كيف نتعامل مع مرضى الإيدز؟
الشيخ حسين الخشن
إذا كان التفسير العلمي للمرض يرى فيه حالة اعتلال جسدي أو نفسي يصاب بها الكائن الحي، فإن الإسلام وفي الوقت الذي لا يرفض فيه التفسير المذكور، فإنه يملك فلسفته الخاصة تجاه المرض، فهو ينظر إليه على أنه ابتلاءٌ للإنسان، قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}(البقرة:155).
والنظرة إلى المرض على أنه ابتلاء، لا ينبغي أن يفهم خطأً على أنه انتقام إلهي من العباد، وإنما هو امتحان يختبر فيه إيمان الشخص وصبره وقدرته على التحمل.
هل مرض الايدز عار؟
وفي ضوء ذلك، فليس صحيحاً أن نتعاطى مع المرض ـ كما هو الحال في نقص المناعة المكتسبة المعروف بالإيدز أو السيدا ـ باعتباره عيباً يجب التكتم عليه، وإحاطته بهالة من السرية، خوف الفضيحة، فالمرض حقيقة واقعية، والتكتم عليه وعدم المبادرة إلى علاجه سيزيد من استفحاله، وصعوبة التعامل معه، كما أننا لا نجد في الإسلام ما يبرر التكتم على المرض وترك معالجته، سواء بالنسبة للمريض أو لذويه، أمّا المريض فلأنه مسؤول عن حفظ حياته، وممنوع من تعريضها للهلكة {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(ع): " من كتم الأطباء مرضه خان بدنه"، وأمّا ذووه فلأنهم يتحملون مسؤولية أخلاقية ودينية عن المريض، ولا يجوز لهم إهماله، وتركه يواجه الموت وحده، ولا ينبغي أن يتغلب عليهم الإحساس بالعار، للتنصل من مسؤولياتهم، لأنه لا مبرر لهذا الإحساس، لا سيما أن المرض ـ أقصد مرض الإيدز ـ قد لا يكون ناتجاً عن علاقة مشينة، إذ ربما انتقل إليه نتيجة خطأ معين، كما في حالة نقل الدم، أو العدوى من الزوج الآخر...
ونحن لسنا ملزمين بمعرفة سبب الإصابة بالمرض، ولا يجوز لنا التفتيش عن عيوب الآخرين، بل علينا أن نحمل على الأحسن، في حال احتمال أن تكون الإصابة بسبب علاقة جنسية، فليست كل علاقة جنسية زنا محرّم، ولذا فإننا نقول لذوي المريض: بأن نبذهم له، وتخلّيهم عنه، يشكل معصية للرب، وعليهم أن يعلموا: أن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة.
ثم إن التعامل مع المرض بمنطق العيب والعار ليس سليماً، لأن العيب في ارتكاب ما حرّم الله، وانتهاك الأخلاق وتجاوز القيم، وحتى لو كانت الإصابة بالمرض نتيجة عمل غير أخلاقي، فإن ذلك لا يبرر تضخيم المخالفة، بل ينبغي وضعها في إطارها الشرعي وترك التهويل في النظرة إليها، واعتبارها وصمة عار تلاحق صاحبها وذويه! فالعلاقة غير المشروعة التي أدّت إلى الإصابة بـ "الايدز" مثلاً لا تزيد في الميزان الإلهي عن العلاقة غير المشروعة التي لم تسفر ولم تؤد إلى الإصابة به، فهذه معصية وتلك معصية، وإذا كانت الأولى عاراً، فالثانية كذلك، ولا فرق بين المعصيتين، إلاّ أن إحداهما أدت إلى الإصابة بالمرض، دون الأخرى.
وهكذا لا يجوز النظر إلى المصاب بالفيروس على أنه مجرم مخالف للقانون والآداب، إنه فقط مريض، ينبغي إخضاعه للعلاج، ومساعدته للخروج من مرضه.
درهم وقاية خير من قنطار علاج:
ما تقدم من كلام لا يعني التقليل من خطورة الشذوذ والانحراف في العلاقات الجنسية، أو التساهل إزاء تعاطي المخدرات، مما يعتبره العلماء المختصون أسباباً رئيسية وراء العدوى بمرض نقص المناعة المكتسبة(الايدز)، بل إن انتشار المرض وتزايد عدد الضحايا المصابين به، يدعونا إلى حملة طوارئ شاملة، لمكافحته ومواجهته، والخطوة الأولى في هذا الطريق هي إخراج المرض من زاوية السرية، والتوعية بمخاطره، ولا نجانب الصواب عندما نقول: إن أفضل سبيل لتجنب المرض هو العودة إلى القيم الدينية وضوابطها الأخلاقية التي تؤكد على فضيلة العفّة، وتحرم الشذوذ والانحراف، والخروج عن جادة الفطرة الإنسانية، وكذلك تحرّم تعاطي المخدرات وما من شأنه إفساد الإنسان والقضاء عليه، إن ذلك سيشكل حماية للمجتمعات، وهو عنصر وقاية من المرض المذكور، ورحم الله صاحب الحكمة القائلة "درهم وقاية خير من قنطار علاج".
ثم، وأمام وطأة المرض وخطورته، فإن العالم برمّته مدعو بكل شجاعة، إلى إعادة النظر في "القيم" والقوانين التي سمحت بالتفلت الأخلاقي والتهتك الجنسي، بل أضفت على ذلك لباس الشرعية تحت شعار الحرية ورايتها، مع أن من البديهيات التي لا خلاف فيها أن الإنسان حرٌ في كل شيء إلا أن يقتل نفسه أو غيره، أو يدمر الإنسانية ويعرضها للمخاطر.
كيف نتعامل مع المريض بالايدز؟
وانطلاقاً مما ذكرناه من أن المرض في الإسلام يمثل اختباراً وابتلاءً، فإن علينا التعاطي مع المريض بالايدز وفق هذه الرؤية وهذا يعني:
أولاً: أن علينا احترام إنسانيته وكرامته، لأن المرض لا يسقط إنسانيته، ولا يخدش آدميته، ولا يلغي حقوقه حتى لو كان ابتلاؤه به بسوء اختياره وفعاله، فضلاً عما إذا كان ضحية بعض الأخطاء، كما هو حال الكثيرين من النساء والأطفال والرجال.
ثانياً: إن من حقوق المريض علينا أن ننفتح عليه، وأن لا نحوطه بجدران من العزلة الاجتماعية المدمرة، بل نسعى لتعزيز ثقته بنفسه، لأن ذلك يساعده على تجاوز المرض والتغلب عليه، وهذا الأمر نستوحيه من فكرة عيادة المريض، التي أكدت عليها النصوص والتعاليم الدينية، دون أن تفرق بين مريض وآخر، ففي الحديث عن رسول الله(ص) قال: "إن الله عز وجل يقول: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: مرض فلان عبدي ولو عدته لوجدتني عنده..."، وكون المريض بالايدز أو غيره مخطئاً أو مقصراً في بعض الأحيان، لأننا حذرناه فلم يرتدع وأرشدناه فلم يصغِ، لا يمنع من مساعدته، ولا يبرر التخلي عنه وقطيعته، بالأخص من جهة أرحامه وأقربائه، لأن حق الرحم لا يقطعه شيء حتى الكفر والشرك، كما ورد في روايات النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع).
وقد جاء في الخبر الصحيح عن أبي عبد الله(ع) قال: مرّ علي بن الحسين(ع) على المجذمين، وهو راكب حماره، وهم يتغدون فدعوه إلى الغداء، فقال: "لولا أني صائم لفعلت، فلما صار إلى منزله أمر بطعام، فصنع وأمر أن يتنوقوا فيه (يتكلفوا فيه ليكون لذيذاً) ثم دعاهم فتغدوا عنده وتغذى معهم".
هذا مع العلم بأن الجذام مرض تنفر منه النفوس، لأنه يؤدي إلى يبوسة الأعضاء وتناثر اللحم كما قيل.
وعلى ضوء ذلك، فإنّا نرى أن من واجبنا توعية الأمة على ضرورة تقبل المريض المذكور والانفتاح عليه، وعدم التعامل معه كإنسان موبوء يجب تجنبه، أو ملاحقته بنظرات الازدراء والحقارة.
ثالثاً: علينا تعزيز الروح الإيمانية لديه، ودعوته للتوبة والعودة إلى الله، وبث الشكوى والألم إليه، فإن ذلك ـ مضافاً إلى كونه مطلوباً من كل إنسان ـ يستمطر الرحمة الإلهية عليه، ويساعده كثيراً على مواجهة المرض والألم والمعاناة.
وفي هذا السياق لن تعوزنا التعاليم والمفاهيم الإسلامية، فيمكننا الدخول عليه من باب الصبر، والرضا بقضاء الله، وحرمة اليأس والقنوط من روحه ورحمته تعالى، أو من باب الحديث عن سعة رحمته ومغفرته، أو من باب الحثّ على تحمّل الألم والأذى واحتسابه عند الله، لكون ذلك عبادة. ففي الحديث عن الإمامين الصادق والباقر(ع): "ليلة من مرض أو وجع أفضل وأعظم أجراً من عبادة سنة"...
ونقول للمريض:
وأخيراً نقول للمريض بالايدز: عليك أن لا تسقط أمام المرض، ولا تسمح للنظرات القاسية أن تتغلب عليك وتسقط إنسانيتك وشجاعتك، فيدفعك ذلك إلى إخفاء المرض، فإن ذلك يمثل انتحاراً بطيئاً، تتحمل مسؤوليته أمام الله، كما أن عليك أولاً وأخيراً أن تعود إلى الله، وتلجأ إليه وتستمد منه العون والقوة، فإنه نعم المولى ونعم النصير.