حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
الطرق غير المشروعة في تهذيب النفس
الشيخ حسين الخشن



ثمّة طُرق أخرى غير مشروعة في بناء العلاقة مع الله تعالى، أو في عملية تهذيب النفس وتزكيتها، وفيما يلي نشير إلى ثلاث طرق منها:

 

1- طريق الإرجاء

 

 وهي الطريق التي توجز العلاقة بالله تعالى وتختصرها بالبُعد الاعتقادي القلبي أو العقلي، ولا تُولي العمل بالأركان (فعل الواجبات وترك المحرّمات) أهميّة تُذكر. فالمهم لدى أصحاب هذا الاتّجاه أن يكون قلبك نابضاً بحبّ الله، وأن يكون عقلُك موقِناً بوجوده تعالى، ولا همّ بعد ذلك إن عملت بمقتضى ما علمته أم لم تعمل!

 

 إنّ هذه العقيدة قد تبنّاها قديماً المرجئة (فرقة إسلامية منقرِضة) ولا يزال صدى هذه العقيدة يتردّد إلى يومنا هذا، حيث نجد أنّ بعض المسلمين عندما يستنكر البعض عليهم انغماسهم في المعاصي وإطلاقهم العنان لغرائزهم وتَرْكَهم العبادات والفرائض فإنّهم يبرّرون ذلك بمنطق المرجئة عينه فيقولون لك: "إنّ الإيمان في القلب"، أو "إنّ الأساس هو أن يكون قلبك نظيفاً ولا تعتدي على أحد"، أو أمثال ذلك من الكلمات التي يتذرّعون بها ويبرّرون بها ضعف إرادتهم ونقص إيمانهم.

 

 ولا ريب أنّ هذه العقيدة هي عقيدة باطلة وغير سديدة، فالإيمان ليس فكرة ذهنية مجرّدة أو نبضة قلب فحسب، وإنّما هو بالإضافة إلى ذلك سلوك سويّ وخُلُق طيّب والتزام بالفرائض والواجبات وترك للرذائل والمحرّمات، وقد سئل علي (ع) – كما في الرواية – عن الإيمان فأجاب: "الإيمان معرفة

بالقلب وإقرار باللّسان وعمل بالأركان"[1]، ومن هنا فقد نبّه الأئمة من أهل البيت (ع) من خطورة هذا الرأي على الجيل الشاب الذي تستهويهم هذه الأفكار كونها تناسب أهواءهم وغرائزهم، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة"[2].

وللسبب عينه فقد ورد التحذير من الغلاة وخطرهم على الشباب أيضاً، لأنّ ما يحملونه من فكرٍ يقوم على الاكتفاء بالمعرفة ويقلّل من أهميّة العبادة يشكّل خطراً على الشباب، ففي الحديث عن الصادق (ع): " إحذروا على شبابكم الغُلاة لا يفسدونهم، فإنّ الغلاة شرُّ خلق الله .." [3]، وقد بحثنا هذا

الموضوع في محلّ آخر، فليراجعْ[4].

 

 

2- طريق المتصوّفة

 

 والطريق الثاني هي التي يعتمدها أهل التصوّف أو العرفان السلبيّ الذي يدعو للاعتزال والابتعاد عن ملذّات الدنيا. والوجه في عدم شرعيّة هذه الطريق، هو أنّ تقوى الله لا تعني الانعزال عن الحياة أبداً، بل إنّ التقوى الحقيقيّة هي التي يعيش معها الإنسان في ميدان الحياة، وينطلق في مساراتها دون أن

يغرق في ملوّثاتها. وإنّ وصول الإنسان إلى حالة الصّفاء الروحي والاطمئنان النفسي ليست مطلوبة كيف ما كان وبصرف النَّظر عن الطريق والوسيلة الموصلة، وإنّما هي مطلوبة من خلال الأخذ بالأساليب الشرعيّة، وهي أساليب تتميز بأنّها لا تُبعد الإنسان ولا تعزله عن الحياة، فرسول الله (ص)

كان العارف الأوّل بالله تعالى، ولكنّ عرفانه لم يمنعه من أن يعيش في معترك الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة. وأمير المؤمنين(ع) كان العارف الثاني بعد رسول الله(ص)، حتّى وصل لدرجة "لو كُشف ليَ الغطاء ما ازددت يقيناً"[5]. ولكنّه مع ذلك كان يمارس عرفانه في وسط الميدان، ومن خلال

مزاولة كلّ الأعمال المشروعة اجتماعياً وجهادياً وسياسياً، حتّى خُيّل إلى البعض وجود تنافٍ بين عرفانه (ع) واشتراكه في الحروب، أو بين زهده واستلامه للسلطة والحكم، يقول صفيّ الدين الحلّي:

 

    جُمعت في صفاتك الأضدادُ  *  فلهذا عزّت لكَ الأندادُ

    زاهدٌ حاكمٌ حكيمٌ مجاهدٌ    *   ناسكٌ فاتكٌ فقيرٌ جوادُ

    شِيَمٌ ما جُمعن في بشرٍ قطّ   *   ولا حاز مثلَهُنَّ العبادُ

    خلق يخجل النسيم من اللطف * وبأس يذوب منه الجماد[6].

 

والحقيقة أنّه لا تنافٍ بين هذه الأمور والصفات التي أشار إليها صفي الدين الحلّي، فيمكنك أن تكون زاهداً وأنت في موقع الغنيّ مالاً والرفيع جاهاً ومقاماً، كما بإمكانك أن تكون العارف بالله تعالى وأنت تعيش في معترك الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة.. وهذا الأمر - على صعوبة الالتزام به - ليس

مستحيلاً ولا متعذّراً ولا متعسِّراً، فكمْ من شخص بلغ قِمّة الزهد والتقى وهو يمارس حياته كسائر الناس دون أن يعيش في الصوامع أو ينعزل عن أبناء المجتمع، وقد ذكرنا قبل قليل بعض النماذج الشبابية ممّن تربّوا في مدرسة الإسلام، فكانوا – بحقّ – من أهل العرفان، بيد أنّهم كانوا من عرفاء

الميدان لا من عرفاء الصوامع.

 

على أنّ الله تعالى كما يريدنا أن نعبده، فإنّه يريدنا أن نعبده بالطريقة التي يريدها هو، لا بما نخترعه نحن من أعمال وطقوس، ولهذا وجدنا أنّ الله تعالى قد حدّد لنا أساليب وطرق العبادة الموصلة إلى رضوانه، ولم يترك الأمر لمزاج العباد، بل نهانا عن الابتداع في دينه، واختراع طُرق خاصّة لعبادته.

 

وقصارى القول: إنّ طريق العرفان الصحيح لا يوجب - إطلاقاً - انقطاع المسلم عن الدنيا وملذّاتها، وعن الناس والتواصل معهم، فالمؤمن يمكنه - بالإضافة إلى الالتزام بالواجبات العباديّة - أن يخصّص وقتاً  لمناجاة ربه في الليل - كما هو المستحبّ - أما في النهار، فإنّه يتحرّك فيما يهمّه وما يعنيه من

شؤون الحياة ومتطلّباتها، وهذا ما علّمه الله لنبيّه (ص) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل: ٦ – ٧]، ففي اللّيل تخصّص وقتاً لتنطلق في سياحة روحيّة تعرج بك إلى الله تعالى، وفي النهار تنطلق لتسبح وتتحرّك في مسارات الحياة الاجتماعية والسياسية

والتجارية، وتسعى لتأمين مستلزمات العيش الكريم، لك ولعيالك، فتأكل وتشرب وتتزوج وتستعمل الطيب، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: ٣٢].

 

 

   وقد ورد في نهج البلاغة، أنّ أمير المؤمنين عليّاً(ع) دخل وهو في البصرة على العلاء بن زياد، وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: "ما كنت تصنع بسعة هذه الدار؟! أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تُقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة".

 

 فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين(ع) أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا، قال(ع): عليّ به، فلما جاءه قال: يا عُدَيَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أَمَا رحمت أهلك وولدك، أترى الله أحلَّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك! قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: ويحك إنّي لست كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقرُه"[7].

 

وهذا ما كانت عليه السيرة المطهّرة لرسول الله(ص) والأئمة من أهل بيته(ع)، فهم رهبان الليل، فرسان النهار، وكما قال الشاعر في وصف أمير المؤمنين (ع):

   هو البكّاءُ في المحراب ليلاً    هو الضحّاك إذا اشتدّ الحِرابُ

 

 

3- طريق العرفان المزيّف

 

والطريق الثالث هي التي تعتمِدُ في عمليّة التهذيب الأساليبَ الملتبسة أو الملتوية، كتلك التي تدعو الشخص للالتزام ببعض الأوراد والأذكار الخاصّة، وبأعداد معيّنة وأوقات خاصّة مع كونها غير واردة في نصّ خاص، أو كتلك التي يأمر فيها الشخص أتباعه ومريديه أن يحصوا زلّاتهم وأخطاءهم في سجلّ خاص، ثمَّ يَعْرِضُون ذلك عليه لتقييمها، ليعمل على توجيههم وإرشادهم! وهذا أسلوب غير مشروع، بل إنّه يتنافى مع التعاليم الإسلامية الآمرة بالستر وعدم فضح الإنسان نفسه أمام الآخرين: "إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا"[8].

 

 وأغرب من ذلك، هو الأسلوب الذي نُقل عن البعض دعوة أتباعه إلى الأخذ به، وهو يتمثّل في دعوة الرجال - مثلاً - إلى تعمّد النظر في وجوه الحسان من النساء والتأمّل في مفاتنهن، والخلوة بهن، مع عدم وجود رابط شرعي بين الطرفين، بل إنّ بعضهنّ من المحصنات، شريطة أن يترافق ذلك ويتزامن

مع السعي التام وبذل الجهد في إماتة الغريزة الجنسية وتدريبها على عدم الانجذاب الغرائزي إلى الجنس الآخر. وذلك على قاعدة أنّ "العين لا ترى نفسها إلا بمرآة"، والمرأة الأجنبية هي المرآة التي يختبر المؤمن إيمانه وإرادته من خلال النظر إليها، ووصل الأمر بهؤلاء إلى حدّ الدعوة إلى ما يسمونه

"الزواج الروحي"، وهو عبارة عن علاقة بين الجنسين يزعمون أنّها علاقة روحيّة بحتة ويتواصل فيها الطرفان مع عدم وجود رابط شرعية بينهما تحت هذه المظلّة فيتحادثون ويخرجون في نزهات مشتركة!

 

فهذا الأسلوب المبتدّع ليس من منهج القرآن ولا منهج رسوله (ص) ولا منهج أهل البيت(ع) في شيء، ولا من سيرة العرفاء الحقيقيين في شيء. إنّ العرفان الحقيقي يعتمد الأساليب المشروعة في عملية تهذيب النفس وإصلاحها، ولا يلتمس مثل هذه الأساليب الملتوية والمشبوهة، والتي قد تعدَّ باباً من

أبواب الانحراف أكثر ممّا قد تساعد على تهذيب النفس، فالقرآن الكريم يدعو المؤمنين والمؤمنات إلى غض أبصارهم عند النظر إلى الجنس الآخر، لأنّ ذلك أزكى لنفوسهم وأطهر لهم، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ

يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ

مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: ٣٠ – ٣١].

 

 

والسؤال هنا: كيف تنسجم مثل هذه الأساليب التي تحثّ على النظر إلى وجوه النساء في سبيل تهذيب النفس مع دعوة القرآن الكريم إلى غض البصر؟! وأين تلتقي مثل هذه الدعوات المزيّفة مع دعوة النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) إلى التعفّف والحياء واجتناب النظرة تلو النظرة؟! ففي الحديث عن

الأصبغ بن نباته عن علي (ع) قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي لك أول نظرة، والثانية عليك ولا لك"[9]، وعن الإمام الصادق (ع): "النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله عز وجل لا لغيره أعقبه الله إيماناً يجد طعمه"[10]، فلاحظ كيف أنّه (ع) قد اعتبر أنّ

ترك النظر المحرّم هو الذي يجعل الإنسان يتذوّق طعم الإيمان، وأمّا تعمّد النظر وتكراره فهو يجعله في معرض السقوط؛ فعن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ): "النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى  بها لصاحبها فتنة "[11].

 

وأمّا المرآة التي نحتاج إليها كي ننظر من خلالها إلى ذواتنا فليست هي النظر إلى مفاتن النساء ولا سيما المحصنات، وإنّما هي مرآة الوحي والتي تعلّمنا بأن نعرض أعمالنا على القرآن الكريم وسيرة المعصومين(ع)، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل.

 

 وإنّنا ننبّه الشباب المسلم ونحذّرهُم من الوقوع في شباك هؤلاء الدجّالين أو الانخداع بهذه الأكاذيب التي لا توصل إلى هدى ولا تنفع في تهذيب النفس وإصلاحها. وقد علّمتنا التجارب أنّ أمر أصحاب هذه الدعوات المزيّفة سرعان ما يُفتضح، فيضلّون عن الطريق ويضلون أتباعهم، وفي أضعف الإيمان فإنّ هذه الأساليب تضع سالكيها على حافة الانحراف وتُوقعهم في الشطحات وتعرّضهم للسقوط في الشبهات واقتحام الهلكات.

 

أحبتي الشباب..

 

لا تمكّنوا اللصوص المدّعين للعرفان زوراً وكذباً من أن يعبثوا بإيمانكم ويُفسدوا عليكم دينكم أو يلوثوا فيكم أغلى ما تملكون وهو الروح الطاهرة، من خلال هذه الخدع والتلفيقات والتمويهات التي لا تمتّ إلى الدين بصلة، فهذه طرق لا خير فيها، ولو كان فيها خير لسَبَقَنا النبي (ص) وآل بيته(ع) إلى

الأخذ بها والدعوة إليها، كما لا تسمحوا للنفس الأمارة بالسوء أن تخدعكم وتغريكم بالتكاسل أو توهمكم بالعجز عن تهذيب النفس وإصلاحها والوصول إلى قدر معقول من الصفاء الروحي الذي يمنحكم الاطمئنان والسلام النفسي.

 

أيّها الشباب..

 

إنّ بعض الناس من ذوي النوايا الخبيثة وربّما أصحاب القلوب الطيبة – أيضاً - قد يسيئون إليكم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيقولون لكم: لا داعي لإتعاب أنفسكم في هذا السن المبكر (سنّ الشباب) بالجهد والعمل والالتزام بمبادىء الدين والاجتناب عن الملذات المحرمة، فالحياة - هكذا يقول

الموسوس لكم - لا تزال أمامكم، وفرصة العبادة متاحة لكم في قادم الأيام، فاستمتعوا الآن في مرحلة الشباب بملذات الدنيا وغداً وفي سنّ الكهولة تتوبون إلى الله تعالى، وهو يقبل التوبة عن عباده ويحبّ التوابين، وبذلك تفوزون بنعيم الدنيا والآخرة!

 

إنّي أنصحكم نصيحة المخلص والمحبّ لكم أن لا تصغوا إلى هذا الكلام ولو كان معسولاً أو قاله بعض "المحبين" لكم، لأنّني أسألكم: مَنْ يضمنُ لكم أن لا يأتيكم الموت بغتة قبل أن توفّقوا للتوبة؟ ومَنْ يضمنُ لكم أنّكم إذا اعتدتم على المعاصي فلن تُدْمِنُوا عليها ويصعب عليكم بعد ذلك التخلّص منها؟! إنّ إمامكم زين العابدين(ع) يعلّمكم درساً في هذا المجال، حيث يقول في بعض مناجاته: "ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحيي من ربي"[12].

 

إنّ شبابكم هو أغلى ما تملكون فلا تضيّعوه أو تُفنوه في معصية الله تعالى، بل ابذلوه في العمل الصالح وفي طاعة الله، وبذلك تتركون بصمة في هذه الحياة وتنالون الفوز والنجاة والسعادة الأبدية، استمعوا إلى وصيّة رسول الله (ص) في هذا المجال حيث يقول مخاطباً أبا ذر الغفاري (رض): "يا أبا ذر، ما من شاب يَدَعُ لله الدنيا ولهوها، وأهرَم شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدّيقاً"[13].

 

 أيها الشباب ..

 إنّ أرواحكم عزيزة ونفوسكم غالية وأجسادكم ثمينة وإنّ الله تعالى مجدُه قد جعل ثمنها الجنة، فلا تبيعوها بأبخس الأثمان؛ في الحديث عن الإمام الكاظم (ع): "أَمَا إِنَّ أَبْدَانَكُمْ لَيْسَ لَهَا ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةُ فَلَا تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا"[14].

 

من كتاب "مع الشباب في همومهم وتطلعاتهم"

نُشر على الموقع في 12-12-2016

 



[1] نهج البلاغة ج4 ص50، وروي نظيره عن الإمام الصادق (ع)، انظر: الكافي ج2 ص27.

[2] الكافي ج6 ص47، والمقصود بـ "الحديث" هو روايات النبي (ص) وأهل بيته (ع)، فإنّها مصدر أساسي بعد القرآن في بناء العقيدة الإسلامية الصحيحة.

[3] الأمالي للطوسي ص 650.

[4] انظر كتاب: عاشوراء قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء ص60 وما بعدها.

[5] عيون الحكم والمواعظ ص 415.

[6] هذه الأبيات لعبد العزيز بن سرايا الحلي، انظر: أعيان الشيعة ج 8 ص 22.

 

[7] نهج البلاغة ج 2 ص 187، بيان: :" يقدروا أنفسهم"، أي يقيسوا أنفسهم بالضعفاء، ليكونوا قدوة للغني في الاقتصاد وصرف الأموال في وجوه الخير ومنافع العامة وتسلية للفقير على فقره حتى "لا يتبيغ"، أي يهيج به ألم الفقر فيهلكه"، أنظر: هامش الصفحة المذكورة من نهج البلاغة .

[8] المشهور أنّ هذا الكلام هو حديث شريف، ولكنّنا لم نعثر عليه فيما تسنى لنا مراجعته من المصادر الحديثية للفريقين، ولكننا عثرنا على ما يقرب منه معنى، وهو ما روي عنه (ص): "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله ، وليتُب إلى الله"، انظر: كنز العمال ج 4 ص 208، وج 16 ص 12.

[9] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 19.

[10] المصدر نفسه

[11] المصدر نفسه.

[12] مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 291، وانظر: المزار للشهيد الأول ص 262.

[13] الأمالي للشيخ الطوسي ص 535.

[14] الكافي ج 1 ص 19.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon