحياء النفوس معناه أن تبقى جذرة الأمل فيها متقدة، فلا تشعر الناس باليأس والقنوط، "الفقه كل الفقيه من لم يقنط من روح الله."

 

وإحياء النفوس لا يقتصر على إحياء الأفراد، بل يمتد إلى إحياء الأمة ككيان اجتماعي، وشتان بين حياة الفرد وحياة الأمة، فالأمة لها شخصيتها وكيانها المستقل عن شخصية الفرد وكيانه، إنّ للأمة حياتها كما للفرد حياته، إنّ للأمة طفولتها وشبابها وشيخوختها كما أنّ للفرد طفولته وشبابه وشيخوخته، وأنّ للأمة موتها كما للفرد موته، ولا ملازمة بين الأمرين، فقد يكون الفرد شاباً والأمة هرمة، وقد يكون الفرد حياً والأمة ميتة، ألا ترون الآن إلى حالنا فنحن كأفراد نعيش برخاء وفينا الشباب المبدعون ولكننا كأمة نعيش في الحضيض، إنّ أمتنا تعيش شيخوخة حضارية، هذا إذا لم أقل موتاً حضارياً.

 

 ومهمة الإحيائي أن يعمل على إحياء الأفراد بنور الهدى، وهذه مهمة جليلة وعظيمة قال تعلى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}، وفي الحديث عن بعض أئمة أهل البيت (ع) في تفسير الآية المذكورة :"أخرجها من ضلال إلى هدى.."، ولكن المهمة الأصعب بالنسبة إلى الأحيائي هي أن يعمل على إحياء الأمة.  

 

شروط عملية الإحياء

 

ولكن كيف نحيي الأمة؟ 

 

إنّه السؤال الذي شغل ولا يزال يشغل المفكرين والمصلحين والإحيائيين... ويمكننني باختصار أن أشير إلى بعض شروط عملية الإحياء:

 

1- أن تحيي الأمة معناه أن تملك الثقة بأمتك وتراثها، وتثق بذاتك وطاقاتها، ذاتك الحضارية، أن لا تعيش عقدة النقص إزاء الآخر، فعقول الآخرين ليست أفضل من عقولنا، إنّ فينا قوة ثقافية وروحية لو استطعنا الإفادة منها وتوظيفها لكنا في موضع القدوة للعالم كله.

 

2- أن تحيي الأمة أن تفكر في كل أسباب تخلفها وتمزقها وتناحرها وتعمل على دراسة هذه الأسباب وتفكيكها وتذليلها.

 

3- وأن تحيي الأمة أن تعيد الحيوية إلى القوة المحركة لإسلامها، والقوة المحركة للإسلام هي الاجتهاد، فالعقل الاجتهادي لا بدّ أن يتحرر من كل الآصار التي أثقلته وعطلته عن الإبداع وجعلته عقيما ًعن الإنتاج، لتغدو أمام مكررات من الآراء والمتون الفقهية والرسائل العملية.

 

والاجتهاد الذي نريده ليس اجتهاداً في مقابل النص بل في فهم النص.

 

والاجتهاد الذي نتطلع إليه ليس اجتهاداً متحرراً من النص بل اجتهاداً لا تأسره حروف النص، نريده اجتهاداً يقرأ ما وراء النص وما بين سطوره اجتهاداً رؤيوياً مقاصدياً وليس اجتهاداً تجزيئياً تفكيكياً.

 

والاجتهاد الذي نريده هو الاجتهاد الذي يقرأ النص في ضوء الواقع وتحدياته وليس اجتهاداً يقرأ النص في الزنازين المظلمة البعيدة عن نبض الحياة.

 

نريده اجتهاداً يبني لنا الحياة ويقدم الحلول، اجتهاداً يسهم في تحقيق الأمن الأخلاقي والروحي والاجتماعي.

 

نريده اجتهاداً يعمر ولا يدمر ولا يخرب، اجتهادا يركز على الجوامع لا أن يوسع الفوارق، اجتهاداً إسلامياً وليس مذهبياً، اجتهاداً قرآنياً وليس أخبارياً.

 

هكذا كانت رؤية السيد الإحيائية، والإحيائيون لا يموتون وإن غادرتنا أجسادهم "فالذكر الجميل إحدى الحياتين" و"العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة".
 

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon