حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » حوارات وأجوبة حول المخلص المهدي
ج »
أولاً: إنّ فكرة المخلص فكرة عالمية ممتدة ومنشرة عند كل أتباع الأديان، وقد بشرت الرسالات الإلهية بهذا المخلص الموعود لنشر راية العدل في ربوع الأرض، وهذه الفكرة تستجيب لتطلع وجداني لدى كل واحد من بني الإنسان وهو تطلع منبعث من واقع بشري يسوده الظلم والاضطهاد ، فلولا وجود هذا المخلص الذي على يديه يتم انتشال المعذبين والمظلومين مما يعانونه لكان ذلك مبعث تشكيك في حكمة الخالق عزّ وجلّ، الذي خطط لجعل الإنسان خليفة له على الأرض، ولن يجعل عليها خليفة ليملأها ظلماً وفساداً على امتداد الزمن. هذه هي الفكرة العامة المتسالم عليها والقطعية والتي لا يختلف فيها أتباع معظم الشرائع السماوية بشأن المخلص.

 

 

ثانياً: حيث كان الإسلام هو الشريعة الخاتمة لكافة الشرائع السابقة كان من الطبيعي أن ينبثق المخلص العالمي من رحم هذه الرسالة الإسلامية الخاتمة وأن يحمل رسالته وينشرها في ربوع المعمورة؛ وبالتالي وحيث كان مشروع المهدي هو مشروع الخلاص العالمي فمن الطبيعي أيضاً أن ينخرط فيه كل الإلهيين والمخلصين للحق والعاملين للعدالة.

 

 

ثالثاً: إننا نعتقد أنّ الواجب الأهمّ على كلّ مسلم يؤمن بمشروع المهدي هو العمل ليل نهار لتهيئة الأرضية الملائمة وإعداد المقدمات لهذا المشروع الإلهي والتغييري الكبير، لأنّ هذه المشروع لن يتحقق ولن يصل إلى غاياته المنشودة بسلوك طريق إعجازي، وإنما يعتمد على جهود المخلصين وجهادهم. وهذا المقدار يفترض أن يشكل نقطة جمع نتقاطع بها مع الأشخاص الآخرين المؤمنين بالمهدي؛ حتى لو كنّا نعتقد - كإمامية - أن المهدي قد وُلد، بينما يعتقد الآخرون أنه سيولد في قادم الأيام. 

 

 

رابعاً: إنّ لاعتقادنا وإيماننا بولادة المهدي ووجوده بيننا تأثيراً نفسياً كبيراً علينا، حيث إن معرفتنا بوجود الإمام بيننا وأنه منتظر لنا وومترقب لجهودنا، يعطينا دفعاً كبيراً للعمل والانخراط بمشروع التمهيد لهذه المدينة الفاضلة التي يحلم بها كل الإنسان.

 

 

خامساً: إننا لا نوافق على الفكرة القائلة إن المهدوية رتبة بشرية يصل إليها المرتاض والمتعبد، بل الصحيح أنّ المهدي (ع) هو شخص محدد في علم الله تعالى وهو يمثل خلاصة القادة الصالحين الذين يجاهدون في الله حق جهاده، والذي يروضون أنفسهم، وقد صُنع على عين الله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }[طه:39].

 

نقول هذا، على الرغم من اعتقادنا أن الإنسان بممارسته للرياضة الروحية قد يصل إلى مراتب عالية جداً في خط السير والسلوك إلى الله تعالى. لكن المخلص لا بد أن يكتسب بالإضافة إلى الكمالات الروحية، كمالات من نوع آخر، وعلى رأسها: المعارف العليا التي يحتاجها في قيادة المشروع الإلهي بالإضافة إلى اللياقات القيادية الخاصة (الكاريزما) التي تجعل البشرية منجذبة إليه ومنقادة لطرحه ولقيادته.

 

 

سادساً: قصة ولادة المهدي باعتقادي لا يمكن إثباتها من خلال بعض الأخبار المتفرقة هنا وهناك والتي تتحدث عن الولادة بشكل مباشر؛ إنّ هذه الأخبار قد لا تفيد اليقين، والحال أن المسائل الاعتقادية تحتاج إلى توفر اليقين.

 

وإنما طريقنا في إثبات هذه الولادة هو الاعتماد على حساب الاحتمالات وتجميع القرائن، وهو طريق عقلائي يرتكز على جملة من العناصر التي يحصل - بضم بعضها إلى البعض – اليقين بحصول الولادة، وطبيعي أن الروايات المذكورة على رأس تلك العناصر التي تؤخذ بعين الاعتبار في حساب الاحتمالات.

 
س » هل عزف الإمام الصادق عن السلطة بسبب تفرغه للعلم؟
ج »

 لا نعتقد أنه كان متاحاً للإمام الصادق (ع) تولي السلطة بيسر، إذ كيف يعزف عمّا هو حقّ له، وهو الأعلم والأكفأ في إدارة شؤون الأمة، وليس ثمة ما يشير إلى أن تغيير الحكم كان متاحاً ولو بثورة على النظام، ومع ذلك ركن الإمام إلى السلطان الظالم، وعزف عن السعي لتولي السلطة؛ وإنما الصحيح أن عزوفه كان ناتجاً عن قراءة دقيقة للأحداث وهي قراءة تفضي إلى ضرورة تجنب الثورة، بسبب أن توازنات القوة التي تحكم تلك المرحلة لم تكن في مصلحة العلويين وعلى رأسهم الإمام الصادق (ع) فما كان متاحاً أمامهم تشكيل قوة اجتماعية سياسية وازنة تمكنهم من استلام السلطة؛ لذلك كان الأئمة (ع) ينصحون الثائرين العلويين بالتريث في الخروج، كما نجد في نصائحهم (ع) لزيد الشهيد وكما نجد نصائح الصادق (ع) للثائرين الحسنيين كمحمد بن الحسن (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم. إنّ هذه النصائح واضحة في إرشاد هؤلاء الثوار إلى أنّ الظروف كانت غير ملائمة لنجاح الحركة الثورية في ذلك الوقت.


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: مسجد ضرار
الشيخ حسين الخشن



وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)  - سورة التوبة

 

قصة الآيات

 

قصة هذه الآيات هي قصة الإيمان والنفاق، قصة الزهد المخادع، قصة الحسد والضغينة التي تحرق الإيمان، وتهلك الإنسان، وترديه المهالك وتجعله عند الله أهون هالك، وإليك القصة:

 

صمم جماعة من المؤمنين من بني عمرو بن عوف من الأنصار، على اتخاذ مسجد يقيمون فيه الصلاة تقرباً إلى الله وقد طلبوا من رسول الله (ص) أن يأتيهم ليصلي في مسجدهم، فلبى النبي(ص) الطلب، وصلى في المسجد الذي أصبح له ذات يوم شأن عظيم وهو مسجد قباء، في هذه الأثناء شعرت جماعة من أقربائهم بالحسد الشديد، فاجتمعوا والحسد يغلي في نفوسهم، وقالوا فلنبنِ نحن أيضاً مسجداً نصلي فيه

 

ووصلهم في هذه الأثناء – حسب ما تنص بعض المصادر – اقتراح من رجل معادٍ لله ولرسوله، ينص هذا الاقتراح على دعوتهم لبناء مسجد، فمن هو هذا الرجل صاحب هذا الاقتراح؟ وما هي قصته؟

 

إنّه أبو عامر الراهب، وكان من قصته أنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما بُعث النبي (ص) وهاجر إلى المدينة واجتمع أهلها من الأوس والخزرج (الأنصار) حوله شعر أبو عامر بالحقد والحسد! فلمَ لا يكون هو الرسول الذي تلتف حوله الناس وهو الراهب الزاهد والمتنسك؟! وهكذا ساقه حسده وحقده، ليكون في الصف المعادي لرسول الله(ص).

 

وأرسل إليه النبي (ص) ليلقي عليه الحجة ويتلو عليه آيات القرآن الكريم التي تأخذ بمجامع القلوب، فأبى أن يسلم عنادا ًوحقداً وترك المدينة وانحاز إلى المشركين في مكة، وخرج معهم في المعارك التي خاضوها ضد رسول الله (ص)، وكان يحثّ القرشيين على طلب ثأرهم من النبي (ص) بعد هزيمتهم في بعض حروبهم معه، ولما فتح النبي (ص) مكة هرب منها إلى الطائف، ولما أسلم أهل الطائف لم يرض بأن يدخل في الإسلام، (إنه - بحق - مصداق جلي للشخص الذي ختم الله على قلبه وسمعه وبصره غشاوة)، فلحق بالشام، ثم خرج إلى بلاد الروم وتنصّر (أي اعتنق النصرانية)، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ يفكر في محاربة النبي(ص) واستئصال الإسلام، فراسل المنافقين في المدينة، ومنهم هؤلاء الجماعة من بني عوف، وقال لهم في رسائله: استعدوا فإنّي سأذهب إلى قيصر وآتي مع جنوده  وأخرج محمداً من المدينة، واقترح عليهم أن يبنوا مسجداً كمرصد لهم وله في حال عودته يجتمعون فيه ويكون المعقل الآمن وغير المشبوه الذي ينطلقون منه لمحاربة الدولة الفتيّة والكيد لها.( واللافت أنّه كان لأبي عامر هذا ولد  مؤمن وله شأن عظيم إنّه حنظلة غسيل الملائكة، ولعلنا نعود إلى قصته في مناسبة أخرى).

 

وهكذا تلاقت الرغبات، فهؤلاء المنافقون من بني عوف أرادوا - من جهتهم - بناء مسجد لهم، حسداً لنظرائهم من بني عوف "ولعل أبا عامر يصلي فيه"، كما قال بعضهم، وهذه علامة نفاق واضحة، وأبو عامر - من جهته - يريد بناء مسجد، ليكون مرصداً ومنطلقاً لمواجهة الإسلام، وهكذا كان، فباشروا في بناء المسجد.

 

ولكي يسبغوا – أعني المنافقين – مشروعية على هذا المسجد ذهبوا إلى النبي (ص) وقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلي فيه وتدعو بالبركة، فقال النبي (ص): إنّي على جناح السفر – وكان سائراً إلى غزوة تبوك – ولو قدمنا أتيناكم ان شاء الله، فصلينا لكم فيه.

 

ذهب النبي (ص) إلى تبوك، وفي منصرفه منها نزلت عليه الآيات التالية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا  لتفضح هؤلاء ونواياهم الخبيثة، وتقرر – أي الآيات - أنّ هذا المسجد هو مسجد ضرار، أي لا يريد بانوه سوى مضارة أهل مسجد قباء، بل هو مسجد كفر وإرصاد لمن حارب الله ورسوله (وهو أبو عامر الراهب) ، فأرسل النبي (ص) بعض أصحابه وأمرهم بتخريبه وهدمه.

 وهكذا دخل هذا المسجد في سجلات التاريخ، كما دخل مسجد قباء فيها، ولكن شتان بين المسجدين، فأحدهما: وهو مسجد قبا دخل في سجلات التاريخ الناصعة، بعد أن خلّده الله تعالى بقوله لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ولذا تحول إلى محجة يؤمه المؤمنون إلى يومنا هذا. والآخر: دخل هو وبانوه في سجلات الغدر والخيانة والنفاق، وقد خلد الله قصته أيضاً بقوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1)

 

 

دروس الآية

 

الدرس الأول: هو درس الإخلاص في العمل، بأن تكون أعمالنا كلها لله وحده، عندما نصلي أو نصوم أو نحج أو نجاهد أو نتصدق أو نبني مسجداً.. قال تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (البينة - 5)، وقال سبحانه وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18 - الجن) والعمل عندما يكون لله تعالى، فإنّه ينمو ويزكو ويثمر، "ما كان لله ينمو"، أما إذا كان لغير الله، فكان دافعه الحسد والحقد والغدر أو الرياء والعصبية فإنّه سيبور وينهار ولن يزكو ولن يثمر عند الله. وإنّ الله لا ينظر إلى حجم العمل الذي نعمله في سبيله، بل ينظر إلى قلوبنا ونوايانا "إنّما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى"، كما ورد في الحديث النبوي الشريف 2 وميزان الله لا يزن كمية العمل، وإنّما يزن نوعيته، فهل أعمالنا لله أم لا ؟ عندما نبني مسجداً أو نتصدق على فقير أو مسكين فلمن نعمل ذلك ؟ راقبوا نوايكم جيداً، أو دعني أصحح كلامي فأقول: لنراقب نوايانا جيداً حتى لا نكون ممن تحدث عنهم الله تعالى في قوله قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) (سورة الكهف).

 أسمعتم بقصة مسجد بهلول؟ بهلول كان في زمن هارون الرشيد وكان يتظاهر بالجنون وهو من أعقل الناس، وله كلمات وتصرفات عجيبة تدل على حكمته وتدينه، وذات مرة يجد مسجداً قد بني للتو وكتب عليه مسجد فلان (اسم الباني) بناه قربة إلى الله تعالى، فجاء بهلول إلى هذه العبارة ومحاها وكتب بدلاً عنها "مسجد بهلول"، ولما عرف باني المسجد بالأمر غضب غضباً شديداً وذهب إلى هارون وشكى إليه فعل بهلول، فأمر هارون بإحضار بهلول، ولما حضر قال له الرجل: كيف تفعل ذلك يا بهلول؟! بهلول: وماذا فعلت؟ الرجل: أزلت اسمي عن مدخل المسجد ووضعت اسمك، فأنا دفعت المال لبناء المسجد وأنت تسرق جهدي وتضعه باسمك؟! بهلول: ألست قد بنيته لله وابتغاء مرضاته؟ الرجل: طبعاً بنيته لله! بهلول: على ماذا تخاف إذاً، فالله لن يضيع عنده أجر من أحسن عملاً، فسواء كان باسمي أو اسمك فالله لن تشتبه عليه الأمور، إلاّ أن  تكون بنيته ليشكرك الناس ويمتدحوك؟

 

الدرس الثاني: إنّ الحسد مرض قاتل، يردي صاحبه ويورده المهالك، ويحرق إيمانه، كما تحرق النار الحطب، وفي الآيات وما ورد في نزولها نجد نموذجين جليين لمخاطر الحسد وعواقبه الوخيمة:

 

1- النموذج الأول هو أبو عامر الراهب، والذي كان زاهداً متنسكاً، ولما بعث الله محمداً رسولاً كان يفترض به أن يكون من أوائل من يدخل الدين الجديد، لكنه رفض الإسلام وامتلأ قلبه بالحسد، لأنّ الله لم يختاره ليكون هو النبي وليس محمداً، ولذا حقد على النبي(ص) وظل الحسد يغلي في قلبه إلى موته، ودخل العرب جميعاً في الإسلام إلا هو ذهب إلى قيصر الروم، ليطلب مساعدته على قتال النبي (ص) ! 

2-  النموذج الثاني: هم جماعة المنافقين من بني عوف الذين دفعهم حسدهم لأقاربهم لبناء مسجد الضرار، ففضحهم الله وكتب عليهم الشقاء والهلاك بسبب حسدهم وحقدهم، كما كتب الشقاء على أبي عامر الراهب لحقده.

 

الدرس الثالث: ضرورة الحذر والتنبه، وعدم الاغترار بالمظاهر المخادعة، فإنّ أعداء الإسلام والمنافقين يعملون بدهاء في سعيهم لتخريب الدين عن طريق الدين، فأبو عامر والمنافقون لم يبنوا لهم مركزاً مفضوحاً، لمحاربة الله ورسوله، وإنما بنوا مسجداً، ليخدعوا الضعفاء والبسطاء، وليشكل ذلك غطاءً جيداً لأعمالهم الخبيثة ونواياهم الشريرة، وفي زماننا هذا نجد أنّ بعض الطامحين إلى السلطة أو الغارقين في الشهوات والذنوب أو بعض السلاطين المستبدين والمستكبرين يبنون المساجد الفخمة والجميلة والمزركشة بأفضل أنواع  الزخارف ولدى التدقيق تجد أنّهم لا يفعلون شيئاً من ذلك لله، وإنما لأجل مصالح سياسية وسلطوية ومادية رخيصة، إنّها في حقيقة الأمر مساجد بنيت ضراراً وخداعاً، ولم تبن على أساس التقوى. وكمْ حورب الدين باسم الدين! ألم يحارب علي (ع) يوم صفين باسم القرآن عندما رفعت المصاحف في وجهه؟! وانطلت الحيلة على الكثيرين من السذج وترتب على ذلك تغيراً خطيراً في مسار الأحداث، ألم يحاول إعلام السلطة أن يبرر قتل الإمام الحسين بحجة "دينية"، وهي زعمهم أنّه "خرج عن حدّه فقتل بسيف جده"؟! وهكذا فإنّ أمكر أساليب مواجهة الدين والمؤمنين هو بناء المساجد على قاعدة مساجد الضرار.

 

 وهكذا نلاحظ  أنّ بعض الناس المتدينين بحسب الظاهر والذين يرتادون المساجد سواءً في القرى أو المدن يندفعون في بعض الأحيان لبناء مسجد هنا أو هناك، وعندما تبحث عن الخلفيات تكتشف أنّ الباعث لبنائها ليس هو رضوان الله، وإنما المنطلق لهم في بنائها هو بعض العصبيات، إذ كيف تبني العائلة أو العشيرة أو الجماعة الفلانية مسجداً لها ونحن لا مسجد لنا هذا الأمر يسيء إلى سمعتنا ! فلا بد ّإذن أن نبني مسجداً أفضل من مسجدهم ! وهكذا يبني هؤلاء مسجداً، ويبني أولئك مسجداً، ومع الوقت يحصل نزاع وتنشب خلافات وانشقاقات بين المؤمنين أنفسهم باسم المساجد، فهؤلاء من أنصار هذا المسجد، وأولئك من أنصار المسجد الآخر!! إنّ هذه المساجد التي تبنى على هذه الأسس هي مصاديق واضحة لمساجد الضرار،  والله عز وجل لن يبارك بها.

 

الدرس الرابع: أنّ الترهّب والزهد قد يكون خداعا وكذباً ولأغراض دنيوية، كما هو الحال في زهد أبي عامر الراهب، وإلاّ لو كان هذا الرجل راهباً وزاهداً بحق وكان هدفه مرضاة الله لاتبع النبي (ص) وعرف النور الذي معه، وهكذا هم بعض المترهبين إنّهم من طلاب الدنيا والجاه، ولكن لما لم يحصلوا على الدنيا من أسبابها المباشرة إذا بهم يأتونها عن طريق الدين، فيتخذونه مطية لأهدافهم، أسمعتم قصة ذاك الرجل الذي سعى للرئاسة والثروة عن طريق الدنيا فلم يتسن له ذلك فطلبها عن طريق الدجل باسم الدين؟ جاء في الرواية عن أبي عبد الله الصادق (ع)  "كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها فطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال: يا هذا قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها، وطلبتها من الحرام فلم تقدر عليها، أفلا أدلك على شيء يكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟ - قال: نعم، قال: تبتدع ديناً وتدعو إليه الناس، (قال:)، ففعل، فاستجاب له الناس فأطاعوه وأصاب من الدنيا (قال:) ثم إنه فكر وقال: ما صنعت شيئاً؟ ابتدعت ديناً ودعوت الناس إليه، ما أرى لي توبة إلا أن آتي من دعوته إليه فأرده عنه (قال:) فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول: إنّ الذي دعوتكم إليه باطل وإنما ابتدعته كذباً، فجعلوا يقولون له: كذبت، هو الحق ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه (قال:) فلما رأى ذلك عمد إلى سلسلة فأوتد لها وتداً ثم جعلها في عنقه فقال: لا أحلها حتى يتوب الله علي، (قال:) فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان بن فلان: وعزتي وجلالي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتى ترد من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه 3.

 

ولهذا فلا نغتر بكل من لبس لباس أهل الدين، فقد يكون منافقاً، أو متجراً باسم الدين، وعلينا أن لا ننخدع بظاهر هؤلاء، وإنما نختبر أمثال هؤلاء من خلال سلوكهم وورعهم وتقواهم، لا من خلال طول لحاهم أو إسدال حنك عمائمهم .   

 

 

1-مصادر القصة: تفسير القمي ج 1ص 305، التبيان للشيخ الطوسي ج 5ص 297، تاريخ المدينة لابن شبةج1 ص55، جامع البيان للطبري ج11 ص 31 وما بعدها.

2-التهذيب للشيخ الطوسي ج 4 ص 186،وصحيح البخاري ج 1 ص2

3-المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج1 ص207.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon