حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
البعد الإنساني في شخصية الإمام علي (ع)
الشيخ حسين الخشن



 

البعد الإنساني في شخصية الإمام علي (ع)

 

 

في ذكرى مولده هل لنا أن نتطلع إلى علي (ع) من منظار علي نفسه لا من منظارنا نحن، لنعرف علياً(ع) كما يريد وكما كان، لا كما نريده نحن أو نحب أن يكون ؟ فإن مشكلتنا ومشكلة الكثيرين من الناس أننا نبني تصورات ورؤى خاصة حول الشخصيات والرموز التاريخية على قياسنا وكما نحلم أن تكون تلك الشخصيات، ومن هنا فقد تجد هذا التفاوت أو التنافر في الصورة، حيث ترتفع تارة وتهبط أخرى، تبعاً لذهنية الشخص الذي حاك تلك الصورة أونسجها، وهذا ما قد يفسر لنا تلك المبالغات أو المغالاة التي قد ترفع الشخصية عن مسستواها البشري تارة، أو تحط من قدرها تارة أخرى.

 

 

الشخصية المتكاملة

 

وإننا عندما ننظر إلى علي بهذا المنظار، وهو المنظار الأقرب إلى الواقع وعندما نحدق بتلك الشخصية التي تخرجت من مدرسة الإسلام وتربت على يدي رسول الله (ص) ونتأمل في مزاياها وخصائصها سنجد أنفسنا أمام شخصية استثنائية قلّ أن تتكرر أو يجود الزمان بها، شخصية متعددة الأبعاد ومتكاملة الصفات، فهو مجمع الفضائل الإنسانية، ومصدر ملهم لكل الأحرار، وقد أجاد الصفي الحلي في التعبير عن هذا جامعية علي (ع) للصفات التي تبدو متضادة فيما بينها وقلّ أن تجتمع في رجل، يقول في بيان هذا المعنى:

 

جمعت في صفاتك الأضداد           فلهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع                ناسك فاتك فقير جواد

شيم ما جمعن في بشر قط            ولا حاز منهم العباد

خلق يخجل النسيم من اللطف         وبأس يذوب منه الجماد

 

 

تغليب البعدين البطولي والمعاجزي

 

لكن ما يؤسف له أنّنا وعندما نظرنا إلى علي من منظارنا نحن فقد قزّمنا أو مسخنا شخصيته، وقدمنا عنه صورة مشوهة، لأن من تتحكم به رؤية خاصة عن علي (ع) فمن الطبيعي أن لا يعمل على استحضار شخصيته كما هي عليه في كافة أبعادها، بل سوف يتمّ اجتزاؤها وتغليب بعض الأبعاد وإغفال أبعاد أخرى، وهكذا كان فقد تم اختصار شخصيته ببعدين أساسيين:

 

1-   ويأتي البعد البطولي في شخصية الإمام على رأس تلك الابعاد التي يتم استحضارها من خلالها، حيث يتمّ التركيز على بطولته(ع) وفروسيته في المعارك، وترانا في أشعارنا وأدبياتنا نتغنى كثيراً في كيفية قتله للأبطال  وفي عدد الذين صرعهم بسيفه، أليس هذا ما يغلب استحضاره من علي (ع) في خطابنا وتعبيراتنا العاطفية، ولذا ترانا نعبّر عن حبنا للإمام (ع) برفع سيف يرمز إلى ذي الفقار نعلقه في صدورنا أو بيوتنا أو ما إلى ذلك، ولا شك أن علياً (ع) كان من أشجع الناس وأمضاهم بأساً وعزيمة، ولكن هل هذا هو كل شيء في علي (ع) ؟ أو قل: هل هذا أهم شيء في علي(ع) ؟ وماذا عن سائر خصاله؟ ومن أين استمد علياً هذه الشجاعة ؟

 

ولعل السر في التركيز على هذا الجانب البطولي من شخصية الرمز واستحضاره بطريقة تغيب معها الأبعاد الأخرى من شخصيته هو أنّ الأمة المهزومة والجماعة المظلومة والضطهدة تستدعي من شخصياتها التاريخية ورموزها المقدسة الجانب الذي يعوّض النقص لديها، وهذه قضية نفسية عامة، فعند يجد الكثيرون واقعهم مهزوماً يلذون بماضيهم، ويعودون إلى الأطلال وذكرى الآباء والأجداد.

 

على أنّ العرب - وربما غيرهم - شعب يستهويهم - وبحسب ثقافتهم وعاداتهم - البعد البطولي والرجولي في الشخص ولا سيما القائد، ولذلك ترى اليوم الكثيرين يرمزون إلى علاقتهم بالإمام علي (ع) بالسيف الذي يعلق في أعناقهم! وهذا الأمر أدى إلى نتائج سلبية كحصول شيء من المبالغات في صفة الشجاعة لدى الإمام علي (ع)، مع أنّ شجاعته لا تحتاج إلى دلائل، وأخطر ما في الأمر هو أن تطلب الجانب البطولي بمعناه الجسدي غيب ما هو أهم وهو جانب البطولة الفكرية إن صح التعبير، وهكذاغابت الأبعاد الأخرى.

 

2-   والبعد الآخر في شخصية الإمام (ع) الذي يتم تغليبه واستحضاره أكثر من غيره هو البعد المعاجزي والفضائلي، حيث كثيراً ما يتم التركيز على هذا الجانب في خطابنا، ولطالما ألّفت الكتب حول معاجز الإمام(ع) وكراماته وفضائله، ولا شك أنّ لعلي(ع) من الفضائل والكرامات الشيء الكثير، وهذا الجانب لا يصح تغييبه فهو جزء مهمّ من صورة الإمام (ع).

 

 بيد أنّ ذلك لا يختصر تلك الشخصية الريادية، فهناك جوانب وأبعاد أخرى أكثر أهمية لا يجوز تغييبها أو إغفالها، ومن أهمّ تلك الأبعاد البعد الإنساني في شخصية الإمام(ع)، فعلي (ع) في عطائه الفكري هو ملهم للإنسانية جمعاء، وفي سلوكه الأخلاقي والعملي جسد أنبل القيم الإنسانية، ولهذا فهو – بحق – ملك الإنسانية وليس ملكا للمسلمين أو الشيعة، وقد أجاد بولس سلامة في التعبير عن هذا المعنى:

 

هو فخر التاريخ لا فخر شعب     يصطفيه ويدعيه ولياً 

لا تقل شيعة هواة علي              إنّ في كل منصف شيعياً

إنّما الشمس للنواظر عيد           كل طرف يرى الشعاع السنيّا.

 

 

كيفية تكوين الرؤية

 

ولتكوين رؤية واضحة حول المنهج الإنساني في شخصية الإمام علي (ع) يتحتم علينا:

 

أولاً: التعرف على العناصر التي كونت وساهمت في بناء الشخصية، وهنا لا ننسى أنّ علياً (ع) هو ربيب القرآن وهو الرسالة العالمية والإنسانية الخالدة، كما أنه  تلميذ محمد بن عبد الله (ص) وهو الرسول المبعوث للناس جميعاً {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً} [ سبأ 28].

 

ثانياً: دراسة حياة هذه الشخصية وسيرته العمليّة، لأنّ قيمة علي (ع) في كل مشروعه ورسالته الإنسانية أنّه لم يكن منظراً تجريدياً، ليتحدث – مثلاً - عن الزهد وهو يعيش الترف، أو ليتحدث عن الخُلقْ الحسن وهو لا يحمل شيئاً من ذلك، أو ليتحدث عن العدالة وهو لا يطبقها.. كلا فعلي (ع) لم يكن كذلك.. بل كان التجسيد الحي للأخلاق الإسلامية المتسامية، من الشهامة، والحلم، والكرم والعفو عند المقدرة، إلى الزهد، والانتصار للمظلوم بفكره ولسانه ويده، ومن الواضح أنّه لا معنى للحديث عن "قائد إنساني" إن لم يكن يحمل من الخصال والخصائص الشخصيّة التي تجعله بحجم الإنسانية.

 

ثالثاً: النتاج الفكري لهذه الشخصية المعصومة والمتسامية، وهنا تتبدى معادن الرجال وكما قال علي (ع) "تكلموا تعرفوا"، "المرء مخبوء تحت لسانه"، "قيمة كل امرئ ما يحسنه"(نهج البلاغة)، فليس كل إنسان صالح في نفسه يستطيع أن يكون مصلحاً، وليس كل مجاهد يستطيع أن يكون ملهماً، لقد اختزن علي (ع) في شخصيته كل عناصر الجمال والكمال والسمو ما جعله ملهماً للإنسان.

 

 

جاذبية الإمام علي (ع)

 

لا شك أنّ غزارة علي (ع) في علمه وسموّه الفكري والأخلاقي قد فرض له هذا الحضور الإنساني، وأعطاه هذه الجاذبية المنقطعة النظير، والنور بطبيعته يجتذب إليه كل من أضناه الظلام، والماء يجتذب العطاشى إلى مشرعته، ولذلك لما سئل المتنبي عن سبب تركه مدح علي (ع) قال:

وتركت مدحي الوصي تعمداً          إذ كان نوراً مستطيلاً شاملاً

وإذا استطال الشيء أمام نفسه                وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً

 

 ويؤسفك أن تقول: إنّ الآخرين ربما اكتشفوا هذا البعد الإنساني في شخصية علي (ع) قبل أن يكتشفه المسلمون، ويؤسفك – أيضاً- وبشكل مضاعف أن تعرف أننا – كأتباع لعلي (ع)- لم نساهم في هذه العالمية عند علي (ع)، أو في التعريف بهذا البعد الإنساني الذي أدخل علياً (ع) في الكثير من الآفاق الواسعة، بل ربما شكّل خطابنا عن علي (ع) وتقديمنا له عائقاً أمام تكريس علي (ع) قائداً متربعاً على عرش الإنسانية.

 

إننا عندما نتحدث عن علي (ع) الإنساني فلسنا نتحدث شعراً ولا عاطفة بل نتحدث من خلال رصد شامل لكل مواقفه وكلماته على الصعيد الإنساني، وهذا الرصد يظهر لنا بكل وضوح أنّ علياً(ع) كان: الرسالي الإنساني، والحاكم الإنساني والحكيم الإنساني، والمشرع الإنساني، والمحارب الإنساني، والمصلح الإنساني..  

 

 

المصلح الإنساني

 

وإذا كان المقام لا يسعنا للإسهاب في كل هذه الأبعاد فإننا سوف نقصر الحديث في هذه المحاضرة على البعد الإصلاحي في شخصية علي (ع)، ودعونا نستمع إليه وهو يتحدث عن المهمة الإصلاحية، يقول عليه السلام:

 

 "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلمون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك، اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب ولم يسبقني إلا رسول الله بالصلاة".(نهج البلاغة )

 

   إنّ الإصلاح ليس مهمة سهلة، والطريق أمام المصلحين ليست مفروشة بالورود، بل إنها بكل تأكيد طريق ذات الشوكة، طريق الصعاب والتحديات، ومن هنا كان من الضروري أن يتحلى المصلح الديني والاجتماعي بجملة مواصفات، ومن أهمها صفة الشجاعة، إنّه يحتاج إلى شجاعة النطق بالحق ومواجهة الانحراف، لأنّ نهج الإصلاح ومتطلباته سوف يجعله في مواجهة مع حراس الجهل والتخلف، ومن الطبيعي أن يقف في وجهه كل المتضررين ليعملوا على تقويض مشروعه ووضع العراقيل أمامه، لذا فإنّ كل من يريد التغيير والاصلاح لا بدّ أن يوطن نفسه على الفداء والتضحية.

 

 ومن هنا تعرف لماذا كثر خصوم علي(ع) ومناوؤه، وكما قال: " فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى ومرق آخرون". (نهج البلاغة ، الخطبة الشقشقية )

 

 

الاصلاح والحاجة إليه

 

   إنّ الإصلاح حاجة إنسانية مستمرة، وذلك لأنّ الإنسان بطبيعته قد يسقط أمام ضغط الشهوات والمصالح، وينحرف عن خط الفطرة وتتشوه لديه قوة العقل الفطري، لذا كان بحاجة مستمرة إلى عمليّة تهذيب وإصلاح للنفس وتصحيح للمفاهيم والأفكار، ومن هنا كان الأنبياء(ع) هم الذين اضطلعوا بهذه المهمة، فالاصلاح مهمة الأنبياء والرسل(ع)، قال تعالى حاكياً عن لسان شعيب (ع): "إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله"[ هود 88].

 

 ومن هنا وجدنا أنّ أمير المؤمنين(ع) قد أكّد في كلامه المتقدم على مركزية الاصلاح ومحوريته، "ونظهر الاصلاح في بلادك" .

 

وهكذا رفع الإمام الحسين(ع) شعار الاصلاح في أمة جده بعد وفاة النبي(ص) بنصف قرن تقريباً، فقال فيما روي عنه:" إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ولكن خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي ووالدي".( مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 241)

 

 

الإصلاح في خطين

 

   والإصلاح لا يصل إلى غايته التغييرية إذا لم يتحرك على خطين متوازيين:

 

1-   إصلاح النفوس، بتهذيبها وتزكيتها، لأن إصلاح المجتمعات وإصلاح الإنسان لا يمكن بغير التربية والتهذيب، ولذا كانت مهمة التزكية واحدة من مهام الأنبياء وأشرفها، كما قال تعالى في وصف النبي الأكرم (ص):{ويزكيكم ويعلمهم الكتاب والحكمة.}[ الجمعة 2] ، وكما قال النبي (ص) مخاطباً علياً (ع): "يا علي لئن يهدي بك الله رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس"،( السنن الكبرى للنسائي ج5 ص 46)،  وقد بذل الإمام(ع) جهوداً جليلة في هذا السبيل فعمل على تربية جيل طليعي من خيرة المسلمين 

 

2-   إصلاح النصوص، ونريد به تصحيح الانحراف الواقع في خط الرسالات السماوية وفي رسالة الأنبياء، وهو الداء الذي ابتليت به كل الرسالات، من خلال التأويل والتحريف والتزوير الذي يلبس في كثير من الأحيان لبوس الدين، بحيث تتم مواجهة الدين بالدين.

 

   وقد اضطلع علي(ع) بهذه المهمة وقام بها على أحسن وجه وإن كلفه ذلك الكثير من الأعداء، وقد أشار النبي(ص) إلى دور علي(ع) في إصلاح النصوص في قوله(ص): "إنّ منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله، فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله قال: لا ولكن هو ذلكم خاصف النعل" ( شرح الأخبار للنعماني ج 1 ص 321) ، وإنّ معركة التأويل أخطر بكثير من معركة التنزيل.

 

وفد قال عمار بن ياسر يوم صفين:

 

نحن ضربناكم على تنزيله     فاليوم نضربكم على تأويله

( الاختصاص للمفيد ص 14).

 

 

 

ملامح المشروع الإصلاحي:

 

1)   في السلطة وإدارة الحكم، وأهم وثيقة تركها في هذا المجال بعد تجربته الغنية هي عهده إلى مالك الأشتر، إنها تجربة الحاكم الذي يركن إلى الاستشارة "امخضوا الرأي مخض السقاية" "من شاور الرجال شاركها في عقولها"، ويدعو الأمة إلى ممارسة النقد للحاكم "فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة..".

 

2)   في الاقتصاد، قدم نظريات هي بمثابة معادلات في الفكر العمراني والقتصادي، من قبيل مقالته لمالك الأشتر: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج فإنّ من استجلب الخراج من غير عمارة..." ومن معادلاته الهامة في الفكر الاقتصادي مقالته الشهيرة: "ما جاع فقير ألاّ بما مُتع به غني".

 

3)   في الأخلاق والتربية، قدّم قواعد هامة من أهمها، القاعدة التي تنص على التفرقة بين المبادئ الثابتة والوسائل المتحركة: "لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".

 

4)    في الفكر والثقافة، فعلي(ع) هو أول من تحدث مندداً بالعقل المستقيل "نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل "، وإنّ سبات العقل واسترخاءه هو المنبت والمرتع الذي نشأت في سياقه كل حركات التكفير، لأنّ فوضى التكفير ناشئة عن فوضى التفكير، ولذلك كان علي(ع) يقول: "والله ما قصم ظهري إلا رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك.." إنّ الجاهل المتنسك يعيش حالة من الغرور الديني.

 

وتوضيح هذه الأبعاد وسواها يحتاج إلى متسع من الوقت نسأل الله التوفيق لذلك.

 

 

 

محاضرة ألقيت في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد بمناسبة مولد الإمام علي (عليه السلام) 1435هـ.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon