حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> متنوعة
العدوان على الطبيعة: بين مسؤولية الإنسان والأديان
الشيخ حسين الخشن



إنّ مسؤولية الإنسان عن مظاهر التردي والتلوث في المجال البيئي، وكذا العدوان على الطبيعة هي من المسلمات التي لا نقاس فيها، إلاّ أن الجدل المطروح في الأوساط الثقافية في العالم ينصبّ حول تحديد الفئات الأكثر عدواناً على الطبيعة أو استنزافاً لمواردها، ففيما يحاول البعض إلقاء اللوم على الأديان وأتباعها ينحى آخرون بإلقاء اللائحة على ثقافات معنية، وما تفرضه من أنماط سلوك غير متوازنة.

 

الأديان ونصوصها:

 

أما الاتجاه الذي ألقى باللائحة على الأديان فقد قاده بعض المثقفين العلمانيين، وخلاصة ما ينقل عن هؤلاء أنهم " تتبعوا جذور أزمتنا البيئية وأرجعوها إلى الموقف اليهودي المسيحي من الطبيعة، فإن هذا الموقف وما يصاحبه من ميراث تقليدي وثقافي هو المسؤول عن الأخطار الموضوعية التي تتهود المستقبل الإنساني" (ضياء الدين سردار/ نحو نظرية إسلامية عن البيئة/ ترجمة سميّة البطرواي/ مجلة المسلم المعاصر ع59/1991 ص77_78)، ويذكر بعضهم "أن مؤرخين وفلاسفة وعلماء بيئة يتجادلون في قضية أن المسيحية هي التي تتزعم جناية العالم المعاصر على البيئة بتسويغها خراب الأرض"(Mennonite Central Committee Worldly Spirituality Harper and Row1984).

 

في المقابل فإنّ رجال الدين المسيحيين واليهود ـ كما علماء المسلمين ـ يحرصون على التأكيد بأن تعاليم أديانهم تدعو إلى حماية البيئة وحفظها من الأخطار المحدقة بها.

 

فرادة النص القرآني:

 

ونحن في الوقت الذي نُصدِّق فيه كل رجال الدين المعاصرين على اختلاف أديانهم في دعواتهم المخلصة إلى حماية البيئة واحترام الطبيعة ومكوناتها، ونقرّ أيضاً بوجود بعض النصوص الدينية لدى كافة الأديان تدعو إلى احترام البيئة والمحافظة على مواردها وتمجّد الطبيعة بكل آياتها وعناصرها، وربما يصل التمجيد إلى حدّ المغالاة والتقديس والخضوع العبادي لبعض مظاهر الطبيعة، كما نلحظ ذلك في الزرادشتية أو الهندوسية أو غيرها من الأديان، إننا في الوقت الذي نقرّ بذلك ونقدره، فإن علينا التأكيد على حقيقتين:

 

الأولى: أن ثمة نصوصاً دينية وتفسيرات خاطئة لنصوص أخرى خرجت عن هذا السياق، وأوحت بمنح الإنسان حق التصرف اللامحدود في الطبيعة ومكوناتها، وهذا الأمر قد ساهم في تكوين ثقافة تستسهل العدوان على الطبيعة، على سبيل المثال: فإن بعض نصوص التوراة تدعو إلى قطع الأشجار وطمّ عيون الماء وما إلى ذلك، فقد جاء في الإصحاح الثالث من سفر الملوك الثاني على لسان الرب: "فتضربون كل مدينة محصنة وكل مدينة مختارة وتقطعون كل شجرة طيبة تطمّون جميع عيون الماء وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة". ولذا لا غرابة أن تصنف نصوص التوراة في خانة النصوص المعادية للبيئة.

 

والثانية: أن النص القرآني يتميز بفرادة خاصة على هذا الصعيد، ولذا لا بدّ أن يُصنَّف في دائرة النصوص الصديقة للبيئة، لأنه مشحون بالوصايا والإرشادات التي تُحمّل الإنسان حماية البيئة ورعايتها، ونجد في هذا النص حضوراً مكثفاً وإيجابياً لكل عناصر البيئة ومكوناتها وعظيم صنعها وروعة إتقانها وجميل مرآها ودقة أسرارها وكثرة فوائدها، وهذا ما سيتبدى بوضوح في ثنايا البحوث الآنية، أجل لا يمكننا أن ننكر أن بعض النصوص القرآنية قد يساء فهمها، كما نخال ذلك حاصلاً في مفهوم التسخير القرآني والذي قد يفهم منه البعض إعطاء إذنٍ بالتصرف اللامحدود في الموارد الطبيعية، وهكذا قد يفسر الزهد الإسلامي تفسيراً خاطئاً بجعله مساوياً لإهمال الحياة بكل عناصرها والطبيعة بكل مكوناتها، وهو تفسير مضر بالبيئة بطبيعة الحال، كما سلف في مقال سابق.

 

النزعة الأرضية:

 

هكذا ولكن اشتمال بعض النصوص الدينية على نصوص أو تفسيرات مسيئة للبيئة لا يصح أن يدفعنا إلى تحميل الدين المسؤولية الكاملة عن المشكلة البيئية، فإنّ المشكلة في عمقها الحقيقي لا تكمن في الدين أو نصوصه، وإنما في انتشار الثقافة المادية الاستهلاكية البعيدة عن القيم الدينية الأصيلة والموغلة في الإخلاد إلى الأرض، والابتعاد عن قيم السماء، إن هذه الثقافة وما أفرزته من أنماط حيايتة ومعيشية ملائمة هي المسؤول الأول عن كافة الكوارث البيئية وعن ضعف الوازغ الأخلاقي إزاء حماية البيئة والاهتمام بها.

 

في ضوء ما تقدم يتضح أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد البيئة بكل مكوناتها إنما جاء من الغرب بنزعته المادية الأرضية، ولم يأت من الشرق "فالإنسان الأوروبي ـ كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر ـ بطبيعته ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء، وحتى المسيحية ـ بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان منذ مئات السنين ـ لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي، بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسّده في كائن أرضي"، ويضيف رحمه: "لقد استطاعت النظرة إلى الأرض لدى  الإنسان الأوروبي أن تفجِّر طاقاته في البناء، وأدّت أيضاً إلى ألوان من التنافس المحموم على الأرض وخيراتها ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، لأن تعلق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يضحي بأخيه ويحوله من شريك إلى أداة، وأمّا الشرقيون فأخلاقياتهم تختلف عن أخلاقيات الإنسان الأوروبي نتيجة لتاريخهم الديني، فإن الإنسان الشرقي الذي ربّته رسالات السماء وعاشت في بلاده ومرّ بتربية دينية على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض، ويأخذ بعالم الغيب قبل أن يأخذ بالمادة والمحسوس، وهذه الغيبية في مزاج الإنسان الشرقي المسلم حدّت من قوة إغراء المادة وقابليتها لإغرائه" (منابع القدرة في الدولة الإسلامية).

 

التدهور البيئي في البلاد الإسلامية:

 

ما تقدم لا ينبغي أن يفهم منه أنّ الوضع البيئي في البلاد الإسلامية هو بخير، كلا، فالأوضاع البيئية في البلدان الإسلامية ليست على ما يرام، وشواهد التردي على هذا الصعيد كثيرة، فالتلوث في الكثير من المدن الإسلامية الكبيرة كطهران أو القاهرة أو دمشق يبلغ أرقاماً قياسية، والمساحات الخضراء تقل شيئاً فشيئاً في هذه البلدان ويحتاجها التصحر، والفوضى في بناء المساكن والتجمعات السكنية بادية للعيان بحيث أنها في كثير من الأحيان تفتقد أدنى شروط الأمان والسلامة الصحية... لكن أين هذا كله من الكوارث البيئية المدمرة التي تسببت بها الأنشطة النووية لبعض الحكومات الغربية كما في كارثة ناكازاكي وهيروشيما وتشرنوبيل؟ وأين هذا من الاستنزاف المجنون لمصادر الطبيعة الذي يقوده الإنسان الأوروبي؟

 

أجل لقد تقدم الغربيون كثيراً في المجال الذي تأخر فيه المسلمون، فقد انطلقت في البلدان الغربية مؤسسات حماية البيئة على الصعيدين الحكومي والأهلي، وانتشر الوعي البيئي في كافة الأوساط الغربية، ولهذا فإن الإنسان المسلم أو الشرقي عندما يلاحظ حجم التطور الذي شهدته البلدان الأوربية أو غيرها من الدول المتقدمة صناعيَّاً، وعندما يرى التنظيم والتخطيط المدني، إن على مستوى تنظيم البيوت والشوارع وإنارتها ونظافتها وتشجيرها وتجهيزها بإشارات المرور وغيرها، أو على مستوى إعداد الحدائق العامة بجمالها الساحر وأزهارها وأشجارها الجميلة ، مضافاً إلى النظافة الملفتة في كل مكان من الأمكنة العامة يصاب الدهشة وربما تألم كثيراً لا سيما إذا ما أجرى موازنة بين وواقع بلده الإسلامي وبين ما رأته عيناه في بلاد الغرب، وتساءل باستغراب لماذا تقدم هؤلاء وتأخَّرنا نحن؟

 

وفي مقام الإجابة على هذا التساؤل البريء نقول: إنَّ الترتيب والتنظيم والنظافة التي تُشاهد في الدول الأوروبية لم تأت من فراغ، بل إنَّها جاءت نتيجة جهد متواصل من قبل تلك الدول التي جعلت الحفاظ على البيئة في صلب أولوياتها، فأنشأت الوزارات المختصة بذلك، ووضعت الخطط والبرامج باستمرار، وعملت على تنفيذها، وأرفقت ذلك كله بحملة توعية وتربية في المدارس والمعاهد، وعزَّزت الثقافة البيئية ونشرتها بواسطة أجهزة الإعلام المختلفة، ووضعت عقوبات صارمة لمن يخالفون القوانين البيئية، فيلوثون الطرقات أو الساحات العامة أو غيرها، أو لا يُصْلِحون محركات سياراتهم مما يجعلها تبث غازاتها المحترقة في الهواء، وهكذا مَنْ يقطع الأشجار أو يقوم بأي عمل مضر بالبيئة، وفوق ذلك كله فإن لدى تلك الدول أجهزة كافية من حيث العدد والعدّة تعمل على الإهتمام بالنظافة وحماية البيئة بشكل عام، بل إنَّها تنشئ وزارات خاصّة بشؤون البيئة

 

وإذا اتضح أن السبب في تقدم بلدان الغرب في هذا المجال ما أشرنا إليه، فيتضح أن السبب في تخلف معظم بلداننا فيه في ذلك أيضاً، أي أنَّه يكمن

 

أولاًفي فقدان التوعية اللازمة والثقافة البيئية المطلوبة

 

ثانياً: ضآلة القوانين البيئية وعدم تطبيقها إن وجدت

 

ثالثاً: ضعف الأجهزة المعنية بهذا الشأن عدداً وعدّة

 

والمشكلة في ذلك كله لا تكمن في الإسلام، بل في المسلمين وذلك لأنَّه:

بالنسبة للأمر الأول: فإنَّ الوصايا والتعالم الإسلامية في القرآن والسنّة كافية لتشكيل ثقافة بيئية متميِّزة، إلاَّ أنَّ المشكلة هي في عدم تفعيل هذه الثقافة وتحريكها في الأمة.

 

وأمَّا بالنسبة للأمر الثاني: فأن القوانين الإسلامية والقواعد الفقهية الإسلامية كفيلة بتأسيس فقه بيئي، لكن المشكلة في عدم بذل الجهد الكافي لإستخراج هذه القوانين من الكتاب والسنّة وتحويلها إلى مواد قانونية، ولو تمَّ ذلك فلن نبقى بعدها بحاجة إلى إستيراد هذه القوانين من الغرب

 

وبالنسبة للأمر الثالثفإنَّ الدولة هي المسؤولة عن تطبيق القوانين ومعاقبة المتخلفين عن تطبيقها، كما أنَّها مسؤولة عن التوعية، إلا أنه في دولنا الإسلامية نجد نقصاً في الأجهزة والمعدّات والكادر البشري المعنيّ برعاية البيئة.

 

.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon