حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> تاريخية
الإمام الرضا (ع) وولاية العهد
الشيخ حسين الخشن



الإمام الرضا (ع) وولاية العهد

في أجواء ولادة إمامنا علي بن موسى الرضا عليه السلام نرى أن من حق هذا الإمام علينا أن نتوقف عند بعض المحطات من تاريخه العابق بالعلم والعطاء والروحانية.

 ومما يلفت النظر في حياة هذا الإمام سلام الله عليه ظاهرة لم يُعهد حصولها مع أحدٍ من الأئمة الذين سبقوه أو الذين جاءوا من بعده، ألا وهي قضية إسناد ولاية العهد إليه، حيث إنّ المأمون العباسي الخليفة المعروف قد عهد إلى علي بن موسى الرضا أن يكون ولياً للعهد من بعده، وهذا الأمر كما قلت لم يُعرف إطلاقاً من قبل أحد من خلفاء بني العباس فما الذي دفع المأمون إلى ذلك؟ وما هي الأسباب التي حدت بالمأمون إلى أن ينصب الرضا ولياً للعهد من بعده مع ما يعنيه ذلك من أن الحكم والسلطة قد تنتقل من العباسيين إلى العلويين؟ هل هناك أسباب سياسية؟ أم أن ثمة أمر آخر؟

  1. أسباب تعيين الرضا في موقع ولاية العهد

 في واقع الأمر يوجد اتجاهان أساسيان في الإجابة على هذا التساؤل:

 الاتجاه الأول: هو الذي يُفسر المسألة بشيء من البراءة، بمعنى أنه يبعد نية السوء أو نظرية المؤامرة – كما يقال اليوم - عما فعله المأمون، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن المأمون اندفع لتولية الإمام الرضا عليه السلام عن طيب خاطر وأنه كان متشيعاً ومحباً لأهل البيت (ع)، ويذكرون بعض الدلائل على تشيعه، من قبيل تبنيه لبعض الأفكار العقائدية أو الفقهية التي عرفت بها مدرسة أهل البيت (ع) فقد كان يرى أنّ القرآن مخلوق وليس قديماً، وكان يرى أنّ العقد المنقطع وهو ما يسمى بالمتعة جائز، وقد أعاد فدك إلى العلويين التي غُصبت من أهل البيت (ع) منذ الصدر الأول، أعني بعد وفاة رسول الله (ص)، ما حدا ببعض كبار العلماء أمثال محسن الأمين العاملي إلى الميل إلى تشيّعه وأنّه بالتالي عندما عهد بالولاية إلى الرضا (ع) فإنّ ذلك كان عن قناعة وبدافع حبه لأهل البيت (ع) واعتقاده بإمامتهم، باعتبار أنّه رجل شيعي وهو يتصرف.

 ويرى آخرون في نفس هذا الاتجاه الأول أن المأمون - وبعد أن اشتدت عليه الظروف عقيب المشكلة المعقدة مع أخيه الأمين ما هدد ملكه وعرّضه للخطر الشديد - نذر نذراً لله تعالى أنّه إذا وفقه الله للغلبة على أخيه الأمين والانتصار عليه في هذه المعركة فسوف يعيد الحق إلى نصابه ويعطي الخلافة لأولى الناس بها، وهكذا كان، فبعد أن انتصر في المعركة وأراد أن يفي بنذره فلم يجد أفضل وأحسن من علي بن موسى الرضا لجعله خليفة من بعده.

هذا هو الاتجاه الأول، وهو كما تلاحظون يبني مجريات هذا الحدث السياسي الخطير على أصالة الصحة - كما نقول في الفقه - وسلامة النية، وأنّ المأمون كان رجلاً صادقاً ويريد أن يعيد الحق إلى أهله. ومن الطريف أنّ بعض الأعلام رحمه الله كان يقول: إنّ أصالة الطهارة والبراءة لا تجريان في القضايا السياسية.

 الاتجاه الثاني: في تفسير هذه القضية هو الذي يذهب إلى أنّ المسألة كانت لعبة سياسية وأنّ المأمون لم يكن مقتنعاً بإمامة أهل البيت (ع) وأن تشيعه لو صحّ فلن يجعله رجلاً مثالياً ليتخلى عن السلطة والملك ويتنازل عن العرش بهذه السهولة للإمام علي بن موسى الرضا، كلا، فالمسألة ليست بهذه البراءة والمأمون كان رجلاً ذكياً وقصد من وراء إسناد ولاية العهد للرضا (ع) إلى تحقيق جملة من الأهداف والأغراض السياسية، وهو لم يكن جاداً على الإطلاق في نقل السلطة إلى البيت العلوي، والأمر لا يعدو أن يكون مكيدة ولعبة قام بها لكي يتلافى الكثير من المشكلات التي كانت تواجه حكمه.

  1. مؤشرات صحة الاتجاه الثاني

وفي واقع الأمر إذا أردنا أن نرصد المسألة بدقة فالباحث الموضوعي سيجد نفسه يميل إلى الاتجاه الثاني، أعني أنّ المأمون لم يكن على الإطلاق مقتنعا بضرورة انتقال الخلافة إلى البيت العلوي، وإنما له غايات أخرى.

ما الذي يجعلنا نرجح الاتجاه الثاني؟

هناك عدة مؤشرات ودلائل وقرائن تاريخية تدفع الباحث إلى تبني هذا الرأي:

 المؤشر الأول: أنّه كما ينقل لنا المؤرخون فإنّ الإمام الرضا (ع) رفض رفضاً قاطعاً في بادئ الأمر قبول التصدي للخلافة نفسها، فإنّ المأمون عرض عليه في البداية أن يتنازل له عن الخلافة، وليس إسناد منصب ولاية العهد، إن ولاية العهد تعني أن خليفته يتولى السلطة بعد موته. ولكن الإمام رفض هذا العرض وبعد أن رفض، تنزّل المأمون إلى أن يكون الإمام ولياً للعهد، والسؤال: إذا المأمون كان جاداً ويملك فعلاً هذا الإخلاص وهذه الطيبة وهذه الطهارة ومستعداً بما يملك من قوة للانخراط تحت أمرة الإمام، فلماذا يرفض الإمام هذا العرض، مع أن الخلافة هي حقه وفق نظرية أهل البيت (ع)، هذا الإصرار من قبل الإمام الرضا (ع) على رفض تولي الخلافة، والذي رواه المؤرخون، يؤشر إلى أنّ وراء الأكمة ما وراءها وأنّ المأمون لم يكن بهذه البراءة أو الطيبة، هذا مؤشر أول.

 المؤشر الثاني: أنّ شخصيّة المأمون - لمن يعرفها - لم تكن هذه الشخصية البريئة المؤمنة الطاهرة الزاهدة في الدنيا وزخارفها، المأمون هو ابن أسرة معروفة تعيش الترف، وهو قد نازع أخاه على السلطة وسعى إليها، ولم يتورع كغيره من الحكام عن القتل وسفك الدماء، كما حصل في المعركة الطاحنة بينه وبين أخيه الأمين، والتي سقط فيها الآلاف من الناس وقتّلوا وسُفكت دماؤهم، فالرجل لم يكن زاهداً بالدنيا بما يجعلنا نصدق – بسهولة - حكاية أنّه يريد أن يتنازل زاهداً عن العرش للإمام الرضا (ع).

المؤشر الثالث: أنّ الإمام الرضا (ع) منذ أن أرسل المأمون خلفه وأحضره من المدينة المنورة إلى خراسان لأمرٍ ما، كان مهموماً ومكروباً ومتأذياً، يروي المؤرخون أنّ هذا الرسول الذي أرسله المأمون إلى إحضار الإمام الرضا (ع) قال لا بد أن تأتي، الإمام أراد الانسحاب، وعدم الذهاب، وسأل الرجل: هل هذا قرار ولا بد أن يُنفذ أم أن ذلك مجرد رغبة؟ فقال له الرسول: هذا قرار، وحينها ذهب الرضا (ع) لوداع قبر جده رسول الله (ص)، انظروا إلى هذه الصورة، يقولون دخل القبر وأخذ يودع النبي (ص) ويبكي وابتلت لحيته بدموع عينيه، ثم خرج ثم عاد مرة أخرى إلى القبر ودّعه ثانية وخرج ثم عاد الثالثة وودع النبي (ص) وبكى، قال له هذا الرسول: لماذا تبكي؟ قال: "فراق رسول الله، ولأنّني سأموت في أرض غربة"، إذاً الإمام كان يشعر أنّه ذاهب إلى مكان الغربة ومكان الألم، ولذلك لا نستطيع أن نصدق ببراءة نية المأمون.

 المؤشر الرابع: وهو من أهم المؤشرات على أنّ ولاية العهد كانت السياسةُ وألاعيبها هي التي تقف خلفها، أنّ من يقرأ الأحداث السياسية وخارطة العالم الإسلامي السياسية، يكاد يشرف على اليقين أنّ المأمون كان يفكر بمكيدة معينة؛ ما هي خارطة الأحداث؟ تعالوا معي لنتوقف قليلاً عند ما يذكره المؤرخون، فإنهم يقولون إنّ هارون الرشيد عيّن ثلاثة من أبنائه في ولاية العهد في أكبر خطأ ارتكبه – هارون الرشيد – مع أنه لم يكن شخصاً عادياً في سلسلة سلاطين خلفاء بني العباس، ونستطيع القول إذا أردنا أن نقيم الأمور بموضوعية: إنّه في تاريخ السلاطين والخلفاء فإنّ هارون الرشيد وبالرغم من بطشه وفتكه يبرز أمامنا كشخصية مميزة بفطنته وذكائه وحنكته، لكنه ارتكب خطأً فادحاً، عندما عين ثلاثة من أبنائه في ولاية العهد، الأول: ابنه محمد الأمين، وهذا الأبن المدلل لزوجته زبيدة صاحبة النفوذ والدور الكبير في البلاط وفي رسم السياسات، فزبيدة زوجة هارون الرشيد هي التي كانت تدفع لتعيين ابنها الأمين ولياً للعهد، مع أنّ الأمين كان رجلاً فاشلاً ماجناً لا يستحق أن يكون خليفة للمسلمين، والثاني: هو المأمون، ويليه أخوه القاسم، ثلاثة من أبناء الرشيد عينوا في ولاية العهد، والخطوة الرعناء والخاطئة التي فعلها الرشيد أنّه وزع البلاد الإسلامية على أبنائه الثلاثة! فأعطى الأمين العراق والشام والمغرب العربي، وأعطى المأمون همدان وبلاد إيران وخراسان وأعطى القاسم بعض البلاد والأطراف، هذا ما فعله هارون الرشيد. ولأنّ الملك عقيم فبعد وفاة الرشيد بدأت الحاشية حول الأمين تفكر في كيفية التخلص من المأمون فأقنعوه أن يصدر أمراً سلطانياً ينص على عزل أخيه المأمون، هنا شعر المأمون بالخطر وكان معه أناس ومؤيدون فتطورت الأمور إلى أن وقعت الواقعة، ونشبت المعركة بين الأخ وأخيه فاقتتلا شر قتلة حتى تغلّب المأمون على أخيه الأمين، وقتل الأمين بسيف أخيه المأمون العباسي!

 هنا لاحظوا المشهد في ضفة أخرى من العالم الإسلامي، ففي هذا الوقت الذي كان ورثة هارون يقتتلون على السلطة، كان هناك عدد من الثورات التي قادها العلويون في المدينة والكوفة والبصرة واليمن، حدثت ثورات وانتفاضات، وقادتها هم من العلويين، فماذا بقي بيد الخليفة المنتصر على أخيه ليفعله في مواجهة ذلك؟ إنّ بغداد قد جُرحت ودخلها جيش المأمون فاتحاً ومذلاً لجبروت العباسيين، لأنّ العباسيين كانوا يقفون خلف الأمين. وخراسان معقل المأمون كان هواها مع أهل البيت (ع)، والخراسانيون كانوا منذ أن دخلوا في الإسلام يميلون إلى أهل البيت (وسوف أروي قصة تشير إلى هذا الجانب).

أمام هذه الوقائع فكر المأمون ومن حوله من الحاشية، بأنّ الوضع في البلاد الإسلامية غير مستقر، فالثورات يقودها العلويون من جهة، وبغداد ليست في يديه بالمعنى الكامل، وخراسان هواها مع العلويين، فما الحل؟ هنا خرج المأمون ومن حوله بفكرة ذكية، وهي تعيين عليّ الرضا ولياً للعهد، فأرسل خلف علي بن موسى الرضا وعينه بغير اختياره في هذا الموقع، فما الذي يرمي إليه المأمون من وراء هذه الخطوة الذكية؟ وما الذي يصبو إليه؟

 إنه عندما يعين الرضا ولياً للعهد فهذا يعني أنّه سيخمد كل الثورات التي يقودها العلويون، لأنها تغدو بلا مبرر بعد وصول أشرف علوي إلى موقع الحكم، وهذا ما حصل بالفعل، فقد خمدت كل الثورات العلوية، هذه هي الثمرة الأولى التي حصدها المأمون. والثمرة الثانية هي أنه بذلك استمال إلى جانبه كل الشيعة، لأنه بتعيينه للرضا كأنما قال لكل الموالين لأهل البيت لقد أصبح إمامكم علي بن موسى الرضا في السلطة. ومن جهة ثالثة، فإن خطوته تلك هدفت إلى استمالة العائلة العباسية التي أشعرتها خطوة المأمون بخطر كبير، وهو انتقال الملك من البيت العباسي إلى البيت العلوي، ما يجعلها تأتي مرغمة للانضواء تحت عباءة المأمون، حتى تحول دون أي مخاطرة لانتقال السلطة من البيت العباسي.

 من خلال ما تقدم يتبين أنّ المأمون بالفعل لم يكن بصدد التنازل عن السلطة، وأن المسألة عنده ليست تشيعاً وقناعة بضرورة رد الأمور إلى أهلها، وإنما هي مسألة حبكة سياسية يريد من خلالها تثبيت أركان حكمه، وإطفاء لهيب الثورات المشتعلة، وهذا ما حققه بإحضاره للرضا سلام الله عليه إلى خراسان، وتعيينه ولياً للعهد، مع علمه بطبيعة الأمور أنّ الخلافة لن تصل إلى الرضا، على الأقل لكونه أسن من المأمون، فالفارق العمري بينهما كبير.

  1. موقف الإمام الرضا (ع) ودوره التاريخي

 ماذا عن موقف الرضا من كل ذلك؟ وعن دوره إزاء ما كان يجري ويخطط له؟ من الطبيعي أن الإمام (ع) كان واعياً بصيراً ( نقول هذا بصرف النظر عن عقيدتنا في عصمته) ويعرف ما يخطط له المأمون، وقد كان موقفه الأولي عندما استدعي إلى خراسان هو الممانعة، لكنه علم أنه لا مجال لرفض طلب الإحضار، وهكذا أحضر قهراً إلى خراسان.

وبعد وصوله إلى خراسان كان للإمام الرضا موقف لافت وهو القبول بولاية العهد، لكن بشرط: "لا أمضي أمراً ولا أنفذ شيئاً"، وأراد بذلك الإيحاء أنه قَبِل ذلك الموقع مكرهاً، والأهم أنه أراد من موقفه هذا أن لا يتحمل المسؤولية عما يجري في نظام حكم فهو لا يملك زمام الأمور فيه، وليس على عاتقه شيء. ناهيك عن أنّ هذا الشرط سيتيح للإمام التفرغ لمهمة كبرى، وهي المهمة المتمثلة بأداء مسؤوليته التاريخية، وأن يقوم بدوره كإمام حارس للدين.

فماذا فعل الرضا (ع) في خراسان؟

أولاً: بدأ بنشر الثقافة الأصيلة الإسلامية وثبّت جذور الولاء لأهل البيت في خراسان، والموقع المذكور أتاح له فرصة للإطلالة على الأمة من أوسع الأبواب، وبدأ بالمناظرات الفكرية والمجادلات العلمية مع علماء الأديان والمذاهب المختلفة، وعمل على بيان الإسلام في قواعده الأصيلة، ومن يلاحظ وفرة الأحاديث التي تنقل مواقف الإمام الرضا ومناظراته وصولاته الفكرية وكلماته، فإنّ ذلك يذكره بدور الإمام الصادق (ع)، لأنّ مدرسة الإمام الصادق كانت تتصف بالغزارة العلمية، كما هو معروف.

ثانياً: أخذ الإمام الرضا (ع) ببناء الجماعة الصالحة وعمل على تربية القاعدة الأصيلة في تلك البلاد، وتخرّج على يديه جيل رسالي طليعي حَفِظ ثقافة الإسلام ونشر فكر أهل البيت (ع)، وتذكر كتب التاريخ والتراجم أسماء المئات من الرواة الذين انتهلوا من معين مدرسة الإمام الرضا (ع). ولا ريب أن التشيع في تلك البلاد مدين لحضور هذا الإمام (ع) وجهوده التي بذلها.

مواقف معبرة ودالة

 ولا بأس أن نذكّر ببعض مواقف الإمام الرضا في تلك الديار:

الموقف الأول: لما دخل الإمام (ع) إلى مرو، يقول المؤرخون: اجتمع الآلاف من العلماء وطلاب العلوم الدينية وعلى رأسهم أبو زرعة الرازي أحد الرواة المعروفين، وكلهم وقفوا أمام الناقة التي تحمل الإمام وطلبوا إليه أن يحدثهم بحديثٍ عن جده رسول الله (ص) وأن يطل عليهم من الناقة، فأخرج الإمام رأسه من المحمل، فلما أن رأوه أخذوا يبكون، كيف لا وهو ابن بنت رسول الله (ص) ويمتلك هيبة خاصة، فلما هدأوا وطلبوا إليه أن يحدثهم، أخذ الإمام بالكلام، وحدثهم بحديث سلسلة الذهب فقال: " سمعت أبي موسى بن جعفر يقول : سمعت أبي جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي محمد بن علي يقول : سمعت أبي علي بن الحسين يقول : سمعت أبي الحسين بن علي بن أبي طالب يقول : سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : سمعت جبرئيل عليه السلام يقول : سمعت الله عز وجل يقول : " لا إله إلا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن عذابي" قالوا : فلما مرت الراحلة نادانا : بشروطها وأنا من شروطها."، يقولون أُحصي الذين يحملون المحابر في ذلك المقام فبلغوا عشرين ألفاً.

 الموقف الثاني، في خراسان وفي يوم العيد – عيد الفطر المبارك – بعث المأمون للإمام الرضا (ع) أن يأتي ليصلي بالناس يوم العيد، فأجابه الإمام: إنّك علمت الشرط المتفق عليه بيني وبينك، أنك علمت أني لا أنفذ شيئاً ولا أوقع على شيء فأرسل إليه هذا المأمون، نعم، أنا أعرف هذا الشرط، ولكن الناس تحب أن تراك ونحن نريد أن يعرف الناس فضلك فلو تفضلت وخرجت، فأرسل إليه الإمام أنا مستعد للخروج ولكن على شرط، قال ما هو؟ قال أن أخرج على هيئة جدي رسول الله (ص) وجدي أمير المؤمنين (ع)، قال: اخرج على الهيئة التي تريد، ماذا فعل الإمام؟ انظروا هذا المشهد الرائع! يقولون: اغتسل الإمام غسل يوم العيد، ثم ارتدى ثياباً بيضاء وتعمم بعمامة بيضاء ( العمامة السوداء تم تكريسها لاحقاً، مع أن السواد شعار بني العباس وليس شعار أهل البيت، وأهل البيت في مرحلة ما كانوا يلبسون عمائم ذات ألوان مختلفة، خضراء أو بيضاء ..) ولبس ثيابا بيضاً مشمرة إلى نصف الساق، وأمر كل من حوله من أبنائه وحراسه وخدمه أن يفعلوا كفعله فاستجابوا، تقول الرواية: ثم ألقى طرفاً من العمامة على صدره وطرفا آخر خلف ظهره وخرج والخدم وأهل بيته من حوله ثم كبر الله، قائلاً: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، فكبر من معه وخرجوا إلى الباب، حيث كان ينتظره القواد، وبتعبيرنا اليوم كبار الضباط والمسؤولين العسكريين وغيرهم، كلهم منتظرون ولي العهد على فرسانهم ودوابهم، ولما خرج الإمام من الباب كبر التكبير الثاني: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، كبر من معه. رأى القواد هذا الأمر رموا أنفسهم عن فرسانهم ودوابهم وأفضل واحد  منهم- كما يقول المؤرخون – أخذ سكيناً وقطع النعل الذي يلبسه عندما رأى أنّ الإمام يمشي حافياً وأخذوا جميعاً يكبرون وهم يمشون إلى المصلى، حتى ارتجت المدينة بالتكبير، أرسل بعض الناس إلى المأمون أدرك ملكك وسلطانك، إذا وصل الرضا على هذه الحالة إلى المسجد فسوف ينتهي ملكك، فأرسل المأمون إلى الإمام الرضا (ع) مباشرة: لقد أتعبناك فارجع إلى البيت!

هذه مكانة أهل البيت (ع) في النفوس، لقد تربعوا على عرش القلوب، ويذكرنا هذا الموقف بأبيات البحتري التي قالها في مناسبة أخرى:

ذكروا بطلعتك النبي فهللوا * لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابسا * نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع * لله لا يزهو ولا يتكبر

فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما * في وسعه لسعى إليك المنبر[1]

السلام عليك سيدي ومولاي يا علي بن موسى الرضا (ع) وعلى آبائك وأجدادك الطاهرين ورحمة الله وبركاته.

محاضرة في مسجد الإمام الرضا في بيروت – بئر العبد.

 

نُشر المقال على الموقع في 3/7/2020



[1] معجم الأدباء ج 19 ص 252.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon