حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس
الشيخ حسين الخشن



وهنا نعود إلى السؤال حول أمثل الأساليب وأفضلها في مجاهدة النفس وتهذيبها؟

 

وفي الإجابة عن هذا السؤال، نقول (مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرناه حول أسلوب العلاقة الصحيحة مع الله): إنّ الطريق الأفضل والأسلوب الأمثل للتهذيب يتمثّل في اتباع عدة خطوات:

 

أـ التزام منهج الكتاب والسّنة

 

الخطوة الأولى: هي الالتزام في عمليّة تهذيب الروح والنفس بنهج الكتاب والسُّنة المتمثّل بالعمل بالتكاليف الشرعية، والأخذ بالمنظومة العبادية والروحية التي جاءتنا عن النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع). (ستأتي الإشارة إلى هذه المنظومة) والأخذ بالمنظومة المذكورة لا بدّ أن يترافق مع إعداد وقت

لمحاسبة النفس وتهذيبها، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: ٤٠ – ٤١]. إنّ المؤمن بحاجة إلى تخصيص مثل هذا الوقت للاختلاء بنفسه لمحاسبتها ومساءلتها، وقد ورد في الحديث النبوي المشهور: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن

تُوزنوا وتجهّزوا للعرض الأكبر"[1]، وسيأتي حديث عن المحاسبة وكيفيتها وآثارها الطيبة في فقرة لاحقة تحت عنوان "الشباب والفراغ الروحي".

 

 

ب - بناء العلاقة مع الله على أساس الحبّ

 

  والخطوة الثانية على هذا الصعيد هي السعي الجادّ في سبيل استشعار عظمة الله تعالى، وإبقاء جذوة حُبّه متقدة في النفوس، ومعلومٌ أنّ المحبّ لا يعصي حبيبه، بل يحرص على الدوام لنيل رضاه وكسب محبته.

 

وأعتقد أنّه ليس أمام الإنسان المسلم من طريق للوصول إلى مستوى مقبول من الاستقرار الروحي، إلاّ الطريق الذي رسمه القرآن الكريم والذي تقدّمت أهم خطواته العمليّة، وسيأتي مزيد من الحديث عنه، فهذا الطريق هو الموصل ليس إلى حالة من العروج أو السمو الروحي فحسب، بل إنّه سيغرس

محبّة الله في القلب، ومَنْ ذاق محبّة الله فلن يتّخذ معه شريكاً في الحبّ، فضلاً عن اتخاذ شريك له في الطاعة والعبادة والخالقية، وقد ورد في المناجاة "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً ومن ذا الذي أَنِس بقربك فابتغى عنك حِولاً"[2]. ومن يبني علاقته مع الله على أساس الحب،

فلن يُشغل بالَه حديثُ الجنة والحور، بل يغدو رضا الله غايته وطموحه، يقول أحد الشعراء:

 

رضاك رضاك لا جنات عدن    وهل عدن تطيب بلا رضاكا

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: ٧٢].

 

وهكذا فإنّ من يعيش محبّة الله تعالى لن تؤلمه نار جهنم بقدر ما تؤلمه نار الهجر وفَقْد الحبيب.

يقول أمير المؤمنين(ع): "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك"[3].

 

 

ج‌- أهميّة القدوة في حياة الشباب

 

إلى ذلك، فإنّ ثمّة خطوة ثالثة تساعد كثيراً في عملية تهذيب النفس وإصلاحها، وتتمثّل باتّخاذ قدوة صالحة، والقدوة في هذا المجال هي النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) ومن تربّى في مدرستهم من الأولياء والصلحاء والعرفاء. ولا ريب إنّ استحضار سيرة هؤلاء ومواقفهم وتجاربهم في تزكية

النفس الأمارة، هي خير معين للشباب في مهمّة التزكية والتهذيب.

 

 ويجدر بالخطاب الديني أن يعمل على تقديم النماذج الشبابية التي تخرّجت من مدرسة الإسلام الأصيل إلى أجيالنا المعاصرة، ورغم الأهميّة الخاصّة التي يوفّرها لنا استلهام النماذج المعصومة باعتبار أنّ تجربتها وسلوكها وفكرها مصون من الخطأ والزلل، فإنّي أشعر أنّ لاستحضار النماذج غير

المعصومة، والتي تربّت في مدرسة المعصومين ميزة خاصة؛ لأنّ ذلك أدعى للاقتداء بهم وتمثّل سلوكهم، وأبعد عن محاولة الاحتجاج والتعلّل بعدم القدرة على الاقتداء، كما يدّعيه البعض عادة عندما يُدعى إلى الاقتداء بالمعصوم. مع أنّ هذا العذر ليس صحيحاً، لأنّ عصمة النبي (ص) أو الإمام (ع)

لا تلغي بشريته ولا تنفي وجود الغرائز لديه. وأضف إلى ذلك أنّ استحضار هذه النماذج الشبابية التي تخرّجت من مدرسة المعصومين(ع)، يمثّل تقديراً ووفاءً لهؤلاء وتنويهاً بأسمائهم وتعريفاً بأشخاصهم ومواقعهم، وهم في الأعمّ الأغلب شخصيّات مجهولة لهذا الجيل الشبابي بل لعامة المسلمين! وقد

يكون التقصير أو القصور في التعريف بهؤلاء من قِبَل أهل العلم والأدب، هو أحد الأسباب التي تقف خلف ظاهرة تقليد الشباب المسلم لرموز من خارج الفضاء الإسلامي من الممثِّلين أو المطربين أو لاعبي كرة القدم أو غيرهم.

 

 

د- من عرفاء مدرسة الوحي

 

وبالحديث عن القدوة الصالحة يمكننا القول: إنّ المدرسة القرآنية وتعاليم النبي الأكرم (ص) وأهل بيته (ع) قد استطاعت أن تربّيَ جيلاً من عباد الله الصالحين، الذين عرفوا الله حقّ المعرفة، بعيداً عن الخطوط المنحرفة للسلوك الروحي. ونكتفي بذكر عدّة من هؤلاء، وهم من الجيل الشاب:

 

1- الصحابي المتيقّن

ومن أبرز هؤلاء ذاك الشاب الصحابي الذي حدثنا الإمام الصادق(ع) عن قصّته قال - فيما رُوي عنه - : "إنّ رسول الله(ص) صلّى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد يخفق ويهوي برأسه مصفّراً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله(ص): كيف أصبحت يا فلان؟

 قال: أصبحت موقناً.

 

 فعجب رسول الله(ص) من قوله، وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟

فقال: إنّه يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا منهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنة يتنعّمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل

النار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.

 

 فقال رسول الله لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثم قال: إلزم ما أنت عليه. وفي خبر آخر "أبصرت فاثبت".

 قال الشاب: ادعُ لي يا رسول الله أن أُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله(ص) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي(ص) فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر"[4].

 

 

2- مصعب بن عمير: من حياة الترف إلى الشهادة

 

والنموذج الآخر الذي نذكره في هذا المجال هو الصحابي الشاب مصعب بن عمير الذي ترك حياة الترف في مكة ليلتحق بالدين الجديد، ويسعى في نشر الإسلام والدعوة إليه ويبادر بكلّ اندفاع وحماس إلى حمل الرسالة الإسلامية إلى أهل يثرب (المدينة المنوّرة). لقد كان مصعب فتى مكة الجميل

المترف المدلّل، وكان أبواه يحبّانه، وكانت أُمّه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وظلّ يعيش بين أبوين يكرمانه ويفضلانه على سائر أولادهما، إلى أن دخل الإسلام قلبه فترك حياة الترف واللهو، فجفاه أبواه دون أن يفتّ ذلك من عضده أو يوهن من عزيمته. فكان مع رسول الله في الشِعْب حتّى تغيّر

وأصابه الجهد، ولكنّه في هذه الفترة اغتنى بالقرآن الكريم وتعلّم منه الشيء الكثير. ولهذا انتدبه النبي (ص) إلى مهمة جليلة، وهي مهمة الذهاب إلى المدينة لتعليم أهلها القرآن الكريم وتعريفهم بالإسلام . فكان يخرج في كل يوم يطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام فيجيبه الشبان منهم، وظلّ

مصعب على إخلاصه للإسلام إلى أن استشهد في معركة أُحد بين يدي رسول الله (ص)[5].

 

 

3- الشاب التائب

 

 والنموذج الثالث: هو أحد الشباب المعاصرين للإمام الصادق (ع)، ففي الحديث عن أحد أصحاب الإمام الصادق والمسمّى بعليّ بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كتّاب بني أمية، فقال: استأذن لي على أبي عبد الله(ع) فاستأذنت له، فأذن له فلمّا دخل سلّم وجلس، ثم قال: جعلت فداك إنّي كنت في

ديوان هؤلاء القوم (بني أميّة) فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه! (أي لم أسأل ولم أهتّم: أمن حلال هو أم من حرام؟).

 

 فقال أبو عبد الله(ع): لولا أنّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم ما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاّ ما وقع في أيديهم.

فقال الفتى: جُعلت فداك فهل لي من مخرج؟

 قال(ع): إن قلت لك تفعل؟

 قال: أفعل.

 قال: فاخرج من جميع ما كسبت من ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنة.

 فأطرق الفتى طويلاً، وقال: قد فعلت جُعلت فداك.

 

 قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلاّ خرج منه حتّى ثيابه التي على بدنه، فقسمنا له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة.

 قال: فما أتى عليه إلاّ أشهر قلائل حتّى مرض، فكنّا نعوده قال: فدخلت يوماً وهو في السَّوق (الاحتضار) ففتح عينيه، ثم قال لي: يا علي لقد وفّى لي صاحبك، ثم مات فتولينا أمره.."[6].

 

إلى غير ذلك من الأسماء الشبابية البارزة التي تركت ملذات الدنيا وهاجرت إلى الله تعالى وإلى رسوله(ص). وسوف نشير لاحقاً إلى مزيد من هذه النماذج التي استطاعت أن تنتصر على النفس الأمارة بالسوء وتخلّت عن ترف الدنيا ولهوها لأجل أن تحيا حياة متواضعة ولكنها مفعمة بالإيمان بما

يضمن لها استقراراً روحياً منقطع النظير، وكان لها أيضاً دور هام في حمل الرسالة الإسلامية[7].

 

 

4- نماذج شبابية ذكرها القرآن الكريم

 

هذا لو قصرنا النظر على تاريخنا الإسلامي، أما إذا ذهبنا في جولة إلى تاريخ الرسالات السابقة وفتحنا سجلاته المشرقة فسوف نجد - أيضاً - الكثير من النماذج الشبابية التي تمثّل قدوة تحتذى، فهذه القديسة مريم (ع) هي نموذج الفتاة الطاهرة العفيفة، وقد خلّد القرآن الكريم ذكرها في العديد من آياته

المباركة، حتى خصصت سورة قرآنية باسمها، وهؤلاء فتية أهل الكهف الذين فرّوا من قومهم ومجتمعهم الغارق في الشرك والوثنية والتجأوا إلى الله تعالى، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ

مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف: ١٣ – ١٦].  

 

إنّنا نتوجّه إلى شبابنا اليوم بالقول: هؤلاء هم سلفكم الصالح وهؤلاء هم قدوتكم الذين عليكم الاستلهام من هديهم والسير على خطاهم، وليس قدوتكم المطرب الفلاني أو الممثلة الفلانية أو لاعب الكرة الذي قد لا يملك في سجله شيئاً من الإنجازات سوى نجاحه في اللعب، ولكنّه في ميزان القيم والأخلاق قد

يكون إنساناً عادياً جداً..

 

من كتاب "مع الشباب، في همومهم وتطلعاتهم" http://www.al-khechin.com/article/440

نُشر على الموقع في 19-10-2016



[1] وسائل الشيعة ج 16 ص 99، الباب 96 من أبواب جهاد النفس، الحديث 9.

[2] مقطع من مناجاة المحبين المنسوبة إلى الإمام زين العابدين (ع)، راجع حول سند هذه المناجاة ما ذكرناه في ملاحق كتاب: "وهل الدين إلاّ الحب؟" ص232 وما بعدها.

[3] مقطع من دعاء أمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل.

[4] الكافي ج2 ص53.

[5] انظر: السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 296، وج 3 ص 592، وإعلام الورى بأعلام الهدى ج 1 ص 139، وقاموس الرجال للتستري ج 10 ص 86، وموسوعة التاريخ الإسلامي للشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1 ص 653.

[6] الكافي ج 5 ص 106.

[7] انظر: المحور الرابع، فقرة "دور الشباب في عملية النهوض".

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon