حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
مرتكزات العملية التربوية للطفل
الشيخ حسين الخشن



مرتكزات العملية التربوية للطفل

 

                تقوم العملية التربوية على جملة من المرتكزات الأساسية التي تمثّل جوهر هذه العملية وروحها، كما وترسم لها الإطار الذي لا بدّ أن تتحرّك فيه، وفيما يلي نشير إلى اثنين من هذه المرتكزات تحت عنوان: "ثالوث الشخصية الإنسانية" و"بين

المبادئ والوسائل".

 

 

  1.  ثالوث الشخصية الإنسانية

 

ثمّة عوامل وعناصر عديدة تصقل شخصية الطفل وتترك بصماتها على تفكيره وعاطفته وسلوكه، فيجرد بل يفترض بالعملية التربوية أن تعي هذه العناصر جيداً، وأهم هذه العوامل ثلاثة:

 

  1.  العامل الوراثي؛ 2- العامل الاجتماعي؛ 3- العامل التربوي الثقافي.

       

وقد اعتنى الإسلام بهذه العناصر ونبّه على أهميتها ودورها في تحديد مصير الإنسان، وقدَّم توجيهاته بصدد كل واحد منها.

       

فعلى مستوى العنصر الوراثي لم يعد خافياً أنّ الخصائص التكوينيّة سواءً الذهنية أو العقلية أو الجسدية لدى الأبوين مرشحة للانتقال إلى ولدهما، ما يدعو إلى ضرورة أخذ ذلك بعين الاعتبار، إذ ربما يؤدّي تجاهل هذا الأمر إلى نتائج غير محمودة فيما يرتبط

بصحّة الطفل الجسدية أو النفسية، وفي هذا الصدد يؤكد الإسلام على أهمية اختيار الشريك الآخر – ذكراً أو أنثى – والاعتناء بخصاله الخُلقية والخَلقية والعقلية، لأنّ العرق دسّاس كما ورد في الحديث عن النبيّ (ص)(1)، وفي حديث آخر عنه (ص):

"اختاروا لنطفكم فإنّ الخال أحد الضجيعين"(2).

       

وإدراكاً منه لدور العامل الوراثي وتأثيره المباشر على تكوين الطفل فقد اهتم الإسلام أيضاً بالمرضعة التي تغذّيه باللبن، فإنّ حليب المرأة كما يؤكّد المختصون يترك أثراً بيّناً على الطفل وبنائه الجسدي والروحي والعقلي، ولذا جاء في الحديث الشريف: "انظروا

من تُرْضِعُ أولادكم فإنّ الولد يشبّ عليه"(3)، وعنه (ص): "لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يغلب الطباع"(4) ولنا عودة إلى موضوع الرضاع لاحقاً.

       

وأما فيما خصَّ العنصر الثاني، فمن الواضح أن للبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان دوراً كبيراً في صياغة شخصيته وبنائه الفكري والروحي، واهتمام الإسلام بالعامل الاجتماعي لا يقصر عن اهتمامه بالعامل الوراثي بل يزيد عليه، لأنّ تأثير المحيط ا

لاجتماعي – ابتداءً من الأسرة إلى الرفقة – على الإنسان تأثير بيِّن وبالغ، وهو يسهم إلى حدٍّ كبير في تحديد مصيره ورسم مستقبله إنْ خيراً أو شرّاً.

       

وهكذا وبوتيرة أعلى يزداد اهتمام الإسلام بالعامل الثالث وهو العامل التربوي، ولذا تكثر التعاليم الداعية إلى ضرورة تأمين الفضاء التربوي الملائم لإعداد الطفل تربوياً وروحياً.

       

دور الأسرة في رعاية الطفل

       

بالعودة إلى العامل الثاني فإنّنا لا نبالغ بالقول: إنّ المسؤولية الأساس عن توفير البيئة الصالحة والفضاء الاجتماعي الملائم لتربية الطفل تقع على عاتق الأسرة التي عليها أن تبقى في حالة استنفار مستمرة في سبيل توفير أفضل شروط التربية والرعاية، ويأتي

على رأس ذلك: الاهتمام بأصدقائه وصحابته، لا ليفرض الأهل عليه الأصدقاء فرضاً أو يختاروا له الرفقاء، بل ليقوموا بدور الناصح الأمين في هذا المجال فيحذّرونه  من أصدقاء السوء ويوجّهونه ويرشدونه إلى اختيار من تنفعه صداقته، لأنّ رفيق السوء

يعدي، كما أن مرافقة الطيّبين تكسب المرء طيباً، وهكذا يجدر بهم الاهتمام بمدرسة الطفل وأساتذته وكل من يتعهّدون تربيته وتعليمه، لأنّ المدرسة قد تترك بصماتها على عقل الطفل وعواطفه وسلوكه أكثر ممّا تتركه الأسرة.

       

إن الإسلام يعتبر أن دور الأسرة في رعاية الطفل دور أساسي في العملية التربوية، خلافاً لبعض الأفكار أو الممارسات الغربية التي قد تتعامل مع الطفل وكأنّه فرد مستقل عن الأسرة، الأمر الذي يلغي أو يهمّش دور الأبوين في حياة الأطفال، إنّ هذه الأفكار

هدّامة ومدمّرة للإنسان والإنسانية، ولذا غدونا نشهد تنامياً في الغرب نفسه للأصوات المنادية بتفعيل دور الأسرة والعودة إلى حضن الأبوين الدافئ بعد أن ذاق الناس هناك الويلات من موجة التفّلت من الأسرة والخروج عليها.

 

  1.  بين المبادئ والوسائل

       

إنّ الإسلام يؤكّد أن خير ميراث يمكن أن يتركه الأهل لأبنائهم هو ميراث الأدب لا المال أو القصور والعقارات. ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إنّ خير ما ورَّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال فإنّ المال يذهب والأدب يبقى"(1).

       

لكن السؤال الجوهري في هذا المقام يرتبط بتحديد المقصود من الآداب؟ وهل أنّها ثابتة ومطلقة أو متحرِّكة ونسبيّة؟

       

يبدو أنّ مصطلح الآداب لا يرادف مصطلح الأخلاق لكنه يتّسع له، وذلك أنّه – أي مصطلح الآداب – في جانب منه يمثّل الثبات والإطلاق وذلك بلحاظ ما يختزنه من معنى الأخلاق التي تتّسم بالثبات، ولكنه في جانبه الآخر يمثّل المرونة والحركية، بلحاظ أنّ

الآداب تختزن وتمثّل مرونة الأسلوب في تجسيد وتطبق القيم الأخلاقية، ولذا فإنّنا نجد في النصوص الإسلامية ما يشير إلى عنصري الثبات والمرونة في الآداب، فبينما نجد أنّ رسول الله (ص) – فيما روي عنه – يأمر صاحبه معاذ عند إرساله إلى اليمن بأنْ

يؤدِّب الناس على الأخلاق كقيمٍ مطلقة، قائلاً له: "يا معاذ علِّمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الفاضلة"(2)، نجد بالمقابل أنّ علياً (ع) يشير إلى مرونة الآداب وحركيّتها في قوله (ع): "لا تقسّروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير

زمانكم"(1)، وهذه الجملة من كلام عليّ (ع) تمثّل قاعدة هامة تحتاج إلى مزيد من البيان والتوضيح، لأنّها تركِّز على ضرورة مراعاة الزمان والمكان كعنصر هام وشرط لازم لنجاح العملية التربوية ووصولها إلى أهدافها، والسؤال: كيف نفهم ذلك؟ وهل

أن لتغيّر الزمان وتبدّل المكان تأثيراً على الفكر التربوي أم على وسائل التربية وآلياتها؟

       

يمكن القول: إنّ المسألة التربوية تتّسم بالثبات والمرونة في الآن نفسه، فهي على مستوى الوسائل تعتبر عملية متحرّكة متجدّدة لا تحكمها الكثير من القوالب الثابتة والأطر الجامدة، وأمّا على مستوى المبادئ فإنّها ثابتة ومطلقة ولا تخضع لتغيّر الزمان واختلاف

المكان.

       

إنّ ما نقصده بالمبادئ: الضوابط والأُسس التي تهدف إلى صناعة الإنسان وبنائه معرفياً وروحياً وجسدياً، ليتمكّن من النهوض بمسؤولياته اتّجاه ربّه ونفسه ومجتمعه، ويدخل في هذا الإطار المنظومة الأخلاقية والأصول العقائدية مع ما يستتبع ذلك من التزام

واستقامة عملية على جادة الشريعة، أما الوسائل فهي الأمور المتحرّكة ممّا يتّصل بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي قد تختلف من مجتمعٍ لآخر ومن زمان لآخر، وتتبع ثقافة المجتمع وبيئته وتراثه، وهكذا كل ما يتّصل بالآليات العملانية التي تستهدف تحريك

تلك المبادئ الثابتة وإنزالها إلى أرض الواقع والاستعانة بكل الأساليب الحديثة في مجال التخاطب والتفاهم ونقل الأفكار.

       

والأمر الفارق بين المبادئ والوسائل يكمن في أن كلّ ما تستدعيه وتفرضه الميول الفطرية والنزعات المتأصّلة في النفس الإنسانية، أو على الأقل يحاكي تلك الميول والنزعات فهو من سنخ المبادئ الثابتة، وأمّا ما تستدعيه الميول غير المتأصّلة أو يرتبط بها

فهو من سنخ الوسائل، باختصار: إنّ المبادئ تلامس الجوهر والعمق ولذا كانت ثابتة بثباته، بينما الوسائل تلامس الشكل والظاهر ولذا كانت متغيّرة بتغيّره ونسبيّته.

       

باتّضاح ذلك يغدو من البديهي أن تُميِّز العملية التربوية بين المبادئ والوسائل، وأن تبني برامجها وخططها التربوية على هذا الأساس، ففي الوقت الذي يكون التشدُّد النسبي في مجال تربية الأطفال على المبادئ وحملهم عليها أمراً مبرّراً ومفهوماً، شريطة

مراعاة أسلوب الحكمة والمرونة في التطبيق، فإنّ المجال واسع ورحب بالنسبة للوسائل، والتساهل والمرونة هما سيّدا الموقف فيها، بل إنّ التشدُّد في هذا المجال لا مبرّر له في كثير من الحالات، وربّما لامس حدّ الخطيئة التربوية، فعلى سبيل المثال: إنّ ما

يفعله الكثير من الآباء أو الأمهات من محاولات فرض عاداتهم وتقاليدهم ونقلها إلى الأبناء ليكون الولد نسخة عن جدّه وأبيه أو جدّته وأُمّه فيما يرتبط بتقاليد اللباس والأزياء وطريقة السكن أو الأكل والشرب أو غيرها من العادات أمرٌ خاطئ ولا مبرّر له شرعاً

وعقلاً، ولن يكلّل بالنجاح، ومن يفعل ذلك فكأنما يريد لعجلة الحياة أن تتوقف عن الحركة، الأمر الذي لن يحصل أبداً.

       

ويبلغ الخطأ التربوي مداه عند بعض الناس – أباءً وأُمّهات – ممّن يسعى إلى استنساخ نفسه عبر ابنه، كأنّما يريد لابنه أن يتقمّص شخصيته، فيطلب منه أن يختار نفس تخصّصه العلمي أو يمارس نفسه هواياته، وأن يفكر كما يفكر أو يضاهيه ويماثله في كل

تصرفاته بما في ذلك تسريحة شعره وطريقة مشيه..! ومع الأسف فإن الحرص المذكور يقتصر على الجوانب الشكلية ولا يلامس المبادئ الجوهرية، ويكون باعثه الأساسي حفظ سمعة الأبوين خشية الاتهام بتجاوز التقليد الاجتماعي وليس باعثه أبداً مراعاة

مصلحة الولد.

       

إنّ القاعدة الآنفة، أعني ضرورة التمييز بين المبادئ والوسائل ومراعاة الزمان والمكان، تنسجم كامل الانسجام مع طبيعة الشريعة الإسلامية وخاتميّتها ووسطيّتها، وهي تستفاد بصراحة ووضوح من كلام أمير المؤمنين (ع) المتقدم: "لا تقسروا أولادكم على

آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"(1)، فإنّ مصطلح الآداب في كلامه (ع) يراد به ما يدخل في إطار العادات والتقاليد المتحركة والمتغيرة ولا يراد به ما يرادف الأخلاق كما أسلفنا.

 

من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"

تم نشر المقال في 16-1-2015

 


(1) كنز العمال: 15/885.

(2) مكارم الأخلاق: 297، الكافي 5/332.

(3) الكافي: 6/43.

(4) المصدر نفسه: 6/43.

(1) الكافي: 8/232.

(2) تحف العقول: ص 25.

(1) شرح نهج البلاغة: 20/267.

(1) شرح نهج البلاغة: 2/276.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon