حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
الخطاب الإسلامي بين جمود الفكر وجنوح العاطفة
الشيخ حسين الخشن



الخطاب الإسلامي

بين جمود الفكر وجنوح العاطفة

 

يلاحظ المتأمّل في أسلوب الكثيرين من الدعاة إلى الإسلام تغليباً للخطاب العاطفي على الخطاب العقلاني، وتركيزاً على الثقافة الوجدانية بدل الثقافة البرهانية. ويلقى الخطاب العاطفي رواجاً كبيراً وله أنصار كثيرون، وعلى سبيل المثال: لو أنّنا دعونا المؤمنين إلى المشاركة في مجلس عزاء حسيني لواحد من القرّاء العاديين، وفي الوقت عينه دُعينا إلى محاضرة دينية يتناول فيها عالِم كبير قضية الثورة الحسينية بالدرس والتحليل، لرأينا أنّ المشاركين في مجلس العزاء أكثر بنسبة عالية من المشاركين في المحاضرة الفكرية.

 

وفي المقابل، ينشط اتجاه آخر له أتباعه ومنظِّروه في الدعوة إلى الثقافة العقلية البرهانية التي تتناول القضايا بالتحليل الفكري الجادّ بعيداً عن العاطفة والمشاعر.

ويجدر بنا أمام هذين الاتجاهين أن نبحث عن الموقف الإسلامي إزاء ذلك، لمعرفة أنَّ الصواب هل هو في أحدهما أو أنّه في اتجاه ثالث؟

 

الإنسان عقلٌ وقلب

 

والذي نعتقده، أنّ طبيعة الخطاب الثقافي الإسلامي يجب أن تتلاءم وتتكيّف مع طبيعة المخاطَب به وهو الإنسان نفسه وأن تتحدَّد على ضوئها، لأنّ هذا الخطاب موجَّه للإنسان، والإنسان- كما نعلم- عقل وقلب، والقلب مركز العاطفة والشعور، والعقل مركز التفكير والإبداع، قال عليّ (ع)– فيما رُوِي عنه -: "الرجل بجنانه"[1].

وفي الحديث عن رسول الله (ص): "العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت، وإنّ الله تعالى خلق العقل فقال له: أقبِل فأقبَل، وقال له: أدبِر فأدبَر فقال: وعزَّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقاً أعظم منك ولا أطوع منك، بك أبدأ وبك أُعيد، لك الثواب وعليك العقاب.."[2].

 

وليست إنسانيّة الإنسان فقط هي التي تتقوّم وتتحدّد على أساس قلبه وعقله، بل إنّ تديّنه أيضاً لا يكتمل إلا باكتمال عقله وصفاء قلبه، أمّا علاقة الدين بالعقل فواضحة، فالعقل هو ميزان التديّن، قال أحدهم للإمام الصادق (ع): "فلان في دينه وفضله؟ فقال (ع): فكيف عقله؟ فقال السائل: لا أدري، فقال: "إنّ الثواب على قدر العقل"[3]، وعن علاقة الدين بالقلب قال رسول الله (ص)– فيما رُوِيَ عنه -: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"[4].

 

وكما أنّ الإنسان قد يُصاب في جسده، فإنّه قد يُصاب في عقله وقلبه، فكما أنّ للجسد أمراضاً، فإنّ لكلّ من العقل والقلب أمراضاً ومصارع.

 

مصارع العقل

 

1-  فمن أمراض العقل الهوى، عن الإمام عليّ (ع): "كم من عقل أسير تحت هوى أمير"[5].

2-  ومن أمراض العقل أيضاً: المطامع، يقول علي (ع)- فيما رُوِيَ عنه-: "أكثر مصارع الرجال تحت بروق المطامع"[6].

3-  ومنها العجب: في الحديث عن علي (ع): "عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله"[7].

وليس الجسد فقط هو الذي ينام، بل إنّ نومة العقل أعمق وأخطر، ومن هنا قال عليّ (ع): "نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل"[8].

 

 

أمراض القلب

 

يقول عليّ (ع): "ألا إنّ من البلاء الفاقة وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب"[9].

ومن أمراض القلب:

1-  العمى وهو أخطرها: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46].

2-  السآمة والملل: فعن أمير المؤمنين (ع): "إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم"[10].

3-  الفراغ، وعنه (ع): "القلب الفارغ يبحث عن السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الإثم"[11].

 

إلى غير ذلك من أمراض القلب والعقل التي يجب أن يتوجّه الخطاب الإسلامي إلى مداواتها ومعالجتها، ولذا فمن اللازم أن يقدِّم هذا الخطاب:

 أولاً: غذاءً للعقل، فيلبّي حاجياته ويجيب على أسئلته ويُشْبِع تطلّعاته، "فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب والبهائم لا تتّعظ إلا بالضرب"[12]، كما قال عليّ (ع).

 

ثانياً: لا بدّ من أن يقدِّم غذاءً ودواءً للروح والقلوب يروي ظمأها ويتألف وحشتها، لأنّ "قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه" كما روي عن علي (ع)[13]، ومن الضروري أن ندرك هذه القلوب بالتوعية قبل أن تلوثّها الأفكار الفاسدة وتقسو بفعل تراكم الذنوب ورتابة الحياة، ولذا يقول الإمام عليّ (ع) مخاطباً ابنه الحسن (ع): "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قَبِلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك"[14].

 

 

الخطاب القرآني: مزاوجة بين العقل والقلب

 

وخيرُ دليلٍ على ضرورة مراعاة الخطاب الإسلامي لحاجيّات العقل والقلب معاً، أنّا نجد الأسلوب القرآنيّ قد راعى ذلك في عملية تثقيف الأُمّة، فهو من جهة يطرح الحجج والبراهين العقلية في قضايا الفكر والدين وما يرتبط بوجود الله ووحدانيّته والمعاد وغير ذلك، ومن جهة أخرى، فإنّه يلامس المشاعر ويحرّك العواطف ويدغدغ الوجدان في قضايا الإيمان وعلاقة الإنسان بخالقه أو بأخيه الإنسان.

 

ويمتزج في الثقافة القرآنية خطاب العقل مع خطاب القلب في سياق واحد، فتنطلق الآية مخاطبة العقل ومحاولة إقناعه بالبرهان الساطع، ثم تسير في خطّ تحويل القناعة العقلية إلى قناعة وجدانية، لأنّ القناعة لا ينبغي أن تقف عند حدود العقل، بل لا بدّ أن تتجاوز أسوار القلب وتدخله ليطمئن ويشعر ببرد الإيمان كما شعر العقل بساطع البرهان، ولذا رأينا شيخ الأنبياء إبراهيم (ع)، وعلى الرغم من توفر القناعة التامة لديه بقدرة الله على إحياء الموتى، يطلب برهاناً حسيّاً على ذلك، لتتحوّل قناعته العقلية إلى قناعة وجدانية قلبية، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة: 260].

 

 

التوازن بين خطاب العقل والقلب

 

وهكذا يتّضح أنّ على الخطاب الإسلامي أن يكون متوازناً فيما يقدّمه للإنسان، فيراعي حاجيات القلب والعقل، ويقدّم الغذاء النافع لهما، ويتجنّب الإفراط والتفريط، فلا يطغى حساب العاطفة على حساب العقل ولا العكس أيضاً، بل يوازن بين الاثنين، فلكلٍّ نصيبٌ ومقدار، وكلٌ يوضع في ميزانه ويُؤتى من بابه.

 

1-  فالقلب في الإيمان له دور القاعدة والأساس، ولكن في الخطاب له دور الأسلوب والوسيلة، فهو مفتاح العقل وبابه، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبُه، فلا يجوز أن تتحوّل الوسيلة إلى غاية وهدف، كما في قضية البكاء على الإمام الحسين (ع)، فإنّ البعض يقدّمه كغاية وهدف مطلوب في نفسه، مع أنّه وسيلة وأسلوب من وسائل نشر أهداف الثورة الحسينية وثقافة أهل البيت (ع).

 

2-  والعقل هو الضابط لحركة القلب وانفعالاته العاطفية والمحرّك والحاكم للمسيرة الإنسانية، قال عليّ (ع): "للقلوب خواطر سوء، والعقول تزجر عنها"[15]، وعنه (ع): "لحظ الإنسان رائد قلبه"[16]. وعليه، فلا يجوز أن يكون نصيب العقل في الخطاب الإسلامي هامشياً.

 

 

الخطاب العاطفي: محاذيره وسلبيّاته

 

قد يستطيع الخطاب العاطفي أن يجد له جمهوراً واسعاً في الأُمّة الإسلامية، لاسيّما في الأوساط التي تعيش القهر والمعاناة، ما يجعلها تأنس للخطاب العاطفي كونه يدغدغ مشاعرها وينفّس عن غيظها وكربها، وكذلك في الأوساط التي تعيش السطحية والسذاجة، ما يجعلها تشعر بثقل الخطاب الفكري ولا ترتاح له.

ولكن الخطاب العاطفي له سلبياته ومحاذيره المتعدّدة:

 

أولاً: هو يسهم في بناء شخصية عاطفية لا ترتكز على قاعدة عقلية متينة، وهذه الشخصية ستكون بطبيعة الحال عرضةً للاهتزاز أمام التيّارات المتصارعة والرياح العاتية، ويكون حالها كحال الأمواج التي ما إنْ تتوقف حركتها حتى تنتهي وتضمحل، ولهذا يكون من الضروري في عملية بناء الشخصية الإسلامية تأصيل العاطفة وبناؤها على ركيزة فكرية متينة، كي لا تبقى مجرّد وهج ينطفئ بزوال مسبّباته، أو يخبو لأدنى شبهة تعترضه، وربّما يلمّح إلى هذا المعنى كلام أمير المؤمنين (ع): "رأي الشيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام"[17].

فإنّ رأي الشيخ ينطلق من خبرة وتجربة، بينما جلد الغلام وقوّة بأسه تنطلق من عاطفة وانفعالات لا ترتكز على قاعدة.

 

ثانياً: إنّ الخطاب العاطفي قد يُستغلّ من قِبَل الكثيرين من ذوي المصالح والمطامع، لحجب الحقيقة عن الأُمة في محاولة لتجهيلها وتعمية الأمور عليها، كما هو واقع الحال في أُمتنا العربية التي يحرّكها شعور أو شعار ويخدّرها شعور أو شعار، ولذا تندفع مع هذا الزعيم مهلّلة باسمه، وتنكفئ عن ذاك الزعيم وهي تلعنه، وكلّ ذلك على أساس عاطفي من دون قاعدة واضحة للاندفاع أو الانكفاء، بل كلّ ما في الأمر أنّها وقعت أسيرة لبريق الشعارات ووهج المشاعر.

 

ثالثاً: إنّ الشخصية الإنسانية عندما تُبنى على أساس عاطفي لا على أساس فكري، فإنّ ذلك يجعلها شخصية متلقية تستقبل كلّ ما يُلقى إليها ممّا يصبّ في تعزيز هدفها العاطفي، ولو كان يحمل في طيّاته مفاهيم قلقة وغير موزونة، بل لا يعود السؤال- بعد استبعاد العقل الذي هو بمثابة المصفاة لِمَا يُلْقَى إلى السمع عن دائرة البناء الفكري- عن عقلانية الفكرة وتوازن الصورة مطروحاً ووارداً.

 

فمثلاً: عندما يصبح الهدف من إحياء عاشوراء هو البكاء والتباكي، فإنّ المستمع سيتلقّى من قارئ العزاء كل ما يَستدرُّ دمعته ويثير عاطفته، ولو كان يحمل أو يعكس صورة مشوّهة ومسيئة أو غير موثّقة، وهذا من قبيل الصورة التي يُقدّم بها الإمام الحسين (ع) رجلاً هزيلاً يستغيث فلا يُغاث، وتكون آخر كلمات يتمتم بها لسانه هي قوله "وحقّ جدي إنّي عطشان"، أو قوله: "يا قوم اسقوني جرعة من الماء فقد تفتّت كبدي من الظمأ"، وهكذا الصورة الشعرية أو النثرية التي تُقدَّم بها السيدة زينب (ع) إنسانة هزيلة ضعيفة فاقدة لتوازنها وثباتها التي عُرِفَت به، فإنّ هاتين الصورتين وأمثالهما تُتْليان على المنابر باستمرار، وقلّما تجد مَنْ يتساءل عن صدقيّة هذه الصور ومعقوليّتها وانسجامها مع شخصية الإمام الحسين (ع) أو شخصية العقيلة زينب (ع)، وما ذلك إلاّ لأنّ عاشوراء قد ترسّخت في الذهن العام على أساس أنّها موسم للبكاء، فكلّ ما يُبكي مقبول ولو كان غير معقول.

 

رابعاً: إنّ الخطاب العاطفي لكونه خطاباً معلَّباً ومقولباً، سيُسهم في إنتاج وتكوين شخصيّات مغلقة ترفض النقد لآرائها ومواقفها أو مواقف قادتها الذين سيتحوّلون بفعل الثقافة العاطفية إلى رموز مقدّسة فوق درجة النقد والمساءلة، وتتحوّل أخطاؤهم ومساوئهم إلى حسنات لا بدّ أن يُدافع عنها وتساق لها التبريرات المتعدّدة بدل أن تنتقد وتصوّب، وهكذا ستضيق هذه الشخصية المنغلقة بالآخر وفكره، وستعمل على قمعه وقتله معنوياً وربّما جسدياً بفعل تنامي حسّ الانتقام ضده، وهذا ما نلمسه في قصيدة السيد حيدر الحلي التي يستنهض "غيرة الله"، فيقول:

يا غيرة الله اهتفي بحمية الدين المنيعة

واستأصلي حتّى الرضيع لآل حرب والرضيعه[18]

يعلِّق المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله على هذه الجملة قائلاً: "فنحن نجد أمامنا دعوة صارخة مثيرة لاستئصال بني أُمية، حتى الرضيع منهم من الذكور والإناث، لنصطدم بهذا القول الذي لا يتناسب مع القيمة الإسلامية الإنسانية في خطّ العدالة التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]"[19].

 

 

الابتعاد عن جمود الفكر

 

وما ذكرناه لا يعني إقصاء اللمسة العاطفية عن الخطاب الثقافي والفكري، فإنّ من يتنكّر للعاطفة ولا يحسب لها حساباً، فهو يتنكّر لطبيعة الإنسان التي تحتاج في ما تحتاجه إلى غذاء للروح والقلب كما تحتاج إلى غذاء للعقل. أضف إلى ذلك، أنَّ تقديم الفكرة بطريقة عقلية جافة، مع عدم إضفاء أيّة مسحة أو لمسة عاطفية عليها قد يحول دون اختراقها جدار السمع، فضلاً عن تحوّلها إلى قناعة راسخة يتبعها سلوك عملي. ولهذا كلّما أضفينا على خطابنا العقلي لمسة روحية، كان أكثر إيقاعاً وإقناعاً.

 

ومن هنا وجدنا أنّ الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام بأن يخاطبا فرعون خطاباً ليّناً يحرّك الإحساس ويستثير الضمير قال تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 42- 44].

وحاصل الكلام: إنّ على الخطاب الثقافي الإسلامي كي يتجنّب الوقوع في مزالق العاطفة وانفعالاتها، ويتخلّص من جمود العقل وقسوته، أن يتوازن ليكون خطاباً أساسه العقل والبرهان، ورداؤه العاطفة والوجدان.

 

من كتاب: العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي    

 


[1]تصنيف غرر الحكم ص66.

[2] تحف العقول ص15 ومستدرك الوسائل ج1 ص83، الباب 3 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 7.

 [3]الكافي ج1 ص11.

[4] مسند أحمد ج3 ص198، ونهج البلاغة ج2 ص94، وعوالي اللئالي ج1 ص278.

[5] نهج البلاغة ج4 ص48.

 [6]نهج البلاغة ج4 ص49.

 [7]نهج البلاغة ج4 ص49.

[8] المصدر نفسه ج2 ص219.

[9] المصدر نفسه ج4 ص93.

 [10]نهج البلاغة ج4 ص20.

 [11]شرح نهج البلاغة ج20 ص303.

 [12]نهج البلاغة ج3 ص55.

 [13]المصدر نفسه ص477.

[14] نهج البلاغة ج3 ص40.

[15] تصنيف غرر الحكم ص66.

[16] المصدر نفسه  ص67.

[17]نهج البلاغة ص482.

[18] ديوان السيد حيدر الحلي ص37.

[19]راجع حديث عاشوراء، ص: 23.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon