حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
التكفير.. مناشئ ودوافع (5)
الشيخ حسين الخشن



 

عجمة الفهم والفهم المعجمي

 

السبب الخامس: سوء الفهم

 

عرفنا أنّ سوء الظنّ يعتبر واحداً من أهم الأسباب الكامنة وراء انتشار ظاهرة التكفير، وهناك سبب آخر يناظره ويشاطره الخطورة نفسها وهو سوء الفهم وعجمته، وإذا ما اقترن هذا بذاك فسينتجان- لا محالة- عقليات صدامية تكفيرية ضيقة تحكم على الآخر دون أن تفهمه وتستعديه دون مَوجب أو مبرر، وتُقوّله ما لا يقول وتُحمّله ما لا يحمل، فما المراد بسوء الفهم؟ وما هي مناشئه ومخاطره؟

 

إنّ ما نعنيه بسوء الفهم أو عجمته عجز الشخص عن إدراك كنه النصوص الدينية أو فهمها على حقيقتها، فضلاً عن إدراك أبعادها ومراميها، ويأتي فهمه مبتوراً وحكمه منقوصاً وخاطئاً، لأنّ الحكم الصحيح على الشيء فرع تصوّره وفهمه، وسوء الفهم يعود: إمّا إلى حالة السفه الفكري والنظرة السطحية للأمور، ممّا تكلّمنا عنه في السبب الثاني من أسباب التكفير، أو لافتقاد الرؤية المتكاملة والشمولية عن الدين ودوره في الحياة، أو لاعوجاج في السليقة والذائقة الفقهية التي تتعامل مع النصوص وتستنطقها، أو لعدم الإلمام الكافي بالقواعد اللغوية والأصولية المعدّة لفهم النصوص واستنطاقها والموازنة بينها وملاحظة عامها وخاصّها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، مكّيها ومدنيها.

 

وإنّ افتقاد الرؤية المتكاملة والذوق الفقهي وآليات الاستنباط وقواعده معناه افتقاد المنهج السوي في التفكير والاستنباط، وليس مجرّد وقوع الشخص في اجتهادات خاطئة في بعض المفردات، كما أنّ لذلك انعكاسات كبيرة وآثاراً خطيرة على الواقع الإسلامي برمّته وعلى قدرة الإسلام على استيعاب المستجدات لمتطلبات الحياة المتغيرة، فعندما يقود الفهم الخاطئ- مثلاً- بعض الناس إلى أن يفهموا من قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}[المائدة: 1] أنّه مختص بالعقود المتعارفة زمن نزول الآية ولا يشمل العقود المستحدثة كعقود التأمين وغيرها، وهو ما دفعهم إلى محاولة تكلّف إرجاع العقود المستحدثة إلى العقود الشائعة سابقاً، إنّ ذلك يعطي انطباعاً عن الدين بأنّه جاء لمعالجة مشاكل ابن الصحراء، ويريد للحياة أن ترجع إلى الوراء وتجمد على الماضي، ولذا حذّر بعض الفقهاء من هذه العجمة في الفهم قائلاً: "ولا أظنّ يختلج ببال أحد من العرف العارف باللسان العاري الذهن من الوسواس أنّ قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، الوارد في مقام التقنين المستمرّ إلى يوم القيامة، منحصر في العهود المعمول بها في ذلك الزمان، فإنّ مثل هذا الجمود مستلزم للخروج عن دائرة الفقه بل عن ربقة الدين نعوذ بالله من ذلك"[1].

 

 

وفيما يلي نسلّط الضوء على ثلاثة من الآثار السلبيّة التي تساهم عجمة الفهم في تكوينها وهي: افتقاد النظرة المتكاملة، الجمود على الظواهر، الفهم المعجمي للنصّ.

 

النظرة التجزيئية

 

إنّ من الصفات البارزة للجماعات التكفيرية افتقارها إلى رؤية متكاملة عن الإسلام عقيدةً وشريعةً وعن دوره في الحياة وموقع الإنسان في الرؤية الكونية، ولهذا تراها تحدّق في جانب معيّن وتستغرق فيه ولا ترى الجوانب الأخرى من الصورة، وهو ما يجعل نظرتها للأمور مجتزَأة وتقييمها ناقصاً وأحكامها قاسية على من يخالفها الرأي، ولذا تطعن فيه بقسوة ولا تجد له عذراً ولا تسأل عن دليله وحجّته، وقد حذّر بعض الفقهاء تلاميذه من طلّاب العلوم الدينية من هذه الآفة والنزعة عندما قال وهو يخاطبهم: "إنّ مسألة اليانصيب ليست من مسائل الفقه الضرورية والواضحة ليتّفق فيها الجميع"، ويضيف: "في هذه المسألة (اليانصيب) كان المشهور أنّ المرحوم الخونساري والمرحوم السيد يونس الأردبيلي (رحمهما الله) يقولان بجوازه، طبعاً اجتهادهما أدّى إلى الجواز وهذا لا يبرّر أنْ نطعن فيهما لأنّهما أفتيا بذلك، كما أنّه ليس لهما أن يطعنا فينا لأنّا لا نقول بالجواز، بل يمكنهما أن يبحثا المسألة معنا بحثاً علمياً"، ثم يضيف (رحمه الله): "يجب أن يكون السادة الطلاب منتبهين جيداً إلى أعمالهم الصغيرة.. وإلى ألفاظهم حتى لا يُسلب التوفيق منهم بشطر كلمة..."[2].

 

إنّ الطعن بالآخر لأنّه لا يرتئي ما نرتئيه، يكشف عن جهالة وقصور في فهم الدين، ومَنْ كان كذلك فلا يكون مؤهّلاً لتفسير نصوص الدين والقيام بأمره، لأنّه وكما ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "لا يقوم بدين الله إلاّ من حاطه من جميع جوانبه"[3].

 

وإذا كانت الجماعات التكفيرية تملك هذه النظرة الضيّقة عن الدين والحياة فمن الطبيعي أنَّ الصورة التي سوف تقدّمها عن الدين لن تكون مشرقة أبداً، بل مشوّشة لأنّ فهمها للدين مشوّه وناقص.

 

 

الجمود على الظواهر

 

والأثر الآخر لسوء الفهم واعوجاج السليقة أنّه- وفي ظلّ غياب الرؤية المتكاملة عن الدين والحياة- يؤسّس لنزعة ظاهرية قشرية تستهويها المظاهر والشكليات وتهمل المعاني والمقاصد، بل إنّ قاموسها لا يعرف معنى التفكير المقاصدي ولا الحيوية الاجتهادية ولا يفرّق بين المبادئ الثابتة والوسائل المتحركة ولا بين الفرائض والنوافل، تختلط عندها الأولويات، ولا تفرّق بين النظريات والبديهيّات، على الرغم من أنّ الإسلام يدعونا إلى الموازنة بين الأمور وتقدير الظروف ومقتضياتها، لأنّ الأحكام تختلف باختلافها، ومن هذا ما يُحكى من اعتراض جماعة على عليّ (ع) لعدم تغييره شيبه بالخضاب، "قيل له: لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين (ع)؟ فقال: الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة"، يريد وفاة رسول الله (ص)"[4].

 

إلاّ أنَّ الجماعة الظاهريّة في غفلة عن ذلك، فتراها على استعداد لخوض المعارك وسفك الدماء في سبيل بعض النوافل من الشعائر والطقوس والقضايا الهامشية، مع أنّ القاعدة الإسلامية تقول: "إذا أضرّت النوافل بالفرائض فارفضوها" كما ورد في الحديث عن عليّ (ع)[5]، وانسجاماً مع هذا الحديث نقول: إذا أضرّت الفروع بالأصول والجزئيات بالكليات والنظريات بالبديهيات، فلا بدّ من تجميد الفروع والجزئيات والنظريات لصالح الأصول والكليات والبديهيات.

 

وهذا ما تقتضيه القاعدة العقلية الحاكمة بأنّه لدى دوران الأمر بين المهم والأهم فلا بدّ من تقديم الأهم وترجيحه على المهم، ولذا فإنّك عندما تسمع قضية واقعية مفادها: أنّ مسلماً يخرج من بيته لأداء صلاة الجماعة في المسجد وفي الطريق يصادف اثنين من المسلمين يتضاربان ويتناحران، ومع أنّ بإمكانه أن يتدخّل ويصلح بينهما ومن ثَمَّ يؤدّي صلاته فُرادى، لكنّه يشيح بوجهه عن ذلك ويسرع إلى المسجد كيلا يفوته فضل الجماعة وثوابها، إنّك إذا سمعتَ ذلك أو واجهته بنفسك فاعلم أنّ لدى هذا الشخص خللاً في فهم الإسلام، لأنّ "إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام" كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص)[6]، كما أنّ تأكيد الإسلام وحرصه على صلاة الجماعة يرمي- فيما يرمي إليه- إلى شدّ الأواصر الاجتماعية وتعزيز الأخوّة على قاعدة الإيمان.

 

 

الفهم المعجمي

 

والأثر السلبي الآخر لسوء الفهم واعوجاج السليقة، أنّه يؤسّس لما نسمّيه الفهم المعجمي أو القاموسي للنصّ بحيث يتعامل الباحث مع النص الديني وفق عقلية حَرْفِيّة تقف عند الحروف والكلمات بطريقة هندسية فلسفية تُفقد النص بلاغته وحيويته، وتُكثر من الاحتمالات العقلية التجريدية في تفسيره، مع أنّها احتمالات بعيدة عن ذهن الإنسان العرفي المخاطب بالنص بشكل مباشر وأساسي.

 

وعلى سبيل المثال: يتعاطى أصحاب هذه المدرسة الهندسية مع النصوص الناهية عن إسبال الإزار وجرّ الذيول بشكلٍ حَرْفيّ، وهو ما يجعلهم مبالغين في تقصير ثيابهم وفي النكير على من يترك التقصير، متمسكين بحرفية ما ورد عن رسول الله (ص) في هذا الشأن، مع أنّ من يمتلك ذوقاً فقهياً سليماً ويلاحظ مجموع الروايات الواردة عنه (ص) في هذه المسألة يكاد يجزم أو يطمئنّ بأنّ النهي عن جرّ الثياب إنّما هو باعتبار كونه علامة- آنذاك- للمتكبّرين والمترفين، ويشهد بذلك ما ورد عن أبي ذرّ عن رسول الله (ص): "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم، قلت: من هم خابوا وخسروا؟ قال: المسبل إزاره خيلاء والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"[7] وورد نحوه عن ابن عمر "سمعت رسول الله بأذنيّ هاتين يقول: من جرّ إزاره لا يريد بذلك إلاّ المخيلة فإنّ الله لا ينظر إليه يوم القيامة"[8]، وقريب منه ما عن أبي سعيد عنه (ص)[9].

 

ومن أمثلة الفهم المعجمي أو الحرفي للنص، ما استفاده البعض من قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة: 6]، حيث جمد على ظاهر كلمة الملامسة فأفتى بأنّ مَن لامس امرأة ولو بوضع كفّه على كفّها فقد انتقض وضوؤه، مع أنّ المقصود بالملامسة معناها الكنائي، وهو المعاشرة الجنسية تماماً كما هو المقصود بالمماسة في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}[البقرة: 237]، وهذا ما أكّدته روايات أهل البيت (ع)[10]، وعن ابن عباس: "إنّ الله حييّ كريم يعبّر عن مباشرة النساء بالملامسة"[11].

 

 

من كتاب العقل التكفيري 

19/2/2014

 



[1]مجلة فقه أهل البيت، العدد 1 ص 8، من مقال للإمام الخميني (رحمه الله).

 [2]سيماء الصالحين، للشيخ رضا المختاري ص212-213.

[3] كنز العمال ج3 ص84.

[4] نهج البلاغة ج4 ص109.

[5]نهج البلاغة ج4 ص68.

[6]نهج البلاغة ج3 ص76، والكافي ج7 ص51، وتحف العقول ص198.

 [7]الوسائل ج17 ص421 الحديث 9 الباب 25 من آداب التجارة.

 [8]صحيح مسلم ج6 ص147.

[9] راجع: سنن ابن ماجة ج2 ص1182.

 [10]راجع: وسائل الشيعة، ج1 ص271، الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 4.

 [11]التفسير الكبير للفخر الرازي، ج10 ص112 وبحار الأنوار ج75 ص221.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon