حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> أصول فقه
وسائل اكتشاف الملاك -2
الشيخ حسين الخشن



المرحلة الرابعة: دور الزمان في فهم النص وتطبيقاته

هل لتغيّر الزمان والمكان دور في فهم النص؟ بحيث يكون للنص قراءات متعددة بتعدد الأمكنة واختلاف الأزمنة؟ أم أنّ فهمه ثابت ولا علاقة له بحركة الزمان وتغير المكان؟

ويمكن بحث هذه المسألة على مستويين:

الأول: دور الزمان والمكان في خلق فهم جديد للنص.

الثاني: دورهما في إيجاد تطبيقات جديدة للنص.

المستوى الأول: دور الزمان والمكان في خلق فهم جديد للنص

وعلى هذا المستوى يمكن القول: إنّ النص يعكس حقيقة معينة ومشخصة في الواقع ويكشف عن معنى واحد محدد لا عن معان متعددة، وعليه، فلا يمكن أن يكون لتغير الزمان أو المكان دور في تبدل مضمونه وتغيّر حقيقته، لأنّ ذلك نوعٌ من التصويب الباطل، كما أنّه لا دور لتغيرهما في فهم النص إلا بمقدار ما يخلقه ذلك من وعي جديد واجتهاد في فهم النص، بفعل أنّ تعاقب الأزمان يخلقُ تراكماً معرفيّاً ويفتح آفاقاً رحبة أمام فهم جديد للنص أو اكتشاف بعض أعماقه وفتح بعض مغاليقه، ولا سيما عندما لا يكون هذا النص بشرياً وينحصر في بعد معين أو عمق محدد، وإنما يكون نصاً إلهياً صادراً عن خالق الإنسان، العالم بما يصلحه ويفسده في الحاضر والمستقبل والعالم بأسراره وما تخبئ له الأيام من تطورات، {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14]، والأحاديث الشريفة تؤكد على هذه الميزة للقرآن الكريم، ففي الحديث المروي عن الإمام الرضا (ع)، عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلا غضاضة ؟ فقال لان الله لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة"[1].

وعن الإمام الرضا (ع) أيضاً متحدثاً عن القرآن الكريم (ع): " هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى المؤدي إلى الجنة والمنجي من النار لا يخلق على الأزمنة ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان بل جعل دليل البرهان والحجة على كل إنسان {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}[ فصّلت: 42]"[2].

وفي خبر عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر الباقر (ع): " إنّ القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين ، وقال عبد الرحيم : قال أبو عبد الله عليه السلام: إنّ القرآن حي لم يمت ، وإنّه يجرى ما يجرى الليل والنهار ، وكما تجرى الشمس والقمر ، ويجرى على آخرنا كما يجرى على أولنا"[3].

وهذه الأحاديث الشريفة تستفز الباحث وتجعله في حالة استنفار فكري وقلق معرفي على الدوام فلا يستسلم لفهم السلف - رغم جلالتهم - ولا يركن لتفسيرهم - رغم احترامه لهم -، لأنّ فهم المجتهد ليس حجة على المجتهد الآخر، وكم ترك الأول للآخر! وينبغي أن يُعد ذلك من معاجز الإسلام الكبرى لأنّه يعطي هذا الدين ليونة ومرونة تكسبه قدرة على مواكبة متغيرات الحياة، ويحول دون ابتلائه بالجمود والتقوقع كما هو الحال في بعض الأديان، التي عمد كهنوتها الديني إلى احتكار تفسير النص كأنّما هو ألغاز وأحاجي لا يفكّ رموزها إلاّ فئة معينة وأشخاص محددون.

المستوى الثاني:

وأما دور الزمان والمكان في إيجاد تطبيقات جديدة للنص، فهذا مما لا مجال للتشكيك فيه، وهذا ما أشار إليه الحديث المتقدم، وعن أبي عبد الله الصادق (ع): " لَوْ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَاتَتِ الآيَةُ، مَاتَ الْكِتَابُ، ولَكِنَّه حَيٌّ يَجْرِي فِيمَنْ بَقِيَ كَمَا جَرَى فِيمَنْ مَضَى"[4]. وعلى سبيل المثال عندما يقول تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال 60] فإنّه يقدم مبدأ ثابتاً لا يبلى ولا يتغير رغم اختلاف العصور ولا يكسبه تغير المكان أو الزمان فهماً جديداً، ولكنه يقدم له تطبيقات ومصاديق جديدة، فبينما كان إعداد القوة ذات يوم يتحقق برباط الخيل، فإنّه في أيامنا لا يتحقق في ذلك بل بما يلائم عصرنا من وسائل الحرب وأسلحتها الدفاعية والهجومية.

الفقيه وضرورة فهم العصر وتياراته وأفكاره

إنّ معرفة الفقيه بقضايا العصر ومستجداته ومعارفه وإلمامه بمجمل تياراته الفكرية والفلسفية والسياسية وغيرها، وتوفره على الوعي الكامل لمجريات الأحداث من حوله ينبغي أن يعدّ من الفرائض لا من النوافل، بحيث إذا قرأ الفقيه في كتاب الفقه صفحة واحدة فعليه أن يقرأ في كتاب الحياة صفحات وأن يتستفيد من التجارب، لأنّ: "في التجارب علم مستأنف" كما جاء في الحديث عن الإمام علي(ع)[5].

والوجه فيما نقول: أنّ لمعرفة الفقيه بالزمان والمكان ثمار عديدة:

  1. أنّها تجعله ملماً بالمستجدات ومواكباً للتطورات المتلاحقة على مختلف الأصعدة ما يمكنه من تقديم الموقف الشرعي المناسب إزاءها. ولهذا يرى الإمام الخميني أنّ الاجتهاد التقليدي لم يعد كافياً في أيامنا هذه، يقول (رحمه الله): "ومن هنا فلا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم والمعرفة في الحوزة لكنه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين ويفتقد – بشكل عام – للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار.. فإنّ مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع"[6].
  2. إنّ متابعته للتطورات والمستجدات ستمكنه من تشخيص الموضوعات بشكل جيد ووافٍ، فيعالج حينها المسائل بطريقة واقعية بعيدة عن الافتراضات والاحتمالات التجريدية التي قد يغرق فيها نتيجة لعدم وضوح الموضوع لديه في كثير من الحالات، ولهذا تأتي فتواه معلقة من قبيل: (إن كان كذا فكذا وإلاّ فكذا)، وهذا ما قد يوقع المكلف العادي في كثير من الإرباك والتحيّر نتيجة عدم إلمامه هو الآخر بالموضوع.
  3. إنّها تجعله بمنأى عن الوقوع في الألاعيب السياسية وفي شباك المنافقين وحبال المغرضين وأصحاب المطامع الذين يكيدون للإسلام وأهله ويريدون غطاء دينياً، فهنا يكون وعي وبصيرته حصناً، في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"[7].
  4. كما أنّ هذه المعرفة بقضايا العصر وأنماط حياته وطرق تفكير أبنائه ستساعد الفقيه على التجديد في الأسلوب والطرح والخطاب، لأنّه إن لم يتمكن - بحكم ثبات أحكام الشريعة - من التجديد في المضمون، فأمامه متسع من أن يجدد في الأسلوب بغية الوصول إلى عقل ألاخر وقلبه، وقد قيل: "الإنسان هو الأسلوب، وربّما يكون هذا هو ما رامه النبي (ص) - على فرض صحة الحديث - بقوله: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[8]، فإنّ المقصود بالتجديد هو تجديد الأسلوب والخطاب لا تجديد المحتوى الفكري أو الفقهي أو العقدي، وهذا ما يدعونا إلى تسجيل الملاحظة التالية على لغة الرسالة العملية وهي: أنّها لا تزال إلى يومنا هذا تنتمي إلى غير عصرنا باستثناء بعض المحاولات التحديثية اليتيمة.

ولنعم ما قاله العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية في هذا المجال:

"كل شيء فينا وح  ولنا يتحرك ويتغير أردنا ذلك أم لم نرد، ثرنا أم استسلمنا، وعلى كل فرد أن يتحمل مسؤولية هذه الحياة المتطورة حسب ظروفه وكفاءته، وإذا كانت القدرة على استخراج الحكم من الأدلة الأربعة كافية وافية في مجتهد الأمس حيث كانت الحياة على وفاق ووئام مع الشرع الإسلامي وأحكامه ونصوصه، فإنّ مجتهد اليوم يجب بالإضافة إلى هذا الشرط أن يتوفر له الوعي الديني المستنير المنفتح والوعي الزمني لمجرى الحوادث وحقائق الحياة من حوله، وأن يتخلى عن الوهم أنّ الإسلام قادر على مقاومة كل تهديد لمجرد ما فيه من مزايا وخصائص، وأن يكون ذا فكر مبدع وخلاق، وأن يتحرر من القيود والتقاليد التي لا يفرضها عقل ولا دين لكي يستطيع أن يوائم بين النصوص ومقتضيات العصر.. وبعد فإنّ المجتهد المطلق حقاً وواقعاً في عصرنا هو الذي يخلق ويبدع على أساس المصلحة في حدود المبادئ العامة، أمّا الظاهري المغلق على عقله ودنياه فيستحيل الاجتهاد في حقه حتى ولو حفظ آيات الأحكام وأحاديثها والمتون وشروحها وثنيت له الوسادة وألف مائة كتاب ورسالة[9].

وقد لاحظنا أن الإمام الخميني يتأسف للجمود الذي أصاب العقل الفقهي، والذي يؤدي إلى  التحجر، وذلك في رسالته الجوابية على رسالة تلميذه الشيخ القديري والتي اعترض فيها على فتوى الإمام الخميني حول الشطرنج، حيث يقول: " أرى من اللازم أن أعرب عن الأسف من استنباط ( وفهم ) سماحتكم للروايات والأحكام الإلهية . فاستناداً إلى ما ورد في رسالتكم ، تكون مصارف الزكاة منحصرةً في مصارف الفقراء وسائر الموارد المذكورة ولا سبيل اليوم أمامنا بعد أن ازدادت المصارف إلى مئات أضعاف المصارف السابقة . وكذلك - واستناداً إلى ما ورد في رسالتكم - يكون الرهان مختصّاً بسباق الخيل ، والرماية مختصّة بالسهام والقوس وأمثالها من الأدوات التي كانت تستخدم في الحروب سابقاً ، واليوم أيضاً تنحصر في نفس تلك الموارد . وبالنسبة إلى الأنفال التي أُحلّت للشيعة ، فاستناداً إلى ما ورد في رسالتكم ، يستطيع الشيعة اليوم ودون أيّ مانع أن يستخدموا المكائن "الكذائية" لتخريب الغابات وإبادة ما تُحفظ به سلامة البيئة، فيهدّدوا بذلك سلامة أرواح الملايين من بني الإنسان دون أن يكون لأحد حقّ منعهم!! واستناداً لما ورد في رسالتكم أيضاً لا يجوز هدم المنازل والمساجد التي تقع في مسير طرق من الضروري شقّها من أجل حلّ أزمة الازدحام المروري وحفظ أرواح الآلاف!! وأمثال ذلك".

ويضيف قائلاً: "بصورةٍ عامّة فإنّ طريقة فهم سماحتكم للأخبار والروايات وطبيعة استنباطكم منها تتجاهل المدنيّة الحديثة بصورة كاملةٍ وتفترض أنّ الناس يعيشون في الأكواخ أو الصحارى إلى الأبد"[10].

رابعاً: أخذ الزمان في الموضوعات

وفي ختام هذا المحور، لا بأس بالإشارة إلى موضوع ذي صلة بالمقام، وهو أنّنا نلاحظ أنّ بعض الأحكام هي ذات موضوعات شرعيّة أو عرفيّة لها تحديد زمني معين وقد استخدم فيه وسائل أو أدوات القياس السابقة. ومعلوم أنّ الهدف من جعل المعايير واعتماد المقاييس هو تنظيم الأمور، وهذا مقصد تشريعي دون شكّ، يمنع من الفوضى والهرج والمرج، وهنا يقع السؤال عن أنّ التحديدات المذكورة أو بعضها على الأقل هل هي تحديدات ثابتة ومرادة في ذاتها ويلزم اعتمادها في مختلف الأزمنة، أم لا يلزم بها أبناء هذا الزمن بقول مطلق، لأنّ الوسائل متغيرة ومتحركة؟

 وإليك بعض الأمثلة على ذلك:

  1. ما ورد في تحديد سنّ اليأس في المرأة القرشية بستين سنة، بينما حدد في غير القرشية بالخمسين، وقد رأى بعض الفقهاء أنّ تحديد سنّ اليأس في القرشية بالستين ليس تحديداً تعبدياً بل هو لخصوصيّة في تكوينها الفيزيولوجي، ولهذا ألحقوا بها النبطية (نسبة إلى قوم النبط)، "فكأنّه تحقق لديهم بالتجربة والتواتر أنّها تحيض بعد الخمسين، والحيض موضوع عرفي معلوم للناس، كالمني والبول والغائط"[11]، ويشهد لذلك ما ذكره في المقنعة أنّه "روي أنّ القرشية من النساء والنبطيّة تريان الدم إلى ستين سنة"[12]، ولكن بما أنّ القرشيّة في أيامنا لا تفترق عن غيرها من النساء في انقطاع الدم بعد الخمسين، فيكون حكمها كحكم غيرها كما أفتى بعض الفقهاء[13].
  2. تحديد مدة صبر المرأة في الموضوع الجنسي بأربعة أشهر، فلا يجب على الزوج مقاربة زوجه إلا مرّة في هذه المدة، هذا بحسب ما روي كان نتيجة استشارة أجراها عمر مع بعض النساء آنذاك، ومعلوم أنّ هذا الأمر متغيّر وتابع للمؤثرات، فزماننا مختلف عن ذلك الزمان، بسبب كثرة العوامل المؤثرة في الرجل أو المرأة.
  3. تحديد سنّ التكليف، فإنّ المشهور اعتمدوا على تحديده على أساس العمر، فسنّ بلوغ الذكر هو الخامسة عشر، وسن بلوغ الأنثى هو التاسعة، وفي المقابل فثمّة رأيٌ فقهي[14]، يذهب إلى تحديد البلوغ في الذكر والأنثى بالبلوغ الطبيعي، وهو الاحتلام في الذكر والعادة الشهريّة في الأنثى، وهو رأي قريب، ويرى أصحابه أنّ جعل التاسعة في الأنثى علامة للبلوغ الزمني مرده إلى كون الحالة البيولوجيّة العامة لديها حصول البلوغ الطبيعي عندها متزامناً مع بلوغها سن التاسعة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ ثمّة أمراً مطروحاً في زماننا فيما يتصل بسن الزواج، فإنه حتى لو قبلنا بكون المعيار في البلوغ هو البلوغ الطبيعي والذي يتزامن مع بلوغها سن الثانية عشر أو الحادية عشر في الأغلب، فإنّ هذا المعيار، فضلاً عن أنّه قد يختلف من زمان لآخر، بل ومن فتاة لأخرى نتيجة الظروف الحياتيّة والغذائيّة وظروف الزمان والمكان، فإنه يظلّ خاضعاً للتجاذب وغير محدد بشكل يمنع الخلط والالتباس، ولذا قد يتدخل الخاكم لوضع سقفٍ زمني لسن البلوغ بلحاظ الزواج ويكون التحديد تدبيرياً يراعي التغيرات التي تطرأ على نمو الإنسان ونضجه. إنّ تحديد سن معيّن للزواج وإن كنُّا لا نملك دليلاً شرعياً عليه إلاّ أنّ المسألة من الأمور التي قد تدعو المصلحة إلى وضع سقف زمني لها لاعتبارات تنظيمية، الأمر الذي قد يبرّر وضع سقف زمني لذلك، والمخوّل بوضع كهذا سقف هو الحاكم الشرعي الذي عليه الاستعانة بأهل الخبرة ليكوّن رأياً حول السن الملائم لتزويج البنت، وطبيعي أنّه لا بدّ أن يؤخذ بعين الاعتبار عندما يراد تحديد سن معيّن للزواج:

أولاً: مصلحة الفتاة ومدى ملاءمة هذا السنّ لسلامتها النفسية والجسدية وصحتها الانجابية وقيامها بوظائف الأمومة على الوجه الأحسن والأفضل.

 ثانياً: مراعاة المناعة الأخلاقية للمجتمع، باعتبارها واحدة من أهمّ المقاصد الشرعية التي استهدف التشريع تحقيقها كما يستفاد من التعاليم الإسلامية المختلفة التي تؤكد على مبدأ العفة[15] وعلى أهميّة تحصين الفتاة[16] مقدّمة لتحصين المجتمع برمته، باعتبار ذلك غايةً ساميةً للزواج، فهذه العناصر لا بدّ أن تؤخذ كلها بعين الاعتبار قبل البتّ بالسن الملائم للزواج لدى الفتاة. 

  1. تعريف اللقطة مدة سنة، فإنّ تحديدها بالسنة ليس تعبدياً محضاً، بحيث يجب على كل حال، ولذا بعض بعض الفقهاء إلى أنّه إذا حصل اليأس من العثور على المالك، فلا يجب التعريف والفحص[17]، مع أنّ بالإمكان القول: إنّ هذا التحديد تدبيري، وهو يخضع لعناصر التبليغ والوصول إلى صاحب الشيء الضائع.
  2. البحث والفحص عن الرجل المفقود مدة أربع سنين، حيث يفتي مشهور الفقهاء برفع امرأته أمرها إلى الحاكم الشرعي، فيبحث عنه المدة المذكورة، فإن لم يجده طلّقها الحاكم. وما طرح في اللقطة يأتي نظيره هنا، فهل الأربع سنوات مطلوبة تعبداً بحيث يجب استمرار الفحص فيها حتى لو حصل الفحص التام قبل مضي المدة ويأس من العثور عليه؟ المشهور على ذلك، لكنْ ثمة وجه بل قزل لبعض الفقهاء، يذهب إلى أنه مع حصول اليأس من العثور عليه قبل انتهاء المدة سقط وجوب الفحص. قال بعض الفقهاء المعاصرين: "لو تحقق الفحص التام عنه في مدة يسيرة، كما في العصر الحاضر من جهة توفر وسائل الاتصال بكل النواحي التي يحتمل وجوده فيها ، وحصل اليقين بعدم وجوده هناك وانقطع الامل عن الوصول اليه ، سقط وجوب الفحص عنه في المدة الباقية.."[18]، ونحوه ما ذكره غيره[19].
  3. الحكرة في الخصب أربعون، وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، ففي خبر السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: الْحُكْرَةُ فِي الْخِصْبِ أَرْبَعُونَ يَوْماً وفِي الشِّدَّةِ والْبَلَاءِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ عَلَى الأَرْبَعِينَ يَوْماً فِي الْخِصْبِ فَصَاحِبُه مَلْعُونٌ ومَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْعُسْرَةِ فَصَاحِبُه مَلْعُونٌ".[20]، فهل التحديد المذكور هو تحديد تعبدي وله إطلاق أزماني، أم أنه ناظرٌ إلى ما هليه الحال في ذلك الزمانن؟ مال غير واحد من الفقهاء إلى عدم التعبدية فيه، وأنّ ذلك وارد مورد الغالب في ذلك الزمن، قال الشهيد الثاني بعد ذكر التحديد المذكور: "وما روي من التحديد بذلك محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت، لأنه مظنها "[21]، وقال السيد الطباطبائي في الرياض: "ثم إنه ليس له حد وغاية غير ما قدمناه، من احتياج الناس إليه، وعدم باذل لهم . وحيثما حصل ثبت الحكرة من دون اشتراط زمان آخر ومدة، كما في الصحيحين، وفاقا للمفيد والفاضلين وجماعة، بل ادعى عليه الشهرة"[22]. وإلى نفي التعبدية مال غير واحد ممن عاصرناهم[23].

وعليه، فلا موجب لاطراح الخبر كما فعل البعض، قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء: "فلزم إمّا تأويلها بتنزيلها على حصول الحاجة، جمعاً بين الأخبار المختلفة - كما صنعه بعض أصحابنا في الجمع بين كلام الأصحاب - أو اطّراحها. وعلى ما ذكرنا من الكراهة يسهل الخطب. وتنزيل الأخبار على اختلاف الشدّة والضعف وجيه جدّاً"[24].

هذا وعلى ذكر التحديدات الزمنية المنصوصة، تجدر الإشارة إلى وجود تحديدات أخرى في النصوص، ينبغي دراستها وبحثها[25].

ووثمة تحديدات غير زمنية مأخوذة موضوعاً لبعض الأحكام، وقد يقع فيها كلام نظير لما طرح في التحديدات الزمنية.

من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)


[1] عيون أخبار الرضا (ع)، ج 2، ص 93، وأمالي الشيخ الطوسي ص 580، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج 6، ص 115.

[2] عيون أخبار الرضا (ع) ، ج 2، ص 137.

[3] تفسير العياشي، ج 2، ص 203.

[4] الكافي، ج 1، ص 192.

[5] الكافي، ج 8 ، ص22.

[6] منهجية الثورة الإسلامية - مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني ص163.

[7] الكافي ج1 ص27.

[8] المستدرك للنوري ج3 ص273.

[9] الإسلام بنظرة عصرية، ص103.

[10] صحيفة النور، ج 21، ص 137.

[11] المدخل إلى عذب المنهل، ص 244.

[12] المقنعة للمفيد، ص 532، وعنه وسائل الشيعة، ج 2، ص 337، الباب 32، من أبواب الحيض، الحديث ص 31.

[13] فقه الشريعة ج1 ص137.

[14] انظر:

[15] من قبيل ما رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "خير نسائكم العفيفة"، الكافي ج5 ص324.

[16] من قبيل ما رُوي من أنّ "الأبكار بمنزلة التمر على الشجر إذا أدرك ثمارها فلم تُجتَن أفسدته الشمس"، التهذيب للطوسي، ج7 ص398.

[17] قال السيد الكلبيكاني: " إذا علم بأن التعريف لا فائدة فيه ، أو حصل له اليأس من وجدان مالكها قبل تمام السنة ، سقط التعريف"، هداية العباد، ج 2، ص 292، وقال السيد السيستاني: " يسقط وجوب التعريف فيما إذا كان الملتقط يخاف من التهمة والخطر إن عرف باللقطة ، كما يسقط مع الاطمينان بعدم الفائدة في تعريفها - ولو لأجل احراز أن مالكها قد سافر إلى مكان بعيد غير معروف لا يصله خبرها وإن عرفها.."، منهاج الصالحين، ج 2، ص 216، ويقول السيد

[18] منهاج الصالحين، ج 3، ص 99.

[19] يقول السيد السيستاني: " إذا تحقق الفحص التام قبل انقضاء المدة فإن احتمل الوجدان بالفحص في المقدار الباقي ولو بعيدا لزم الفحص ، وإن تيقن عدم الوجدان سقط وجوب الفحص .."، منهاج الصالحين، ج 3، ص 158.

[20] الكافي ج5 ص165.

[21] الروضة البهية، ج 3 ص 629.

[22] رياض المسائل، ج 8، ص 175.

[23] قال الشيخ المنتظري: "يشكل الالتزام بموضوعيّة الأربعين والثلاثة شرعاً ولو بنحو الأمارة الشرعية المجعولة، بل الظاهر أن التحديد بهما كان بلحاظ الأعمّ الأغلب" دراسات في ولاية الفقيه، ج 2 ص 629. وقال الشيخ محمد مهدي شمس الدين: " لا دلالة في الأخبار المذكورة على التحديد، فإنّ التعبد هنا بعيد غاية البعد، والظاهر أن ما ذكر فيها وارد مورد الغالب في وقته، كتحديد قيمة الصاع في زكاة الفطرة بدرهم أو بثلثي درهم، فقد حمله الفقهاء على السعر المتعارف في وقت صدور الأخبار المحددة، وكذلك الحال هنا، فإن جلب الأقوات وغيرها من السلع في الأزمنة القديمة لم يكن متيسراً دائماً حين تدعو الحاجة إليها، وإذا تيسر الجلب فإنه يحتاج إلى زمان طويل حتى يصل إلى مكان الحاجة، فربما كان حبس الطعام بهذا المقدار من الزمان في وقت صدور هذه الأخبار ومكان صدورها يوجب حاجة الناس وضيقها"، الاحتكار، ص 44 – 45.

[24] شرح القواعد كتاب المتاجر، ج 1، ص 320.

[25] تحديدات أخرى:

يلاحظ أنّ بعض الأحكام أُخذ فيها مقاييس الوزن أو الكيل أو المساحة، من قبيل:

  1. تحديد مدة السّفر بثمانية فراسخ، فإذا قطع المكلف هذه المسافة وجب عليه القصر والإفطار في السفر، وقد حدد ذلك سابقاً على أساس سير القوافل أو على أساس بياض يوم، ومن الممكن أن يكون كلا التحديدين تدبيرياً ظرفياً. 
  2. تحديد الديّة في الأصناف الستة المعهودة، فإنّ التحديد في هذه الأصناف قد يرجح أنه تحديد تدبيري هدف النبي (ص) من خلاله إلى التخفيف على الناس.
  3. تحديد عرض الطريق بسبعة خطوات أو خمس. وقد أشرنا إلى ذلك في ثنايا البحوث السابقة.
  4. ما ورد في الكر فقد حددت بعض الروايات الكرّ بستمائة رطل، وحددته روايات أخرى بألف ومائتي رطل.
  5. تحديد رؤية الهلال بالعين المجردة زمن النص، فإنّ الموضوع للصوم والإفطار هو دخول الشهر الجديد {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [ ]، ولكنّ الرؤية بالعين المجردة قد جعلت في الأخبار معياراً في معرفة دخول الشهر، وقد وقع الكلام في موضوعية الرؤية أو طريقيتها، وقد رجحنا - وفاقاً لغير واحد من الفقهاء - طريقية الرؤية، لأنها كانت الوسيلة الأكثر قرباً من الواقع أنذاك، ولكن إذا كشف لنا تطور العلم عن وسيلة أكثر دقة وإصابة للواقع فلا مانع من اعتمادها، راجع البحث المنشور حول ذلك في...

إلى غيرها من التحديدات التي يلحظها الباحث.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon