حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
(2) التكفير.. مناشئ ودوافع
الشيخ حسين الخشن



 

تنقية التراث ومحاصرة التكفيريين

 

 

السبب الأول: تقديس التراث

 

يجاهر بعض نقاد "العقل العربي" بالقول: إنّ التراث الإسلامي نفسه هو أحد المناشئ الأساسية للتكفير والحقل الخصب لذلك، إذ لا يعدم التكفيريون العثور على نص هنا أو هناك منسوب إلى رسول الله (ص) يتشبّثون به لتبرير أعمالهم وتصرّفاتهم التي قد نَسِمُها نحن بالعنف، لكنّها بنظرهم أعمال جهادية تقرّبهم إلى الله زلفى، ومن هنا يطرح هؤلاء فكرة الانعتاق من هذا التراث الخبري والاكتفاء بالقرآن الكريم، لأنّ التراث المذكور مشحون بالأكاذيب التي أدخلها عليه الوضّاعون على اختلاف أهوائهم وتعدّد منطلقاتهم وأغراضهم.

 

وإنّنا إذ نرفض فكرة انحصار مرجعية العقيدة والتشريع بخصوص الكتاب الكريم، لأنّ الكتاب نفسه يلزمنا بالرجوع إلى السُّنّة والأخذ بها والاعتماد عليها، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7] فإنّنا نعترف- في المقابل- بأنّ السُّنة أو التراث الخَبَري لا يمكن الوثوق فيه بأجمعه، والحقيقة أنّ المشكلة لا تكمن في التراث نفسه، بل في تعاملنا معه ونظرتنا التقديسيّة له، فتراثنا الإسلامي رغم اعتزازنا به، ورغم أنّه أنقى إرث إنساني ورثته أمة من الأمم، لكن مع ذلك، فإنّ فيه الغث إلى جانب السمين، والسقيم بجوار الصحيح، والمبين والمحكم إلى جانب المجمل والمضطرب.. ومن هنا انبثقت الحاجة إلى غربلته ونقده وتصفيته، وعملية الغربلة هذه هي جهدنا نحن، بل هي جزء من جهادنا ومسؤوليتنا إزاءه، لأنّ التراث في نفسه صامت لا يفصح ولا يعلن لنا عن صحيحه وضعيفه، فهذه الوظيفة- أعني الغربلة- هي من مسؤوليّة المنتمين لهذا التراث، إنّ محاكمة وغربلة التراث الصامت هي وظيفة الإنسان الناطق.

 

 

عِلْما الرجال والدراية ابتكار إسلامي

 

وقد أدرك المسلمون منذ أمد بعيد حاجة تراثهم إلى عملية غربلة وتصفية، والحق يقال: إنّهم أجادوا في وضع مجموعة ضوابط ومعايير لمحاكمة تراثهم وغربلته لجهتي السند والمتن، وابتكروا لهذه الغاية علمَي الرجال والدراية، فعلم الرجال يهتم بنقد سند الحديث، وعلم الدراية يهتم بنقد المتن، وبعبارة أخرى: إنّ موضوع علم الرجال هو المحدِّث أو الراوي، وغايته التعرّف على وثاقة الرواة أو ضعفهم، بينما موضوع علم الدراية هو الحديث نفسه، وغايته التعرّف على وثاقة الرواية وعِللها.

 

وإنّنا- كمسلمين- لا نخفي إعجابنا واعتزازنا بهذا الإبداع الإسلامي المتميّز في ابتكار هذين العِلْمين، وما بُذل في هذا السبيل من جهود جبّارة تهدف إلى تنقية تراثنا، بيد أنّ المشكلة هي أنّ الإعجاب بجهود السلف قد أصاب الخلف بعقدة التهيّب من التجديد ومخالفة السابقين، وتحوّل ذلك إلى نزعة من التقديس للسلف وجهودهم، ممّا أصاب العقل الإسلامي بالشلل، ووقع أسيراً لما وضعه أولئك العلماء من قواعد، وأصّلوه من ضوابط، مع أنّ إنتاجهم وإبداعهم على أهمّيته يبقى جهداً أو اجتهاداً بشرياً قابلاً للتطوير والتعديل، ولا سيّما أنّنا لا نتحدّث عن مدرسة واحدة في التفكير بل أمامنا تيّارات متعدّدة ومناهج مختلفة في التعاطي مع الحديث، فهناك منهج "أهل الحديث" المتساهل كثيراً في أمر الرواية، وبالمقابل هناك منهج "أهل الرأي" المتشدّد كثيراً في الأخذ بالخبر، وهناك منهج الشيعة ومنهج المعتزلة إلى غير ذلك.. فعلى الباحث المنصف أخذ هذه المناهج جميعاً بعين الاعتبار، محاولاً التعرّف على أقربها للصواب، مستبعداً كلّ الدعاوى العريضة لبعض المدارس– كمدرسة أهل الحديث- التي تقدّم نفسها على أنّها تمتلك الحقيقة المطلقة في كلِّ ما تقوله وتتبنّاه في الرجال والطوائف والأحاديث والأحكام، وأنّها هي دون سواها المؤهَّلة لوضع مصطلحات لكلِّ الأمة؛ إنّ هذه المزاعم بعيدة عن الصواب والواقع، ويكفيك شاهداً على ذلك أنّ أهل الحديث أنفسهم يختلفون في جملة من المعايير في نقد الأسانيد والمتون، كاختلافهم في رواية "المدلّس" و"المرسل" وتعريف العدالة وغيرها.

 

 

نقد المتون

 

وما يهمّنا التأكيد عليه في المقام هو أسانيد الأحاديث قد خُدمت كثيراً وبُذلت في دراستها جهود هامة وكبيرة ودوّنت لهذا الغرض آلاف الكتب المتخصّصة بمعرفة أحوال الرواة توثيقاً وتضعيفاً وضبطاً وحفظاً.. ما يجعل إمكانية الإضافة على تلك الجهود متواضعة، وليست ذات أهمية كبيرة، وإن كان يمكن الحديث عن تفعيل بعض المعايير الغائبة في توثيق الرواة، وأهمها محاولة اكتشاف شخصية الراوي وذهنيته من خلال ملاحظة مجموعة رواياته وتراثه، بدل دراسته بشكل مجتزأ أو الاقتصار في توثيقه أو تحصيل الوثاقة برواياته اعتماداً على أقوال الرجاليين في حقه، وقد غدا سبر وتجميع أحاديث الراوي الواحد أمراً ميسوراً في زماننا بسبب توافر الأجهزة والبرامج الحاسوبية (الكمبيوترية) التي توفر الكثير من الجهد والوقت على العلماء والباحثين.

 

وإنّما قلت: علينا تفعيل هذه المعايير لاعتقادي أنّها لا تمثّل اكتشافاً جديداً فقد تنبّه لها علماء الرجال منذ أمدٍ بعيد، ولذا تراهم كثيرا ًما يغمزون من قناة بعض الرواة بأنّه "يروي المناكير" أو "ما يعرف وينكر".

 

 

لكنّنا ومع الالتفات لأهمّية هذه البحوث المرتبطة بالسند نحسب أنّ الأمر الأهمّ في التعامل مع السُّنّة والتراث هو نقد المتون دون الاكتفاء بنقد الأسانيد، لأنّ الكثير من الأحاديث قد تكون صحيحة الإسناد لكنّها تشتمل على مضامين قلقة أو مضطربة لا يمكن الأخذ بها، وإذا كان السلف الصالح من علمائنا قد تطرّقوا إلى نقد المتون في مناسبات عديدة، بيد أنَّ هذا الأمر يبقى خاضعاً للاجتهاد، فهم بذلوا جهدهم وعالجوا الأمور بما ينسجم مع ثقافتهم ووعيهم، وعلى المتأخرين أن لا يستسلموا لجهد السلف على أهمّيته، وإنّما عليهم أن يراكموا على هذا الجهد أو يتجاوزه أو يضيفوا عليه استناداً إلى وعيهم الثقافي وفهمهم لدور الدين ورسالته، ويمكننا أن نسجِّل في هذه العجالة مجموعة من الضوابط والمصافي التي لا بدّ أن تعرض الأحاديث عليها قبل الأخذ بها:

 

أولاً: عرضها على القرآن الكريم، فكلّ حديث يخالف كتاب الله فهو ردّ أو زخرف كما قال الإمام الصادق (ع)[1]، والأمر المهم هنا تحديد معنى مخالفة الكتاب، فهل يُقتصر في ردِّ الحديث ورفضه على مخالفته لنصّ الآية، أو أنّ ذلك يشمل المخالفة لروح القرآن ومفاهيمه العامة كما هو الصحيح؟ ثم هل يمكن تبرير المخالفة وتوجيهها بالنسخ؟

 

وهل يمكن القبول بنسخ القرآن الكريم بالسنة القطعية كما هو المشهور؟ أم يقال: إنّ دور النبي (ص) هو شرح وتفسير الكتاب لا نسخه وإلغاء أحكامه، كما نص على ذلك قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44].

 

ثانياً: عرضها على معطيات العقل القطعي، على اعتبار أنّ العقل الفطري هو مرآة صافية لوحي الله، ولا يمكن أن يتعارض العقل الظاهري أعني الرسول، مع الرسول الباطني وهو العقل.

 

ثالثاً: عرضها على معطيات العلم، ونقصد بها الحقائق العلميّة لا مجرّد النظريات التي لا تزال مثار جدلٍ أو التي لم تَرْقَ إلى مستوى اليقين، والمبرّر لهذا الضابط أنّ النبي (ص) ينهل من وحي الله وكلماته، فكيف لكلامه تعالى أن يتعارض مع فعله وخلقه؟

 

رابعاً: عرضها على الواقع، ونقصد بذلك الواقع الخارجي المحسوس، وكذا الواقع التاريخي، فإنّ بعض الروايات الصحيحة سنداً لا تنسجم مع الواقع الحسّي أو التاريخي، وقد تحدّثنا بشيءٍ من التفصيل عن هذه الضوابط في كتابنا "الشريعة تواكب الحياة".

 

إنّ إهمالنا لعملية نقد المتون وإغفالنا للضوابط المتقدّمة أو غيرها، والاستسلام لحسن الظنّ بوثاقة الرواة، والخضوع التام لكتب الحديث وإسباغ وصف الصحاح عليها، إنّ ذلك قد أسّس بشكل أو بآخر لمنطق التكفير وغذّاه بالكثير من الأحاديث التكفيريّة التي أسهمت في تعزيز ثقافة العنف وفي تعميق الهوة بين المسلمين وتمزيقهم شرّ ممزّق.

 

 والنموذج الأبرز للأحاديث التكفيرية هو حديث الفرقة الناجية، وهو حديث مشهور ومعروف ومرويّ من طرق الفريقَيْن- السُّنّة والشيعة– ويُعتبر المرتكز والأساس لانطلاق ما يُعرف بعلم الملل والنحل، وقد ألّف العلماء كتباً كثيرة في شرحه وتفسيره وتحديد المقصود بالفرقة الناجية والفرقة الهالكة،  وقد قدّمنا الكلام حول هذا الحديث في إشارة مختصرة تاركين التفصيل في ذلك إلى ما حقّقناه في كتاب "هل الجنّة للمسلمين وحدهم؟".

 

 

24/1/2014

 

[ من كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي ]

 



[1] انظر: وسائل الشيعة ج27 ص110، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12 و13.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon