حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
إعفاء غير المسلم من التكاليف الشرعية
الشيخ حسين الخشن



 

 

إعفاء غير المسلم من التكاليف الشرعية

 

استكمالاً للحديث السابق - أصالة احترام الإنسان - حول طبيعة العلاقة مع الآخر غير المسلم أرى من الضروري أن نشير إلى بعض أهمّ القواعد والضوابط الإسلامية الناظمة لعلاقة المسلم بغيره، ولا سيما في ظلِّ الدولة الإسلامية.

 

أولاً: غير المسلم ليس مكلّفاً بالفروع

 

هل يُكلَّف غير المسلم بالفرائض والتكاليف؟ فيكون مطالَباً وملزَماً بإتيان الواجبات الإسلامية من العبادات وغيرها وترك المحرّمات، أو أنّه لا يطالَب بذلك سوى المسلم؟

 

المعروف لدى فقهاء المسلمين أنّ الكافر مكلّف بالفروع، لكن لو أتى بالعبادات لا تصحّ منه، وفي المقابل يوجد رأي قويٌّ اختاره بعض الفقهاء الأعلام[1] يذهب إلى أنّ غير المسلمين ليسوا مكلّفين بالفروع، وكل مَنْ لا يؤمن بالأصول العَقْديّة الإسلامية فلا يُكلَّف بالفروع التشريعيّة، وإنّما يُكلّف بالإيمان بأصول الاعتقاد بعد التعرّف عليها، واستدلَّ أصحاب هذا الرأي- بعد تفنيد أدلّة القول الأول- بعدّة أدلّة من أهمّها:

 

1-  قيام سيرة المسلمين قاطبة خَلَفاً عن سلف على عدم مؤاخذة غير المسلم حتى الذمّي بشيء من الأحكام فلا يُؤْمَرون بالصلاة ولا بالصيام ولا بالحجّ، ولا يُنْهَوْن عن شرب الخمر أو القمار أو الإفطار في شهر رمضان ولا تجري عليهم الحدود إلا بدليل خاص، مع أنهم لو كانوا مكلّفين بالفروع لوجب أمرهم بذلك ولو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[2].

 

2-  ما ورد في الحديث المعتبر (من طرق الشيعة) عن زرارة قال: قُلتُ لأبي جعفر (ع) أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: "إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً (ص) إلى الناس أجمعين رسولاً وحُجّةً لله على جميع خَلْقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله واتّبعه وصدّقه فإنّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه، ومَنْ لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتّبعه ولم يصدّقه ويعرف حقّه فكيف يجب عليه معرفة الإمام!؟.."[3].

 

فإنّ لم يكن غير المسلم مكلّفاً بالولاية على أهمّيتها، وإنّما يُكلَّفُ بها بعد اعتناق الإسلام فما ظنّك بسائر الأحكام؟

 

وربما يناقش في بعض هذه الوجوه، أو تذكر وجوه أخرى، بيد أنّي أكتفي بهذا القدر من الحديث في عرضها، تاركاً التفصيل في تحقيقها إلى البحث الفقهي الاستدلالي، وإنّما أكتفي بستجيل الملاحظة التالية:

 

 

التكليف بغير المقدور

 

والملاحظة هي أنّه ربما  ربّما يعترض على القول بكون الكافر مكلَّفاً بالفروع بأنّ المفروض- على القول المذكور- أنّه لو أتى غير المسلم بالأعمال فلا تُقبل منه ولا يُؤجر عليها، كما أنّه لا يُطالب بها من قِبَل المسلمين، وقد جرت السيرة– كما ذكرنا- على عدم مطالبته بذلك، وعليه فلا تكون ثمّة فائدة عمليّة أو ثمرة متصوّرة من تكليفه بها سوى أنّه سيُحاسَب عليها يوم القيامة[4].

 

وإذا كانت ثمرة تكليفه بالفروع هي تسجيل المؤاخذة الأُخروية عليه، فَيَرِد تساؤل في المقام: وهو أنّه كيف يُحاسِب الله تعالى عبداً على تَرْك شيء، مع أنّه لا يستطيع فعله، طبقاً لما أراده الله منه، لأنّه لو فعله فلن يقبل منه، وهل هذا إلا تكليف بغير المقدور؟!

ويدافع العلماء عن ذلك بأنّ هذا ليس من التكليف بغير المقدور، لأنّه قادر على الإتيان بالأعمال العبادية، وذلك من خلال قدرته على الإيمان بالإسلام والانتساب عليها ثم الاتيان بها، وحينها ستقبل منه.  

 

وتمكن المناقشة في هذا الدفاع بأنّ تكليف مَنْ لا يؤمن بالأصول الاعتقادية بأن يأتي بالأحكام الشرعية الإسلامية، ومنها العبادات مع عدم قبول العمل منه في حال إتيانه بها، كما أنّه لو فرض أنّه اختار الدخول في الإسلام فإنّه سوف يُعفى من تبعات العمل في الدنيا والآخرة، باعتبار أنّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، إنّ هذا التكليف ليس منطقيّاً ولا عقلائيّاً، فكيف يصدر عن المولى الحكيم؟ وانحصار ثمرته بالعقوبة الأُخروية لا تمثّل توجيهاً مقنعاً، بل إنّها تزيد في الطين بلّة، إذ يبدو معها وكأنّ الله تعالى يفتّش عن سبب لتعذيبه وزيادة العقوبة عليه! مع أنّ السبب في استحقاقه للعقاب موجود وكافٍ، وهو عدم إيمانه بالأصول.

 

وتبرير ذلك (أي العقوبة على عدم الإتيان بالفروع، مع أنّها لا تقبل منه ولا يطالب بها) بأنّه ربّما شكّل ذلك أسلوب ضغط عليه يدفعه ليؤمن بالأصول، هو الآخر تبرير غير مقنِع، إذ إنّ من لا يهتم ولا يبالي بالعقاب المترتب على عدم الإيمان بالأصول، كيف سيبالي بالعقاب المترتّب على عدم الإتيان بالفروع .

 

وخلاصة القول: إنّ الرأي الراجح والذي يساعد عليه الدليل- من وجهة نظرنا- هو أنّ الكافر لا يكلَّف بالأحكام التشريعية التي يُكلَّف بها المسلم، نعم هو مكلَّف- بحكم العقل- بالأصول العقائدية.

 

وما نريد استنتاجه من ذلك أنّ إعفاء غير المسلمين من التكاليف الإسلامية أمر جدير بأن يوضع في الحسبان عندما يراد تحديد وتقييم الموقف الإسلامي من غير المسلمين.

 

 

ثانياً: إقرار أهل الكتاب على عباداتهم

 

ونضيف إلى ما تقدّم، بأنّ الإسلام- طبقاً لما استظهرناه- لم يكتفِ بعدم إلزام غير المسلمين بالعبادات والطقوس الإسلامية، بل مَنَحَ أهل الكتاب منهم حريّة دينيّة كاملة، فأقرّهم على عقائدهم وعباداتهم وسلوكيّاتهم المشروعة في دينهم وإن كانت محرّمة في شريعتنا، أو تمثّل مصداقاً للشرك بحسب معتقداتنا الإسلامية، وعلى ضوء ذلك: فلا يجوز قَمْعهم (أهل الكتاب) ومَنْعهم من ممارسة أعمالهم العبادية بحريّة تامة، وقد رَأَينا أنّ رسول الله (ص) قد سَمَح لنصارى نجران أن يؤدّوا صلاتهم وطقوسهم ويضربوا بالناقوس في مسجده في المدينة المنورة حتى قال بعض أصحابه: هذا في مسجدك يا رسول الله! فقال (ص): دعوهم[5].

 

وهكذا لا يجوز مَنْعهم حتى في ظلِّ الدولة الإسلامية من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وغير ذلك ممّا هو جائز في شريعتهم، نعم للحاكم الشرعي أن يشترط عليهم في ضمن عقد المعاهدة أو الذمة ترك التجاهر بهذه المنكرات، احتراماً لمشاعر المسلمين وخشية انتشارها بينهم.

 

وعلى الرغم من عدم ملكيّة المسلم للخمر والخنزير، لكن لو أنّ كتابياً باع خمراً أو خنزيراً وقبض الثمن فيجوز للمسلم أن يتملّك هذا الثمن، منه قضاءً لدينه أو استيفاء لبعض حقوقه، كما دلّت عليه الأخبار الصحيحة عن أئمّة أهل البيت (ع)[6]، ففي الخبر المعتبَر: "قلتُ لأبي عبد الله (ع): لي على رجل ذمي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر فيحل لي أخذها؟ فقال: إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك"[7]. وأفتى بذلك فقهاء أهل السُّنّة أيضاً[8].

 

 

ثالثاً: الإسلام يَجُبُّ ما قبله

 

وفي هذا السياق المفعم بالتسامح والمرونة تجاه الآخر تأتي القاعدة الإسلامية التي تعفي معتنق الإسلام حديثاً من المحاسبة والمسؤولية عما فعله زمن كفره، وهي قاعدة "هَدْمُ الإسلام لما قبله" المستفادة من الحديث النبوي المشهور والمروي من طرق الفريقين[9]، "الإسلام يجبّ (يهدم) ما قبله".

 

ومفاد هذه القاعدة أنّ كلّ اعتقادٍ أو فعلٍ أو قولٍ صادر من الإنسان زمن كفره، وكان يترتب عليه ضرر أو عقوبة من وجهة نظر الإسلام، فإسلامه يكون سبباً في ارتفاع ذلك الضرر وسقوط تلك العقوبة، فمَنْ كَفَر بالله أو سبّه، أو كذّب برسوله وحاربه، أو انتهك المقدَّسات، أو فعل الفاحشة.. ثم أسلم فالإسلام يمحو كلّ ذلك ويغفره له، ففي الحديث أنّ عثمان بن عفان لما شفع في أخيه ابن أبي سرح وكان مؤذياً للرسول (ص) فقال (ص) لعثمان: أما بايعتُه وأَمِنْتَه؟ قال: بلى، ولكنّه يذكر ما جرى منه معك من القبيح ويستحي، فقال (ص): "الإسلام يَجُبُّ ما قبله"[10].

 

وفي رواية أخرى: أنّه جاء رجل إلى الخليفة عمر بن الخطاب فقال: إني طلّقت امرأتي في الجاهلية اثنتين ثم طلّقتها منذ أسلمت تطليقة، فماذا ترى؟

 

قال عمر: ما سمعت في ذلك شيئاً وسيدخل عليك رجلان فسلهما، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف، فقال عمر: قص قصّتك، فقصّ عليه، فقال عبد الرحمن: هدم الإسلام ما كان قبله في الجاهلية، هي عندك على تطليقتين، ثم دخل عليّ بن أبي طالب (ع)، فقال له عمر: قُصَّ عليه قصّتك، ففعل، فقال علي (ع): "هدم الإسلام ما كان في الجاهلية، وهي عندك على تطليقتين بقيتا"[11].

 

 

3/12/2013

 

[ من كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي ]

 

 


 [1]منهم الفقيه الشيخ يوسف البحراني (ت 1186هـ)، انظر: الحدائق الناضرة، ج3 ص39، وسبقه إلى ذلك الفيض الكاشاني، انظر: الوافي، ج2 ص82، ومنهم السيد المحقّق أبو القاسم الخوئي رحمه الله،  واختاره  من أئمة المذاهب الإسلامية أبو حنيفة النعمان.

[2] مستند العروة الوثقى: من تقريرات درس السيد الخوئي (رحمه الله)، كتاب الزكاة، ج1 ص125- 126.

 [3]الكافي، ج1 ص180، باب: معرفة الإمام والردّ إليه، الحديث 3.

[4] وهذا ما يجعل من هذا البحث أكثر صلة بالمسائل العقائدية منه بالمسائل الفقهية.

[5] ورد ذلك في الروايات الصحيحة والمستفيضة من طرق الفريقين. راجع في ذلك كتاب "حكم دخول غير المسلمين إلى المساجد" ص59 وما بعدها.

 [6]وسائل الشيعة الباب 70 من جهاد العدو الحديث1 ج15 ص125، وقد أفتى بذلك الفقهاء دون خلاف، راجع مجمع الفائدة والبرهان، ج7 ص518، منهاج الصالحين: ج1 ص396.

[7]الكافي، ج5 ص232.

[8] الفقه الإسلامي وأدلّته، ص2687.

 [9]كنز العمال، ج1 ص66 رقم الحديث 243، تفسير القمي، ج2 ص26.

 [10]السيرة الحلبية، ج3 ص105.

[11] المدوّنة الكبرى للإمام مالك ج3 ص29، ونظيره ما في شرح الأخبار للقاضي النعمان ج2 ص318، وبحار الأنوار، ج40 ص230.

 

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon