حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
المنهاج النبوي في الأخلاق
الشيخ حسين الخشن



 

المنهاج النبوي في الأخلاق

 

في ذكرى مولده يطيب لي أن أطلّ على ما أعتقد أنّه جوهر رسالته (ص)، ألا وهو القيم الأخلاقية السامية التي دعا لإرسائها في المجتمع البشري باعتبارها سفينة النجاة للإنسان الغارق في الوحول والبعيد عن القيم.

 

 

1-   الأزمة الأخلاقية

 

ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ مشكلة الإنسانية في جوهرها كانت ولا تزال مشكلة أخلاق، لأنّه وبنظرة بسيطة إلى الأزمات والمشاكل الإنسانية المتنوعة، السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، نجد أنّها - في العمق - تنطلق من اختلال أو فقدان الضوابط الأخلاقية، فالوحشية غير المسبوقة التي نشهدها في أيامنا والتي تدفع الإنسان لافتراس أخيه الإنسان وذبحه دون أن يرف له جفن هي تعبير عن هذه الأزمة الأخلاقية، وكذلك التهتك الذي وصل إلى حد الفجور وشرعنة الشذوذ يعبّر هو الآخر عن أزمة أخلاق، وكذلك هو الحال في الأزمة الإقتصادية المتمثلة بكل أشكال الجشع والطمع والإثراء غير المشروع هو في جوهره تعبير عن انعدام الإحساس لدى الإنسان.. وهذه الأزمات الأخلاقية آخذة بالتصاعد من زمن لآخر.

 

ولا يخطىء من يطلق على زماننا هذا بإنّه زمان التلوّث الأخلاقي، وهذا النوع من التلوث هو أخطر بكثير من التلّوث المادي، فالتلّوث المادي - على خطورته - يبقى أقل خطورة من التلوث الأخلاقي والروحي والفكري، لأنّه بانعدام الأخلاق فعلى الإنسانية السلام، ولذا أعتقد أنّه كما لدينا وزارة تعنى برصد التلوث المادي ووضع البرامج والحلول والعلاجات المناسبة له، فأننا بحاجة ماسة إلى وزرات تعنى برصد التلوث الروحي والأخلاقي.

 

ومن هنا ولأهميّة الأخلاق ولأنها تمثّل حجر الأساس في بناء الحياة الإنسانية، كان جوهر كل الرسالات السماوية في بعدها الاجتماعي والإنساني هو الأخلاق، ولم يكن عبثاً أنّ الرسول الأكرم (ص)يختصرهدف بعثته ونبوته بالقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم ألأخلاق"، وتستوقفنا هنا عبارة "أتمم"، فهو لا يلغي ولا يهدم ما قبله، بل يتكامل معه..وهكذا كانت التزكية إحدى مهام النبي (ص)، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة 2].

 

 

2-   الأخلاق روح الدين

 

 وقد رأى الإسلام أنّ المشكلة الأخلاقية هذه لا حلّ لها إلاّ بمنهج متكامل يرتكزعلى قاعدة أساسية، وهي قاعدة الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بالله هو الركيزة والمرجعية  التي ستضفي على الأخلاق فاعليتها، وذلك من خلال هذا البعد الرباني الذي تضفيه عليها، حيث تغدو ممارسة الأخلاق عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وفي عقيدتنا فإنّه لن يتسنى لأي منظومة أخلاقية أن تمنح الإنسان الاستقرار التام والشامل إلاّ بالارتكاز على قاعدة الإيمان بالله، ولذا تكون عودة الإنسان - اليوم -  إلى الله تعالى شرطاً ضرورياً لاستقراره الاجتماعي والنفسي والروحي .. والعلاقة السويّة بالله تعالى هي التي ستمنح هذا الإنسان الذي يعيش القلق والتوتر والتشرذم.. سلاماً داخلياً وسلاماً اجتماعياً.

 

 هذا على مستوى النظرية، وأمّا على مستوى الواقع الخارجي، فإنّ ما يؤسف له أن الدين قد غدا عنصر توتر وعامل خوف وقلق لدى كثيرين بسبب تصرفات وممارسات بعض الجماعات المنتسبة إليه، وتحمل إسمه ولكنها جاهلة بمقاصد الدين ومتشددة في تطبيقه، والحقيقة أنّ هذا الواقع يؤكّد حاجتنا إلى منهج أخلاقي يعمل على أنسنة "الدين" الذي صنعته هذه الجماعات لنفسها.

 

 

وفي ضوء هذا، وضع الإسلام منهجاً تربوياً أخلاقياً متكاملاً لا يقتصر على الوصايا والإرشادات الأخلاقية، بل إنّ الروح الأخلاقية – طبقاً لهذا المنهج - سارية في كل المنظومة العقدية والفقهية التي ابتنى عليها الإسلام، وتوضيح ذلك:

 

إنّ المعروف لدى علماء المسلمين أنّ المعارف الإسلامية منها ما يتصل بالجانب النظري، وهو العقيدة، ومنها ما يتصل بالجانب السلوكي وهو الفقه، والأخلاق، والذي أراه أن الأخلاق ليست صنفاً مغايراً للعقيدة والشريعة، بل لا تنفصل عن المعارف الإسلامية برمتها بما في ذلك المنظومتين العقدية والفقهية، فالمنظومة الاعتقادية ترمي – في بعدٍ أساسي من أبعادها - إلى تزكية النفس وإصلاحها، فالإيمان بالله لا بدّ أن ينعكس على سلوكنا العملي، ومن هنا ورد في الأحاديث الشريفة: "لا إيمان لمن لا حياء له"[1]، أو "لا إيمان لمن لا أمانة له"[2]، أو "لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يأمن جاره بؤائقه"[3]، وورد أيضاً: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع"[4]، إلى غير ذلك من أمثال هذه التعبيرات الرائعة التي تعبر عن واقعية الإيمان بالله تعالى وتفاعلية المؤمن مع الآخرين من بني الإنسان.

 

 والإيمان بمحكمة العدل الإلهي يوم القيامة لا بدّ أن ينعكس – هو الآخر - على أخلاق الفرد المؤمن وتعامله مع الآخرين ، بما يساهم في تشكيل محكمة داخلية لديه تمارس دور الرقابة والتنبيه والتوجيه بما يسهل عليه الوقوف في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة.

 

 وكذلك الإيمان بالنبي الأكرم(ص)، فإنّه ليس مجرد عقيدة تجريدية لا تمتّ إلى حياة الإنسان بصلة، كلا، فمحمد (ص) ليس مجرد طوباوي ندّخره ليوم الخلاص الأخروي، بل هو مثل أعلى للإنسانية جمعاء لا بدّ أن نتمثله في أخلاقه وهديه ونجسّد ذلك كله في حياتنا وسلوكنا.

 

باختصار: إنّ الربانية هي أهم ميزة في الأخلاق الإسلامية، فالأخلاق لا يمكن فصلها عن الإيمان، والإيمان لا صدقية له بدون أخلاق، إنّ بينهما رابطاً وثيقاً، ولا إيمان لمن لا أخلاق له، وقد ورد في الحديث عنه (ص): "الدين النصيحة"[5]، وعن علي (ع): "الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك"[6].

 

 

الفقه والأخلاق

 

 وبالإنتقال إلى المنظومة الفقهية، فإنّنا نعتقد أنّ الفقه أيضاً لا يمكن إبعاده عن الأخلاق، بل إنّ الأخلاق هي روح الفقه وجوهره، كما هي روح العقيدة، ويفترض بالفقيه أن يأخذ البعد التربوي والأخلاقي بنظر الاعتبار في عمله الفقهي الاجتهادي، حتى لا نكون - أحياناً - أمام فتاوى يغيب عنها البعد التربوي، وقد يستغرب الإنسان من النمط الفقهي السائد والذي يعمل على التفكيك بيت الفقه والأخلاق، وهذا ما تعبّر عنه الكلمة التالية التي تترد في ثنايا بعض البحوث الفقهية: "إنّ هذه المسألة أخلاقية وليست فقهية!"، ما قد يعطيك انطباعاً مخادعاً بأنّ الفقه هو مجرد تعاليم جامدة لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة، والحال أنّ الأخلاق هي روح الفقه كما قلنا، ولا سيما فيما يتصل منه بالعبادات، كالصلاة والصوم .. فإنّها تهدف - فيما تهدف إليه - إلى تهذيب النفوس وتزكيتها، بل إنّ الأخلاق تدخل في فقه القتال، فالحرب على قساوتها وعنفها لها  في الإسلام أخلاقياتها، ولا يمكن تجريدها من القيم، وإلاّ لم تعد جهاداً في سبيل الله تعالى، بل عدواناً وإرهاباً، ومن هنا كانت إحدى وصايا رسول الله (ص) للمقاتلين وقادة الجيش: " سيروا بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها .."[7].

 

 

3-   شمولية الأخلاق

 

 والحديث عن الميزة أو الخصوصية الربانية للأخلاق الإسلامية يجرّني للحديث عن خصوصية وميزة أخرى لها، وهي الشمولية، وشمولية الأخلاق تعني:

 

أولاً: أن لا نجعل للأخلاق هوية دينية أو حزبية أو عشائرية، فلا دين للأخلاق في الإسلام، بمعنى أنّ على المسلم أن تكون الأخلاق صفة ثابتة وملازمة له في تعامله مع الآخرين بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية أو الدينية أو غيرها، فليس لدينا صدق إسلامي وآخر مسيحي..

 

 باختصار: إنّ الأخلاق لا تقبل التجزئة، ولذا ندّد القرآن الكريم ببني إسرائيل، لأنهم كانوا يرون أنّ الأمانة إنّما يجب حفظها ورعايتها فيما لو كان صاحبه يهودياً، أما غير اليهود فلا  حرمة لأموالهم، {ذلك أنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [ آل عمران 75]، والغريب أن ترى بعض من ينتسب إلى الإسلام في الظاهر هو يهودي في سلوكه وأخلاقه، حيث يتعامل مع غير المسلمين، كتعامل اليهود مع سواهم!

 

 إنّ الحسن حسن مع كل الناس والقبيح قبيح مع جميع الناس.وإنّ الغش مذموم مع المسلم وغيره، وحسن الجوار مستحب مع الجميع، وقد ورد في سيرته(ص) أنه كان يزور جاره اليهودي كما يزور جاره المسلم، وقال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.[الممتحنة 8].

 

ثانياً: وشمولية الأخلاق تعني من جهة أخرى أن نعمل على إدخال الأخلاق في كل شيىء، فعلينا أن ندخلها في السياسة، حتى لا تبنى السياسات على أساس الكذب والخداع والدجل.. قال تعالى:{فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون} [ القلم 8- 9 ]، فلا مصانعة ولا مداهنة في العمل السياسي، وكما قال علي (ع): "قد يرى الحوّل القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"[8].

 

 وهكذا لا بد أن تدخل الأخلاق في الحقل الاقتصادي والمعاملات التجارية على اختلافها، ومن هنا نجد هذا التشدد الإسلامي في تحريم الغش والاحتكار والربا والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل، إنّ الذين يمارسون العمل التجاري والاقتصادي إن لم يكن لديهم حسّ أخلاقي فقد يتحولون إلى ما يشبه الحيتان التي لا يشبعها شيء، أو الوحوش الكاسرة التي لا تعرف الرحمة إلى قلوبها سبيلاً..

 

وهكذا الحال في العلاقات الاجتماعية، لا بدّ أن تبنى على أساس القيم الأخلاقية، قيم المحبة والرحمة والرفق والابتعاد عن التجسس والغيبة وسوء الظن بالآخرين، قال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إنّ بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه..} [الحجرات 12].

 

 

4-   الأخلاق بين الثبات والمرونة

 

وثمة خصوصية ثالثة تميّز الأخلاق من منظار القرآن الكريم، وهي خصوصية الثبات، فالقيم الأخلاقية ثابتة وليست عرضة للتبدل والتغير تبعاً لتغير الظروف وتبدل المصالح والأهواء، إذن فالأخلاق في الإسلام مطلقة وليست متغيرة أو نسبية، وأزمة الإنسانية على الدوام كانت في محاولة مسخ الأخلاق وإضفاء طابع سوقي تجاري عليها، فهي - طبقاً لهذا الطابع - تتغير كما تتغير الأسعار، وبإمكان الإنسان أن يغيّر أخلاقه كما يغير ملابسه، أو يبدّلها كما يبدّل فرش منزله، وفي ضوء هذا المنطق يسوغ لك القول: إنّ لدينا أخلاقاً قديمة بالية وأخرى جديدة ومعاصرة، تماما كما لدينا ثياب جديدة وأخرى بالية!

 

 إننا نرفض هذا المنطق، فالأخلاق ثابتة في مبادئها وأصولها، والوجه في ثباتها: أنّها جاءت لمحاكاة نوازع الإنسان وضبطها، والنوازع والميول الفطرية لدى الإنسان لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فالإنسان القديم كالإنسان الجديد مفطور على حب الخير والكمال والجمال، والإنسان القديم والجديد لديه نوازع الأنانية والغريزة والشهوة .. وهذه الميول بجانبها الإيجابي كما في جانبها السلبي تحتاج إلى أصول تربوية وأخلاقية تكون وظيفتها أن تعزز الإيجابيات وتنميّها وتكبح جماح النفس في أن لا تنساق مع الجانب السلبي منها.

 

 أجل إنّ الأخلاق ثابتة في مبادئها، إلاّ أنّها متحركة في وسائلها، ودعني - بعبارة أخرى - أقول: إنّ حديثنا هو عن الأخلاق، وليس عن الآداب والرسوم، فالأخلاق هي التي تتسم بالثبات دون الرسوم والآداب، ومن هنا فإنّ ما روي عن أمير المؤمنين (ع) :" لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"[9]. إنما هو ناظر إلى الرسوم والتي تتأثر باختلاف الزمان والمكان.

 

إذن المنهج الأخلاقي في الإسلام ينطلق من قاعدة أساسية وهي أنّ الأخلاق ليست نسبية ولا تقبل التجزئة.

 

 

5-   "كان خلقه القرآن"

 

والأخلاق لا تعتمد على مجرد التعاليم النظرية والمواعظ التجريدية، وإنّما تعتمد على التعليم بالنمذجة والتربية بالسلوك، وهذا ما جسده الأنبياء (ع)، وعلى رأسهم نبينا محمد(ص)، فرسول الله(ص) الذي كان قمة في الأخلاق، وقد قال الله تعالى في مدحه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم 4]، ولكنّ الرسول الأكرم(ص) لم يكن يوجّه المواعظ الأخلاقية فحسب ولا يكتفي بمجرد الكلمات، وإنّما كان يجسد الأخلاق في سلوكه، ولعلّ أروع وأبلغ تعبير في الدلالة على تجسيده للخُلق الرفيع هو ما وصفته به بعض نسائه عندما سئلت عن أخلاقه؟  فقالت: "كان خلقه القرآن".

 

 

وإليك بعض المشاهد الرائعة التي تجسد هذا الخلق الرفيع:

 

1-   روي عنه(ص):"أنه أمر أصحابه بذبح شاة في سفر، فقال رجل من القوم: عليّ ذبحها ، وقال الآخر: عليّ سلخها، وقال الآخر: عليّ قطعها، وقال الآخر: عليّ طبخها، فقال رسول الله (ص): "عليّ أن ألتقط لكم الحطب"، فقالوا: يا رسول الله : لا تتعبن - بآبائنا وأمهاتنا - نحن نكفيك، قال(ص): "عرفت أنكم تكفوني ولكن الله عزّ وجل يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم"، فقام(ص) يلقط الحطب لهم"[10].

 

2-   وفي حديث عن بعض الصحابة قال: إنّه في يوم بدر كان لكلّ ثلاثة من الصحابة بعير واحد يتناوبون في الركوب عليه، وكان صاحبي رسول الله على البعير هما: علي (ع) وأبو لبابة، فإذا جاء دور النبي (ص) في المشي قالا له : اركب ونحن نمشي، فيقول(ص): "ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"[11].

 

لقد جسّد رسول الله (ص) المثل العلى للإنسانية في العفو والرحمة والصفح {فبما رحمة من الله لنت ولو كنت فظا ًغليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم ..} [ آل عمران 159]، وفي التفاني في خدمة الناس والتألم لآلامهم، قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [ التوبة 128].

 

لقد كان إنقاذ الناس من براثين الشرك والجهل كل همه وشغله الشاغل، كان يعرض نفسه على الناس وأهل القبائل ويقول لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، فآمنوا تفلحوا، ومن شدة حرصه نجد أنّ الله سبحانه خفف عنه، قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف 6 ].

 

كان(ص) يتألم لأعدائه وخصومه ويرأف لحالهم، يطلب لهم من الله المغفرة والهداية، "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"[12].

 

كان خلقه مفعماً بالحياء والصدق والأمانة والطهارة،

 

 والسؤال: كيف نستلهم أخلاقه في حياتنا؟ فليست القضية أن نتغنى بصفات نبينا وخصاله (ص)، ونمجد سيرته، وإنّما القضيّة كل القضيّة كيف نترجم هذه الصفات في سلوكنا؟ لأنّ محبتنا للنبي (ص) ومعرفتنا به إن لم تنعكس على أعمالنا فهي محبة كاذبة، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [ آل عمران 31].

 

 

 

 

 

 

 

القيت في معهد إقرا بمناسبة المولد النبوي الشريف 

18/1/2014م

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] الكافي ج2 ص106.

[2] انظر: عيون الحكم والمواعظ ص77.

[3] مشكاة الأنوار للطبرسي ص373.

[4] الكافي ج2 ص668.

[5] دعائم الإسلام ج2 ص47.

[6] نهج البلاغة ج4 ص105.

[7] الكافي ج5 ص27.

[8] نهج البلاغة ج1 ص92.

[9] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج20 ص

[10] مكارم الأخلاق ص252.

[11] صحيح ابن حبان ج11 ص35.

[12] صحيح البخاري ج4 ص151.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon