حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> أصول فقه
البعد التدبيري في شخصية النبي (ص) -1
الشيخ حسين الخشن



البعد الآخر ذو الأهميّة البالغة في شخصية النبي (ص) هو البعد الذي سنختار له عنوان البعد التدبيري، وهو بعدٌ على الرغم من أهميته قد تمّ إغفاله أو تغييبه عن مجال البحث التحقيقي والتأصيل الأصولي الذي يناسب أهميته.

وفي مستهل الكلام والحديث عن هذا البعد، نطرح بعض الأسئلة: ما المراد بالحكم التدبيري؟ وما أهميّ’ البحث فيه؟ ما الدليل على أنّ للنبي (ص) صلاحيةَ التدبير والإدارة؟ ما هي حقيقة هذا الحكم؟ وبماذا يفترق عن الحكم التشريعي؟ وما هي منطلقات الأحكام التدبيرية؟ وما هي أهم خصائصها ومميزاتها؟ وما هي المجالات التي تتحرك فيها التدبيرية؟  

والإجابة على هذه الأسئلة سوف تتضح من خلال الوقفات التالية: 

أولاً: الحكم التدبيري: تعريفه وأهمية البحث فيه

 إنّ الحديث عن هذا البعد يبتني على فكرة أساسيّة، وهي أنّ النبي (ص) ليس رسولاً مبلغاً لأحكام الشريعة فحسب، وإنما له بعدٌ قيادي تنظيمي إداري وسياسي، فهو الحاكم والقائد الذي يدير شؤون الأمة، ويسوس العباد وينظم أمور البلاد، أي بيده السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى دوره التشريعي المتمثل بنقل رسالة الله تعالى إلى العباد.

 ومن المعلوم تاريخياً أنّ النبي محمداً (ص) قد قام بهذا الدور والمهمة، فكان القائد العام في المجتمع الإسلامي، لا أقل في المرحلة المدنيّة، وهي مرحلة بناء الدولة الإسلامية، فهو القائد الذي بيده قرار الحرب والسلم، وهو الذي يبرم العهود والمواثيق والاتفاقيات، وهو من يعيّن الولاة والعمال والجباة، ويشرف على تطبيق الحدود. وفي هذه المرحلة نزلت عليه آيات القصاص والحدود والقتال وغيرها من الآيات التي تنظم شؤون المجتمع العامة، فضلاً عن الآيات التي تنظم شؤون الأسرة فيما يتصل بالأحوال الشخصيّة، كآيات الميراث والطلاق والظهار والزواج.

والحكم الصادر عن النبي (ص) بهذا اللحاظ أو في هذا المقام له عدة تسميات، فقد يُسمّيه البعض بالحكم السلطاني[1]، وهو اصطلاح مشهور ومتداول، ويسميه بعض العلماء بالحكم الولايتي[2]، أو الولائي[3]، أو التصرف بالإمامة[4]، ويسمى بالحكم التدبيري، أو السياسي، أو الحكومي، أو الإداري التنظيمي، أو الزمني، أو المدني، كما سيمر عليك في كلمات بعض الأعلام الآتية.

أهمية البحث وثماره

إنّ البحث في الشخصيّة التدبيريّة للنبي (ص) وللإمام (ع) وما صدر عنهما من تصرفات تدبيريّة هو بحث في غاية الأهميّة، وتترتب عليه العديد من الفوائد والثمرات:

  • منها ما تقدم أن ذلك يضيء على البعد التسريعي وحدوده، ويرفع الخلط الواقع بين الحكم التشريعي والحكم التدبيري.
  •  إنّ ذلك سوف يساهم في ارتفاع ما قد يتوهم من تعارض الروايات، والحال أنّه لا تنافي بينها إطلاقاً. فإنّ بعض ما يصدر عن المعصوم قد يكون فيه تحديد لصلاحيات المكلف الثابتة في الشريعة، ما يوهم بالتنافي والتعارض بين الأدلة، مع أنّ الالتفات إلى البعدين التدبيري والتشريعي يرفع التوهم المذكور، وهذا أمر لم ينبه عليه العلماء في مبحث التعارض، مع أنّه يعد مخرجاً أساسياً لحل معضلة التعارض بين الأخبار.

 وغير بعيد عن ذلك، فإنّ الالتفات إلى البعد التدبيري في شخصيّة الإمام (ع) ستكون له ثمرة أخرى وهي الاستغناء إلى حد معيّن عن رد الأخبار الصحيحة في مورد التعارض، حيث قد يواحهنا حالات نجد فيها أخباراً صحيحة صادرة عنهم، وهي موافقة لإطلاق الكتاب، وأخرى معارضة له، فإنّ القاعدة المعروفة عندهم في مثل هذه الحالة تقضي بطرح المعارض، مع أنّه قد يكون صادراً على وجه التدبير، ولا ضرورة في هذه الحالة لتكذيب الرواة والحكم بعدم صدور الحديث عنهم (ع)، وأخبار ردّ المعارض للكتاب، إنما تكون فيما إذا لم نعلم بصدور الخبر عنهم لغرض ظرفي تدبيري، اللهم إلا أن يقال: إنّ الأحكام التدبيرية كما سيأتي تستهدي العناوين والمقاصد القرآنية الكلية، ولا يفترض أن تكون معارضة لها.  

  • إن الحكم السلطاني وخلافاً للحكم التشريعي قد يكون مؤقتاً وظرفياً، ويمكن للإمام أو الحاكم اللاحق أن يغيّره إذا رأى ذلك صلاحاً. صحيح أنه تجب إطاعة الحكم الصادر عن النبي (ص) بوصفه سلطاناً، بيد أن هذه الإطاعة تدور مدار استمرار فعلية الحكم، وهذه النقطة نوضحها فيما يأتي.

ثانياً: البعد التدبيري من منظار تاريخي

ويجدر بنا هنا أن نلقي نظرةً على البعد التدبيري من زاوية تاريخيّة، لنتعرف على كيفيّة تلقي السلف لهذا البعد.

 ولا يخفى أنّ كثيراً من الأمثلة الآتية للأحكام التدبيرية مروية عن النبي (ص) أو الإمام علي (ع)، وما ورد عن بعض الأئمة المتأخرين (هو في الغالب يشير إلى تجربة النبي (ص) أو الإمام علي (ع)، وسوف نخصص وقفة على حدة للحديث عن الأحكام التدبيريّة الصادرة عن الأئمة (ع). ولكنّ ما يهمنا هنا هو ملاحظة تعامل الصحابة، ومن ثم علماء الإسلام مع هذا البعد في شخصية النبي (ص) أو الإمام (ع).

  1. إدراك الصحابة لهذا البعد

هل ثمّة ما يشير إلى أنّ الصحابة كانوا مدركين لهذا البعد في شخصية النبي (ص) أي أنّه ليس كل ما يصدر عنه (ص) فهو من وحي السماء، وإنما بعضهم تدبيرات يستصلحها بحسب ظروف الزمان والمكان؟

ربما يقال: إن الذي يظهر من العديد من الشواهد التاريخيّة أنّ الصحابة كانوا يعون وجود هذا البعد في شخصيته (ص)، ولذا تجد أنّ بعضهم يبادر أحياناً إلى سؤاله (ص) عن موقف معين همّ النبي (ص) باتخاذه: أهذا رأي أم هو الوحي؟

من ذلك ما رواه المؤرخون من أنّ النبي (ص) في يوم بدر كان قد اختار منزلاً للحرب من خلال الرأي لا الوحي، واستشار أصحابه في الأمر، فقال (ص) لهم: "أشيروا عليّ في المنزل، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلٌ أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإنّ هذا ليس بمنزل! انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم فإنّي عالم بها وبقلبها بها قلبي قد عرفت عذوبة مائه وماءٌ كثير لا ينزح، ثم نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونغور ما سواها من القُلُب.."[5].

ونظير ذلك ما جرى في معركة الخندق، فقد روي أنّه (ص) أراد مصالحة قائديْ غطفان على ثلث ثمار المدينة "على أن يرجعا بمن معهما عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أصحابه"، وتمّ التوافق المبدئي على ذلك، لكن "لم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك" وقبل أن يمضي النبي (ص) الاتفاق، "بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فذكر ذلك لهما ، واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول الله ، أمراً تحبه فنصنعه ، أم شيئاً أمرك الله به، لابد لنا من العمل به ، أم شيئاً تصنعه لنا ؟ قال : بل شيءٌ أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردتُ أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا ؟ ! [ والله ] مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب.."[6].

ولو صحّت الروايات المذكورة، فهي لا تعني أنّ النبي (ص) كان قد أخطأ التقدير فيما رآه، ولا تعني أنّ الصحابة قد خالفوا رأيه أو غيّروا قراره، لأنّ المسألة - فيما يبدو - كانت لا تزال في نطاق التشاور أو "المراوضة " على حد ما جاء في قصّة غطفان، ولم يصدر بعدُ فيها حكم باتٌ ونهائي من قِبله (ص)، فهي نظير ما يذكر في اختلاف سليمان وداوود في الحكم، من أنه اختلاف حصل بينهما في طور التشاور وإنضاج الرأي. ومن الطبيعي أنّ المشورة لها مجال واسع في الأحكام التدبيريّة، أمّا في أحكام الله تعالى فلا مجال فيها للمشاورة، كما سيأتي بيانه لاحقاً.

وفي ضوء ما ذكر، فلا موجب للقول: إنّ مثل هذا السؤال: "أهذا من عندك أو من عند الله"، أو السؤال: "أهذا أمرٌ تحبّه أم هو شيء أمرك الله به؟" أو نظير ذلك من الأسئلة، يكشف عن وجود تصورٍ ناقص كان يحمله هؤلاء الصحابة تجاه النبي (ص)، لأنه يمكن القول: إنّهم إذ كانوا يتوجهون إليه (ص) بمثل هذه الأسئلة، وذلك لأنه كان واضحاً لديهم - ولا أقل من أنهم كانوا يحتملون - أنه ليس كل ما يصدر عن النبي (ص) فهو تبليغ ووحي، بل ثمّة تصرفات تصدر عنه بصفته التدبيريّة القياديّة. أجل، يظهر من شواهد أخرى[7] أنّ بعض الصحابة ما كانوا يحملون تصوراً مكتملاً عن شخصيته (ص)، ولكنّ لا يبدو أنّ ما نحن فيه كان منطلقاً من رؤية قاصرة عن فهم أبعاد النبوة. وسيأتي مزيد بحث في ذلك وردّ ما يعترضه من إشكالات في مبحث الخبروية.

وبصرف النظر عن هذه الشواهد، فإننا لو أخذنا كلام الإمام علي (ع) في غير مورد، ومنه كلامه الآتي في موضوع تغيير الشيب أو غيره، فإنّه واضح الدلالة على أنه (ع) كان معتقداً بأنّ بعض ما يصدر عن رسول الله (ص) كان يصدر عنه لا بصفته مشرعاً بل بصفته قائداً.

  1. الخلفاء وممارسة التدبير

ويبدو أنّ الأمر عند سائر الخلفاء[8] كان كذلك، فهم قد مارسوا هذه صلاحية التدبير، واللافت أنّ الأئمة (ع) - وفيما عدا اعتراضهم على أصل شرعية سائر الخلفاء وعلى تسنمهم موقعاً ليس لهم - لم يعترضوا على إجراءاتهم التدبيرية المختلفة إلا إذا تم تشخيص كونها على خلاف المصلحة العامة، أو أنها لا تنسجم مع المبادئ والتعاليم والقيم والأحكام الإسلاميّة.

 وفي هذا السياق فقد حمل بعض الأعلام (وهو العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء)، تحريم الخليفة عمر بن الخطاب للمتعة[9] على التحريم التدبيري، يقول رحمه الله: "إنّ الخليفة عمر قد اجتهد برأيه لمصلحة رآها بنظره للمسلمين في زمانه وأيامه، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة منعاً مدنياً لا دينياً، لمصلحة زمنية ، ومنفعة وقتية ، ولذا تواتر النقل عنه أنه قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما"[10]، ولم يقلْ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله حرّمهما أو نسخهما، بل نسب التحريم إلى نفسه، وجعل العقاب عليهما منه لا من الله سبحانه. وحيث إنّ أبا حفص الحريص على نواميس الدين، الخَشِن على إقامة شرائع الله، أجلّ مقاماً، وأسمى إسلاماً، من أن يحرّم ما أحلّ الله، أو يدخل في الدين ما ليس من الدين، وهو يعلم أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، والله سبحانه يقول في حق نبيه الكريم: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44)* لأخذنا منه باليمين(45) * ثم لقطعنا منه الوتين (46) * فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)} [الحاقة]، فلا بدّ من أن يكون مراده المنع الزمني، والتحريم المدني، لا الديني ولكن بعض معاصريه، ومن بعده من المحدثين البسطاء، لما غفلوا عن تلك النكتة الدقيقة، واستكبروا من ذلك الزعيم العظيم القائم على حراسة الدين أن يحرّم ما أحلّ الله، ويجترئ على حرمات الله، اضطروا إلى استخراج مصحح، فلم يجدوا إلا دعوى النسخ من النبي بعد الإباحة، فارتبكوا ذلك الإرتباك، واضطربت كلماتهم ذلك الاضطراب، ولو أنهم صححوا عمل الخليفة بما ذكرناه لأغناهم عن ذلك التكلف والارتباك .."[11].

وعليه، فما روي عن الأئمة من أهل البيت (ع) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (ع) من رفض التحريم الصادر عن الخليفة عمر إنّما هو رفضٌ وتنديد بما صدر منه، لأنه لم يكن في محله، بل هو خطأ محض، إذ لا مبرر إطلاقاً لتحريم المتعة تحريماً زمنياً، فإنّ التحريم الزمني له أسسه وضوابطه، وأهمّها وجود مفسدة كبيرة تترتب على تطبيق الحكم الشرعي، وتكون هذه المفسدة أقوى وأهمّ من مصلحة الفعل الذي أباحه الشرع، وهذا الأمر غير متحقق في المقام، بل إنّ أهل البيت (ع) اعتبروا أن تحريم المتعة كان سبباً لشيوع الزنا[12]، ويبدو من بعض المؤشرات أنّ عمر بن الخطاب أقدم على تحريم المتعة نتيجة مزاج خاص، وهذا لا يكون منطلقاً لإصدار الحكم التدبيري كما سيأتي عند الحديث عن منطلقات الحكم التدبيري.

باختصار: إنّ مشروعيّة الحكم التدبيري منوطة بأن يصدر عن الحاكم الشرعي، أو يمضيه، وتحريم المتعة الصادر عن الخليفة الثاني قد رفضه الإمام علي (ع) والأئمة من ولده (ع).

وتجدر الإشارة إلى أنّ تحريم المتعة تحريماً تدبيرياً قد صدر عن بعض الأئمة (ع)،بيد أنه كان تحريماً شخصياً وظرفياً، وليس كتحريم عمر، فإنه ظاهر في التحريم العام، فقد ورد في بعض الأخبار أنّ الإمام الصادق (ع) قد حرّم المتعة على بعض أصحابه في الحرمين. قال المفيد: "وروى أصحابنا، عن غير واحد، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: لإسماعيل الجعفي وعمار الساباطي: "حرّمتُ عليكما المتعة من قبلي ما دمتما تدخلان علي، وذلك لأنّي أخاف أن تؤخذا فتضربا وتشهرا، ويقال: هؤلاء أصحاب جعفر بن محمد"[13].

وفي رواية أخرى أنه قال ذلك لعمار ولسليمان بن خالد، ففي الكافي للكليني بإسناده، عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) لِي ولِسُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ: "قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمَا الْمُتْعَةَ مِنْ قِبَلِي مَا دُمْتُمَا بِالْمَدِينَةِ لأَنَّكُمَا تُكْثِرَانِ الدُّخُولَ عَلَيَّ فَأَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَا فَيُقَالَ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ جَعْفَرٍ"[14]. وربما كانا رواية واحدة، ويحكيان قصة واحدة.  

وروى المفيد عن سهل بن زياد، عن عدة من أصحابنا أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال لأصحابه: هبوا لي المتعة في الحرمين، وذلك أنكم تكثرون الدخول عليّ فلا آمن من أن تؤخذوا فيقال: هؤلاء من أصحاب جعفر عليه السلام"[15].

وذكروا أنّ سبب التحريم هو حادثة جرت لأبان بن تغلب في مكة المكرمة[16]. والذي يستفاد من تلك الرواية ومن سائر الأخبار المتقدمة أنّ ثمّة نفوراً عاماً من المتعة في الحرمين ما يستوجب هتك حرمة فاعلها، ولعلّ ذلك من تأثيرات تحريم الخليفة الثاني لها. 

  1. البعد التدبيري في كلمات الفقهاء 

بمراجعة كلمات الفقهاء والأصوليين نجد أنّ بعضهم قد التفت لهذا البعد، وعلى رأسهم: العز بن عبد السلام ( 660 هـ) ومن بعده أحمد بن إدريس القرافي ( 684 هـ) في كتاب الفرق، حيث نجدهما أوردا ثلاثة أبعاد للشخصية النبويّة، وهي: التصرف بالتبليغ[17] أو الفتيا[18] ( البعد التشريعي)، والتصرف بالقضاء أو الحكم ( البعد القضائي )، والتصرف بالإمامة ( البعد التدبيري السلطاني)، وقد ذكر القرافي أنّ بعض تصرفاته (ص) تارة يحرز أنّها مندرجة في هذا البعد أو ذاك، وتارة أخرى يشك في ذلك، قال: "اعلمْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصباً منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة، غير أنّ غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، لأنّ وصف الرسالة غالب عليه، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها: ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً، ومنها: ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها: ما يجمع الناس على أنه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعداً، فمنهم من يغلّب عليه رتبة، ومنهم من يغلّب عليه أخرى، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأموراً به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح، وإنْ كان منهياً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرّف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام، ولأنّ سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء يقتضي ذلك"[19]. ثم أضاف بذكر مسائل أربع، في المسألة الأولى منها ذكر نماذج لا خفاء في اندراجها في أحد المواقع الثلاثة المذكورة ( موقع الإمامة وموقع القضاء وموقع التبليغ )، قال: "بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعيّن قتاله، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة العامة، وقسمة الغنائم، وعقد العهود للكفار ذمة وصلحاً هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم، فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك علمنا أنه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها، ومتى فَصَل صلى الله عليه وسلم بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الإيمان والنكولات ونحوها، فنعلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها، لأن هذا شأن القضاء والقضاة، وكل ما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ، فهذا المواطن لا خفاء فيها". وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل"[20]. وفي المسائل الثلاث الآخرى ذكر أمثلة وقع الاختلاف في شأنها، وسيأتي ذكرها في سياق هذا البحث.

 وقد التفت إلى ذلك أيضاً الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني، وعقد لذلك فائدة خاصة في كتابه "القواعد والفوائد"، وفيما يبدو فإنّه قد أخذ ذلك عن القرافي[21]، قال الشهيد الأول وهو يتحدث عن تعدد أبعاد شخصيّة النبي (ص): "تصرف النبي (ص) تارة بالتبليغ وهو الفتوى، وتارة بالإمامة، كالجهاد والتصرف في بيت المال، وتارة بالقضاء، كفصل الخصومة بين المتداعيين بالبينة أو اليمين أو الإقرار.."[22]. وهكذا فإنّ الميرزا القمي في القوانين[23] أشار إلى ذلك، وفصّل بين بعض الأبعاد في الشخصيّة النبوية والمعصومة، ولا سيما البعدين المتقدميْن، أعني البعد التشريعي والبعد التدبيري.

ولكن الإنصاف أنّه - وبالرغم مما ذكرناه من حصول الالتفات إلى هذه الأبعاد من قبل الفقهاء - بيد أنّ بحث المسألة لم يكن متناسباً مع أهميتها، فإنّ هذه القضيّة التي التفت إليها جيل الصحابة، كان من المتوقع أن تحظى باهتمام وحضور يناسبها في كلمات الفقهاء والأصوليين، ولكن مع الأسف – فإنّ الذي طغى على الذهن الفقهي هو شخصيّة الرسول المبلِّغ لحكم الله تعالى وغابت شخصية النبي القائد، ولم نجد لهذا الفصل بين الأبعاد الثلاثة المذكورة صدى واسعاً في تجارب الفقهاء، ولم يعمل العقل الأصولي على مواكبة هذا الأمر وتأصيله وبيان ضوابطه وحدوده.

 نعم، في عصرنا الحاضر توجه بعض الفقهاء إلى هذا البعد، وأبرز هؤلاء هو الإمام الخميني (رحمه الله)، فقد تحدث في قاعدة (لا ضرر) عن شخصية النبي الحاكم وفرقها عن شخصية النبي الرسول والمبلغ أو القاضي، وعدّ النهي الوارد في قوله (ص): "لا ضرر ولا ضرار"[24] نهياً سلطانياً صادراً عن النبي (ص) بصفته القياديّة، مخالفاً بذلك الآراء المعروفة والمطروحة في تفسير الحديث، وإنّ إدراكه (رحمه الله) بأنّ الإسلام ليس مجرد تشريع يعالج المشاكل الفردية، بل هو فوق ذلك مشروع دولة وإقامة نظام اجتماعي عادل، قد انعكس على حركته العملية، حيث انطلق لتأسيس هذه الدولة، وانعكس على فكره وقراءته للنصوص، ولهذا فإنّه لم يقرأ في النصوص التي أوجبت الخمس في كل ربح أنها تريد أن تحل مشكلة بعض الفقراء من السادة ممن يكفيهم جزء بسيط الخمس فيما لو التزمت الدولة بجبايته كما تجبي الزكاة، بل رأى أنّها تؤسس لميزانية دولة، ولهذا أفتى بأنّ السادة ليسوا سوى مصرف للخمس لا أنّ الخمس ملك لهم أو يجمد لأجلهم[25].

وممن نبّه على ضرورة التفرقة بين شخصيّة النبي الحاكم والنبي المبلغ، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وقد ألفت الأنظار إلى الخلط الحاصل بين الشخصيتين، وكمثال على ذلك الخلط ذكر أنّ نهي النبي (ص) لأهل المدينة عن منع فضل الماء، قد حمله الفقهاء - بسبب تحكم ذهنية الفقه الفردي عندهم - على الكراهة، لأنّه مخالف لقاعدة (الناس مسلطون على أموالهم)، وعليه، فلا يحتمل إرادة التحريم من هذا النهي، مع أنّه قد يكون نهياً صادراً عنه (ص) بوصفه رئيساً للدولة[26]. وسيأتي مزيد بيان وتفصيل لذلك في النقطة العاشرة من هذا المحور.

وهكذا فقد نجد الالتفات إلى البعد السلطاني في شخصية النبي (ص) لدى عدد من الفقهاء المعاصرين، وقد نقلنا كلمات بعضهم وسوف ننقل كلمات آخرين فيما يأتي.

وقد ذكرنا سابقاً أن الميرزا الشيرازي الكبير كان ممن أصدر فتوى في تحريم تناول التنباك، وهي تنمّ عن ايمانه واعتقاده بصلاحيات واسعة للحاكم الشرعي.

ولكنْ مع ذلك كله، فإنّ قضيّة البعد التدبيري في شخصيّة المعصوم لم تتبلور في كلمات الفقهاء والأصوليين بشكل وافٍ، ولم تتضح معالمها ولم يرصد تأثير وجود هذا البعد لديه على المنظومة الفقهيّة برمتها، فإنّ أخذ البعد التدبيري في شخصيّة النبي (ص) أو الإمام (ع) بعين الاعتبار يحتّم على الفقيه قراءة النصوص الروائيّة آخذاً ذلك بنظر الاعتبار، وعندها قد يكتشف أنّ الكثير من المواقف والأحكام التي خالها أحكاماً شرعية هي في الواقع صادرة عنه (ع) بصفته التدبيريّة القيادية، وهذا ما لم يحصل إلى يومنا هذا، ونسأل الله أن تكون هذه الدراسة فاتحة الدراسات على هذا الصعيد.

  1. أسباب الغياب ونتائجه

يبقى لدينا في هذا المقام سؤالان:

الأول: ما هي أسباب غياب المقام التدبيري للنبي (ص) والإمام من بعده، عن ذهن الفقهاء؟

الثاني: ما هي آثار ذلك ونتائجه على عمليات الاستنباط الفقهي؟

 أمّا بالنسبة إلى السؤال الأول، فنستطيع القول: إنّ غياب شخصيّة النبي الحاكم عن أذهان الفقهاء الشيعة يعود إلى عدة أسباب من أهمّها ما هو معلوم تاريخياً من إقصاء أئمة الشيعة (ع)، بل والشيعة أنفسهم فيما بعد عن ممارسة السلطة على مرّ التاريخ وفقاً للاجتهادات الفقهية، باستثناء بعض الفترات اليسيرة، إنّ هذا الغياب الشيعي عن حركة الاجتماع السياسي وعن تولي السلطة، ولّد انكماشاً في الذهنية الفقهية، التي اقتصرت على استنباط فقه الفرد، دون فقه الدولة والمجتمع، وتحوّل ذلك مع الزمن إلى غفلة عن كون إحدى وظائف المعصوم هي قيادة المجتمع، الأمر الذي يستدعي صدور أحكام كثيرة عن هذا الموقع.

 وربما يعود السبب في ذلك أيضاً إلى عدم وضوح تعدد وظائف المعصوم لدى البعض، أو عدم وجود المائز بين الأحكام التشريعية والأحكام السلطانية، ولهذا حمل كل ما ورد عن النبي (ص) والأئمة (ع) على أنّه أحكام تشريعية بحجة أنّ الأصل هو التشريعية.

  وأمّا السؤال الثاني، وهو المتصل ببيان نتائج ذلك الغياب وآثاره، فنستطيع التأكيد أنّه كان لذلك آثار كبيرة، من أهمّها وأخطرها حصول الانكماش المشار إليه في الذهنية الفقهية، الأمر الذي أوجب فقراً واضمحلالاً في فقه الدولة والفقه السياسي بشكل عام، وطغياناً للفقه الفردي في عمليات قراءة النصوص الدينية والاستنباط الفقهي، وبيان ذلك:

  1. أنّ غياب هذا البعد أدى إلى فهم مغلوط للأحكام الشرعية، وتفسير خاطئ للعديد من النصوص، كما في حديث "لا يُمنع فضل ماء.."، حيث رأى كثير من الفقهاء أنّه منافٍ لقاعدة: "الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم"، ما دفعهم إلى الجمع بينه وبين القاعدة، فكانت النتيجة بنظرهم هي الفتوى بكراهة منع فضل الماء، مع أنّ هذا الجمع هو فرع التعارض، والتعارض فرع أن يكون الخبران بصدد بيان حكم واحد فقط، وهو الحكم الشرعي، أما إذا كان أحدهما بصدد بيان الحكم الشرعي والآخر بصدد بيان الحكم التدبيري فلا تنافي بينهما، لأنّهما حكمان من سنخين مختلفين، كالحكم الأولي والثانوي، وجرى نظيره في موارد أخرى سنشير إليها لاحقاً.
  2. وبسبب هذا الغياب فقد رُدّت بعض الروايات مع صحتها، لكونها مخالفة للقواعد التشريعيّة، وفي أحسن الحالات كانت هذه الأخبار تحمل على أنّها قضيّة في واقعة فلا يتعدى عن موردها، كما ذكر السيّد الخوئي في شأن الرواية المتضمنة لترخيص النبي (ص) لعمّه العباس في ترك المبيت في منى لأجل سقاية الحاج، حيث إنّه مع تنبّهه إلى أنّ الترخيص صدر عن النبي (ص) بصفته ولياً للأمر، لكنه رأى أنّها "قضيّة شخصيّة في واقعة رخّص النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) لعمه وهو ولي الأمر وله أن يرخّص لكل أحد، فالتعدي إلى كل مورد مشكل، ولا يستفاد من ترخيصه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لعمّه العباس تعميم الترخيص لجميع السقاة"[27]. ولا يخفى ما في هذا الجمود على مورد الرواية من ضعف، بل إنّ كون القضية من موارد الحكم التدبيري غير واضح، بل الأرجح أنّ الرواية بصدد بيان الحكم الشرعي، كما تقدم[28].
  3. وغياب ذلك عن ذهن الفقيه كان له تأثير بيّن في مبحث التعارض أيضاً، فإنّ الكثير من الأخبار التي عدّت متعارضة هي ليست كذلك، لأنّ ما كان صادراً من موقع التدبير لا يعارض ما كان صادراً من موقع التشريع، فضلاً عن أن يعارض تدبيراً آخر، وفي البحوث الآتية سنذكر نماذج يظهر فيها أن بعض الأخبار عدت متعارضة مع أنّ أحدها صادر من موقع التدبير والآخر من موقع التشريع، أو كليهما صادر من موقع التدبير.

وعليه نستطيع القول: إنّ من أهم العناصر التي لا بدّ من إدخالها في مبحث التعارض وأخذها بنظر الاعتبار في عملية الموازنة بين الأخبار التي تبدو للوهلة الأولى متعارضة هو تحديد جهة الصدور ليس فقط لمعرفة الصادر من موقع التقية كما ذكروا[29]، وإنّما لمعرفة ما كان صادراً من موقع .الولاية أيضاً

من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)

 


[1] هذا الاصطلاح قد استخدمه من السيد الخميني، بدائع الدرر ص 86، 109، 112، والشهيد الصدر، مباحث الأصول، ج 4، ص 589

[2] انظر: الرافد في علم الأصول، ص 27.

[3] بحوث فقهية مهمة، ص 500. وولاية الفقيه في مذهب اهل البيت (ع)، ص 258.

[4] ويسميه العز بن عبد السلام بالإمامة العظمى، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج 2، ص 244. وراجع قوانين الأصول، ص 494.

[5] المغازي للواقدي ج 1 ص 53، وتاريخ الطبري ج 2 ص 144، ويروى أنّ الأنصار قالت له يوم بدر "وقد نزل بمنزلٍ لم يستصلحوه: أنزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحي أوحي إليك؟ قال: بل عن رأي رأيته، قالوا: إنّه ليس لنا بمنزل، ارحل عنه فانزل بموضع كذا"، شرح نهج البلاغة ج 11 ص 181.وهذا المعنى قد ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد ج 1 ص 97. وسيأتي في مبحث الخبروية أن لذلك مصادر أخرى.

[6] السيرة النبوية، لابن هشام، ج 3، ص 708، وتاريخ الطبري، ج 2، ص 238 – 239.

[7] منها ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم بشر يتكلم في الغضب والرضاء! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتبْ، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق"، سنن الدارمي ج 1 ص 125، وسنن أبي داوود ج 2 ص 176، ومسند أحمد ج 3 ص 163، والمستدرك للحاكم، ج 1 ص 106.

[8] هذا بصرف النظر عن الخلاف في شرعيّة سلطتهم.

[9] فقد روي عن عمر أنه خطب قائلاً: "متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا أنهي عنهما أو أعاقب عليهما، أحدهما: متعة النساء، فلا أقدرعلى رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته في الحجارة، والأخرى متعة الحج، أفصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم"، أنظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي ج 5 ص 345.

[10] نص الخبر: "كانتا متعتان على عهد رسول الله (ص) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء"، انظر: السنن الكبرى للبيهقي ج ص206، وفي مسند أحمد ج3 ص325.

[11] أصل الشيعة وأصولها ص 264، وقد تبنى رأي الشيخ هذا جمع من علماء الشيعة، أنظر: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف للشيخ جعفر السبحاني ص 550، وتأملات إسلامية حول المرأة للسيد فضل لله ص 126.

[12] ففي الحديث المروي عن أمير المؤمنين (ع) قال: " لولا سبقني به ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا

شقي"، خلاصة الإيجاز للمفيد، ص 28، وعن "الحكم بن عتيبة أن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي"، جامع البيان عن تأويل القرآن، ج 5، ص 19، والمحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز لابن عطية الأندلسي، ج 2، ص 36، وأما ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: رحم الله عمر! لولا أنّه نهى عن المتعة صار الزنا جهاراً"، المصنف لابن أبي شيبة، ج 3، ص 390.

[13] خلاصة الإيجاز ص 59.

[14] الكافي، ج 5، ص 468، في سنده سهل بن زياد.

[15] خلاصة الأإيجاز، ص 58، ورسالة المتعة، ص 15.

[16] روى المفيد: " قال جماعة من أصحابنا رضي الله عنهم : العلة في نهي أبي عبد الله عليه السلام عنها في الحرمين، أن أبان بن تغلب كان أحد رجال أبي عبد الله عليه السلام، والمروي عنهم فتزوج امرأة بمكة وكان كثير المال فخدعته المرأة حتى أدخلته صندوقا لها ، ثم بعثت إلى الحمالين فحملوه إلى باب الصفا ثم قالوا: يا أبان هذا باب الصفا وإنا نريد أن ننادي عليك هذا أبان بن تغلب أراد أن يفجر بامرأة . فافتدى نفسه بعشرة آلاف درهم فبلغ ذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال لهم : هبوها لي في الحرمين"، رسالة المتعة، ص 15.

[17] على حد تعبير القرافي.

[18] كما يعبر العز بن عبد السلام.

[19] الفروق، ( أنوار البروق في أنواء الفروق) ج 1، ص 205 - 206.

[20] الفروق، ج 1، ص 207.

[21] كما يظهر من تنويعه الثلاثي لأبعاد الشخصية المعصومة، وهو التنويع عينه المذكور في كلام القرافي، كما أنّ أمثلة القرافي وتعبيراته نجدها بحذافيرها عند الشهيد.

[22]  القواعد الفقهية ج 1 ص 215، وعنه نضد القواعد الفقهية للفاضل المقداد، ص 158.

[23] القوانين المحكمة في الأصول المتقنة ج 2 ص 561 نقل كلام الشهيد الأول.

[24] بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر، ص 105.

[25] انظر كتاب الحكومة الإسلامية ص 29 وما بعدها، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، وقد فصلنا الكلام حول هذ الرأي في كتاب: تحت المجهر ص 98 وما بعدها، فلاحظ.

[26] الاجتهاد والحياة: ص158.

[27] موسوعة السيد الخوئي، ج 29 ص 392.

[28] في المقام الثاني من المحور الأول.

[29] وقد التفت الفقهاء إلى أثر ذلك في موارد التقية، فقالوا إنّه إذا كان أحد الحكمين صادراً للتقية فلا يعارض الآخر الصادر لبيان الحكم الواقعي، فيقدم الثاني على الأول.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon