حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
الطفل وحقُه في التربية
الشيخ حسين الخشن



الطفل وحقّه في التربية

 

        ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "حقّ الولد على والده أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويضعه موضعاً صالحاً"(1).

 

        إنّ ما يلفت النظر في هذا الحديث النبوي اعتباره أنّ تأديب الطفل ليس مجرّد مِنَّة أو حَسَنة يتفضّل بها الوالد على ابنه، وإنّما هو حقّ من حقوقه، وكونه حقاً يعني أنّه في حال لم يحسن أدبه فإنّه يتحمّل مسؤولية أخلاقية أمام الله وأمام الولد نفسه، لأنّه –

أقصد الوالد – لم يؤد إليه حقّه، وذلك يوحي بأنّ الطفل أمانة في أيدي الوالدين وعليهما أن يحسنا حفظ هذه الأمانة ورعايتها من العبث والانحراف، كما أنّ ذلك يستدعي منهما التفكير ملياً – قبل الإنجاب وبعده – في كيفية تربيته، لاسيما في زماننا هذا الذي

أضحت فيه تربية الطفل مسألة في غاية الصعوبة.

 

        ليس كلّ والد أباً

 

        إنّ حفظ الأمانة – أمانة الطفل – وأداء حقّها يفرض على مريدي الزواج من الشباب أو الفتيات استباق الزواج بدورات تدريبية حول كيفية التعامل مع الأطفال والاطلاع على مراحل الطفولة المختلفة ومقتضيات كلّ مرحلة منها، فإنّ الكثيرين من الرجال

والنساء يمتلكون القدرة على الزواج والإنجاب، ولكنّهم يفتقدون القدرة على التربية والرعاية، وإنّه لمن السهل أن يكون كل رجل والداً، لكن من الصعوبة بمكان أن يكون أباً ومربّياً، كما أنّ من السهل أن تكون كلّ أُنثى والدة لكن من الصعب أن تكون أُمّاً

ومربية، لأنّ الأُبوّة وكذا الأُمومة ليست أمراً بيولوجياً كما هو الحال في الوالدية، وإنّما هي فعل ثقافة ووعي كامل بالمسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين بما يؤهلهما لإعداد الطفل إعداداً روحياً وعقلياً وجسدياً، وبهذا – أعنى بالأبوة والأمومة – امتاز الإنسان

عن الحيوان، فإنّ الوالدية صفة عامة يشترك فيها الحيوان مع الإنسان، بينما الذي يميِّز الإنسان أنّه مؤهل ليكون أباً أو أُمًاً، الصفة التي لا يملك الحيوان قابلية الوصول إليها.

 

 

        بين جمال الروح وجمال الجسد

 

        إنّ الأبوة والأمومة الحقّة تفرض على الوالدين أن لا يحرصا فقط على العناية التامة بصحة أبنائهم الجسدية والنفسية وأن لا يكون جُلُّ اهتمامهم مُنْصَبَّاً على الجانب الجمالي لأولادهم، رغم أنّه اهتمام مشروع ومطلوب، لكن ينبغي، بل يلزم، أن يترافق

ذلك مع الاهتمام بالجانب الأخلاقي والمعنوي للأولاد، لأنّ قيمة الإنسان بأخلاقه أكثر ممّا هي بجسده، وجمال الجسد إنْ لم يقترن بجمال الروح والأخلاق قد يتحوَّل إلى عنصر فساد ومدخلٍ للانحراف، ومن هنا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "ما

سألتُ ربّي أولاداً نضر الوجه ولا سألته وُلْداً حسن القامة، ولكن سألتُ ربّي أولاداً مطيعين لله، وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرَّت عيني"(1).

 

 

        الأنبياء وتربية الأولاد

 

        وإدراكاً منهم لدور التربية في صناعة الإنسان، وأنّ: "ولد السوء يهدم الشرف ويشين السلف" كما قال عليّ (ع) في ما روي عنه(1)، لأجل ذلك كان اهتمام الأنبياء (ص) منصبّاً على استقامة أبنائهم وحسن سلوكهم، وكانوا على الدوام يفكّرون

بمستقبل ذريّتهم وصلاحها، ولذا كان الولد حاضراً معهم حتى في أدعيتهم ومناجاتهم، فهذا نبيّ الله زكريا (ع) عندما أخبرته مريم أنّ رِزْقها يأتيها من عند الله توجّه إلى ربّه طالباً منه الذريّة الطيّبة والصالحة لا مطلق الذرية، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ

قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران:38].

 

 

        وهذا نبيٌّ آخر وهو إبراهيم (ع) عندما يطلب من الله أن يرزقه الولد فإنّه يطلب الولد الصالح لا مطلق الولد، يقول فيما حكى عنه القرآن {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، وكان باستمرار يفكّر باستقامة أبنائه وصلاحهم ويهتم كثيراً

لمستقبلهم، ولذا نراه لا يطلب خيراً من الله لنفسه إلاّ ويشرك معه أبناءه وذريته: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم:40]، ولم يرجُ منه تعالى صرف السوء والشرّ عنه إلاّ ويدخل ذريته معه في الدعاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ

الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وعندما منَّ الله عليه بالإمامة الكبرى لم ينسَ ذريته {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].

 

        وهكذا هو شأن عباد الرحمن، فإنّ لسان حالهم ومقالهم على الدوام: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].

 

 

        العقم خير ولد السوء

 

        وفي ضوء ذلك قد يكون البلسم والدواء لجرح وألم أولئك الأشخاص الذين حُرِموا الولد – مضافاً إلى الرضا بقضاء الله وقدره – أن يضعوا في الحسبان أنّ العقم هو خير من ولد السوء الذي يشينهم في الدنيا ويجعلهم أمام سؤال الله في الآخرة، فلربّما

كانت الحكمة في عدم إنجابهم هي أنّ هذا الولد سيكون في المستقبل وبالاً على أبويه أو على المجتمع، والأمثلة الواقعية تؤكّد أنّ فتنة الولد قد تؤدي إلى انحراف أبويه وضلالهما، وقد قال الإمام عليّ (ع): "ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله"

(1).

 

        نقول هذا مع إدراكنا إلى أنّ قضية العقم تدخل ضمن ما يعرف في علم الكلام بإشكالية الشرور التي طرح في الإجابة عليها عدّة أجوبة فلسفية وتربوية، وما ذكرناه ليس هو التفسير الوحيد لها.

 

 

        العناية بالطفل قبل ولادته

 

        ويلاحظ المتابع أنّ العناية بالطفل – في المنظور الإسلامي – لا تبدأ من حين ولادته أو حتى في فترة الحمل بل إنّها تسبق مرحلة الزواج، ليفكّر كل من الرجل والمرأة بالطفل غداة تفكيرهما بالزواج، فيهتم الرجل باختيار الزوجة المؤهّلة لتربية أولاده

في المستقبل والتي تكون أُمّاً لهم، ولا يغتر بالجمال الظاهري للمرأة على حساب الجمال الروحي، وقد جاء في الحديث الشريف: "إيّاكم وخضراء الدِّمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدِّمن قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"(1) وتعتني المرأة أيضاً

كما ذووها باختيار الشريك الذي سيكون أباً ومربيّاً ومثلاً أعلى لأبنائها، فلا تحدّق كثيراً في مال الرجل وجاهه وجماله، بل في أخلاقه ودينه، لأنّ ذلك هو حصانة استقرار الحياة الزوجية، يقول رسول الله (ص) فيما روي عنه: "إذا جاءكم من ترضون خلقه

ودينه فزوِّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير"(2).

 

 

        وبعد الولادة

 

        وإذا ما أهلَّ الطفل وأطلّ على هذه الدنيا، فإنّ مسؤولية أبويه في رعايته وحمايته وتحصينه من الأخطار والأمراض سواء المادية أو الأخلاقية والمعنوية تتضاعف وتزداد، وتنصّ الروايات الواردة عن الأئمة من أهل البيت (ع) على استحباب تلاوة

الآذان في الأذن اليمنى للوليد والإقامة في اليسرى، لتكون أول كلمة يسمعها بعد استهلاله هي كلمة: "الله أكبر" والشهادة لله بالوحدانية، ولسنا ندري إنْ كان لهذه الكلمات تأثيراً معنوياً على الطفل، إلّا أنّ الشيء الأكيد أن هذا العمل – أعني الآذان والإقامة في

أُذنيه – يرمز إلى أهمية الجانب الروحي ويؤشّر إلى مسؤولية الوالدين عن التربية الدينية لأبنائهم وتوثيق علاقتهم بالله سبحانه.

 

        واللافت للنظر أنَّ آخر كلمةٍ يُستحب تلقينها للإنسان ساعة الاحتضار وخروج الروح هي كلمات الذكر والتهليل والتشهُّد أيضاً، كما تؤكّد الوصايا الإسلامية، لتكون البداية والنهاية على اسم الله، في إشارة واضحة إلى أنّ الحياة لا بدّ تتحرّك من بدايتها إلى

نهايتها وفق إرادة الله ومشيئته وعلى هدي تعاليمه وشريعته.

 

 

        الوصية وتواصل الاهتمام

 

        ولا تقف المسؤولية عند هذا الحدّ، بل إنها تزداد وتتضاعف مع نمو الطفل جسداً وعقلاً، ولا ينبغي للأهل أن يتراخوا في هذا الشأن مهما بلغ ابنهم من العمر، ومهما بلغوا هم من العمر أيضاً، وكما يجدر بهم أن يفكروا بأمر الولد واستقامته وصلاحه قبل

أن يولد ويأتي إلى هذه الدنيا – كما سلف – يجدر بهم أيضاً أن يولوه الاهتمام عينه حتى بعد رحيلهم هم عن هذه الدنيا، وذلك من خلال الوصية التي يوصون بها، فإنّ الأدب الإسلامي في الوصية للأبناء ينصّ على أن يبدأ الموصي وصيته بحثهم وأمرهم بتقوى

الله ولزوم أمره واجتناب معاصيه، ودعوتهم إلى أن يعمروا قلوبهم بذكره ويعتصموا بحبله، كما جاء في وصية عليّ (ع) لابنه الإمام الحسن (ع)(1).

 

        إنّ الوصية تعبر عن تواصل الاهتمام بالموصى به أو الموصى إليه إلى ما بعد الموت، وهذا ما يوحي به المعنى اللغوي لكلمة الوصية(1) ولا يخفى أن التواصل مع الولد بعد الموت من خلال الوصية له تأثير معنوي كبير ربما يفوق في أهميته

التواصل معه في حال الحياة، لأنّ الكثير من الأبناء قد لا يهتمون بإرشادات الآباء والأمهات في حال حياتهم ولا يصغون إلى كلماتهم، بل ربما تمرّدوا عليهم، لكن موت الأب أو الأم يهزّ – في العادة – كيان الأولاد وربما شعروا بالندامة لتقصيرهم في حق

آبائهم وأمهاتهم، الأمر الذي يمنح الوصية قدسية في نفوسهم ويسعون إلى تنفيذها تكفيراً عن تقصيرهم بحق أهاليهم، ومن هنا درج علماؤنا – اقتداءاً برسول الله (ص) وأهل بيته الطاهرين، وبالأخص الإمام عليّ (ع) الذي ترك تراثاً هاماً من الوصايا لأبنائه –

على كتابة الوصايا لأبنائهم وضمّنوها إرشادات وتعاليم أخلاقية ومواعظ دينية متفرقة بلغة محبّبة تستثير عطف الأبناء وتستنفر عواطفهم، ولعلّ من أروع ما كتب في هذا المجال هو وصية السيد ابن طاووس لابنه المعروفة بــ "كشف المحجّة لثمرة المهجة" إلى

غير ذلك من الوصايا التي تميّزت بأسلوب شيّق وبليغ، الأمر الذي قد يشكّل أدباً خاصاً يمكن تسميته بأدب الوصايا.

 

من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام" - تم نشر المقال في: 10-1-2015

 



(1) مَنْ لا يحضره الفقيه: 4/372 ونحوه في الكافي: 6/48.

(1) بحار الأنوار: 104/98.

(1) مستدرك الوسائل: 15/215.

(1) الاستيعاب لابن عبد البر: 3/40.

(1) الكافي: 5/332.

(2) الكافي: 5/347.

(1) راجع تحف العقول 69.

(1) صحاح الجوهري: 6/2525، تاج العروس: 2/295.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon