حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> أصول فقه
البعد البشري في شخصية النبي (ص) -1
الشيخ حسين الخشن



من جملة أبعاد شخصيّة المعصوم هو البعد البشري، فإنً النبي (ص) ورغم اتصافه بأعلى الكمالات الروحية والأخلاقية، ووصوله إلى درجة الاصطفاء والاختيار لتلقي الوحي الإلهي، {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [طه: 3]، لكنّه بشر،  يملك من الخصائص البشرية ما يملكه سائر الناس، من العواطف والأحاسيس والغرائز، قال تعالى: {قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} [الكهف: 110]. والتنبه إلى هذا البعد أمرٌ له أهميته على أكثر من صعيد، وهو ما نوضحه في الوقفات التالية:

أولاً: البعد البشري لدى المعصوم في الكتاب والسنة

والمتأمل في الكتاب والسنة يجد أنهما وإن أفاضا في الحديث عن الخصائص ذات البعد الرسالي في شخصية المعصومين ولا سيما الصفات الأخلاقية من قبيل الصبر والأناة والخلق الرفيع، بيد أنّهما - أعني الكتاب والسنة - لم يغفلا بيان الخصائص البشرية لدى الأنبياء (ع) وسائر المعصومين.

  1.  القرآن والخصائص البشرية للأنبياء (ع)

أما القرآن الكريم فقد عكس في الكثير من آياته جملة من الخصائص البشرية لدى الأنبياء (ع)، والتي لا تتنافى أبداً مع مقامهم الرفيع، فعلى سبيل المثال: فيما يتصل بالنبي محمد (ص) نجد العديد من الآيات التي تشير إلى هذا البعد لديه (ص)، فقد كان في بعض الأحيان يضيق صدره من شدة التكذيب والعناد واللجاجة التي يواجهها، قال تعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [الحجر 97]، وقال تعالى: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33].

وفي مجال آخر يقول تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} [الأحزاب: 52]، في إشارة لا تخلو من دلالة على أنه (ص) قد يُعجب بحسن المرأة وجمالها. ويؤيده ما جاء في بعض التفاسير من أنّه كان قد أعجب فعلاً بامرأة معينة[1]. والإعجاب بالمرأة لا يوصف بالقبح، لأنّه أمر جبلِّي لا إرادي، كما لا يخفى.

وهكذا فإنّ ما حصل مع نبي الله موسى (ع) لما رأى العصا تنقلب إلى أفعى، وفرّ منها، كما جاء في قوله تعالى: {فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب} [القصص: 13] يمكن تفسيره على ضوء الطبيعة البشريّة التي تدفع الإنسان للفرار والهرب بشكل لا إرادي من الأفعى، ومعه لا مجال للومه وذمه، لأنّ اللوم يكون على ما بالاختيار، ولذا قال الشيخ الطوسي في تفسير خوف موسى (ع) هذا: "إنّما خاف بالبشرية من الثعبان، لأنّ البشر بطبعهم ينفرون عن هذا الجنس وإن علموا أنّه يصل إليهم منه خير، إلى أن رجعت نفسه إليه وثبتت"[2]، وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نفهم الوجه الذي اعتمد عليه الكثير من المفسرين في تفسير الهم اليوسفي في قوله تعالى: {وهم بها} بالهم الطبعي الذي لا ينافي العصمة.

ويظهر من آيات القرآن الكريم أنّه كان ثمّة مشكلةٌ وعقدةٌ معينة في لسان موسى (ع)، ولذا لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون دعا ربه قائلاً: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27]، وقد كان أخوه هارون (ع) أفصح منه، قال تعالى: {وأخي هارون هو أفصح } [القصص: 34]..

وعند حديثه عن النبي يونس (ع) قال تعالى: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء 87]، وغضبه (ع) لم يكن - كما تخيل البعض[3] - من ربه، وإنما غضب من قومه، لأنه "دعاهم إلى الإيمان مدة طويلة ، فلم يؤمنوا"[4]." فخرج من بينهم مغاضباً لهم، قبل أن يؤذن له"[5].   

وذكرت كتب التفاسير أنّ أحدَ الاتجاهات في تفسير قوله تعالى في شأن يوسف (ع): {وهمّ بها} (يوسف: 24)، أنّ همّه كان هماً طبعياً[6]. وفي تفسير قوله تعالى وهو يخاطب نبيه محمد (ص) في شأن زينب بنت جحش: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} [الأحزاب: 37]، وبالرغم من أنّ المعروف والمشهور عند المفسرين أنّه (ص) أخفى أمر الله تعالى له بالزواج منها وهو الأرجح والمختار[7]، فإنّ ثمّة وجهاً آخر يرى أنّه (ص) كان يخفي ميله الطبعي إليها، وهو لا يوصف بالإباحة والتحريم لكونه بغير الاختيار[8].

إنّ المشاعر أو الغرائز البشريّة والجبليّة موجودة لدى الأنبياء (ع)، وهذا ما يستدعي أن يصدر عنه الكثير من الأفعال الملائمة لها، ولكنّ تحكمّ الدوافع البشريّة به لا يصل حداً يخرجه عن حدود اللياقة والأخلاق والانقياد للغريزة، لأنه عند هذا الحدّ يقف الفاصل بين البشرية والرسالية، وتتقدم الرساليّة على البشرية.

  1. السنة والخصائص البشرية لدى المعصوم

وكما تتجلى لنا الصورة البشريّة للأنبياء (ع) في القرآن الكريم، فإنّ السيرة المعتبرة قد عكست لنا هذا الجانب أيضاً، في ثنايا حديثها عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، فالنبي (ص) وبمقتضى بشريته نراه يأكل ويشرب ويتزوّج ويضحك ويحزن، يتألم ويتعجب، يتعب ويضجر، ففي حديث الإمام الحسن عن خاله هند بن أبي هالة في وصف شمائل رسول الله (ص): " .. يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه .."[9]. وروى الكليني في الصحيح، عن مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (ع) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ فَيَجْرِي بَيْنَهُمْ كَلَامٌ يَمْزَحُونَ ويَضْحَكُونَ فَقَالَ: "لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَكُنْ"، فَظَنَنْتُ أَنَّه عَنَى الْفُحْشَ، ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) كَانَ يَأْتِيه الأَعْرَابِيُّ فَيُهْدِي لَه الْهَدِيَّةَ، ثُمَّ يَقُولُ مَكَانَه: أَعْطِنَا ثَمَنَ هَدِيَّتِنَا، فَيَضْحَكُ رَسُولُ اللَّه (ص)، وكَانَ إِذَا اغْتَمَّ يَقُولُ: مَا فَعَلَ الأَعْرَابِيُّ لَيْتَه أَتَانَا"[10].

 وما تضمنته الآية أعلاه عن أنه (ص) كان ربما أعجبته المرأة، تنقله لنا الروايات ايضاً، ففي رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (ع) قال:" رأى رسول الله امرأة فأعجبته، فدخل إلى أم سلمة وكان يومها وأصاب منها وخرج إلى الناس ورأسه يقطر، فقال أيها الناس: إنما النظر من الشيطان.."[11]. قال المجلسي: " قوله عليه السلام: "فأعجبته" لا ينافي العصمة ، لأنه ليس من الأمور الاختيارية حتى يتعلق بها التكليف ، وأما نظره صلى الله عليه وآله فإما أن يكون بغير اختيار أو يكون قبل نزول الحجاب ، على أن حرمة النظر إلى الوجه والكفين بعد الحجاب أيضا غير

معلوم كما عرفت"[12].

والأمر عينه نجده لدى أمير المؤمنين (ع)، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الكليني عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّه ص يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ ويَرْدُدْنَ عَلَيْه السَّلَامَ وكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ وكَانَ يَكْرَه أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الشَّابَّةِ مِنْهُنَّ، ويَقُولُ: أَتَخَوَّفُ أَنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا فَيَدْخُلَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا أَطْلُبُ مِنَ الأَجْرِ" [13].

وهكذا الحال في سائر الأئمة (ع)، في موثق زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "كَانَتْ تَحْتَه امْرَأَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ ولَه مِنْهَا ابْنٌ يُقَالُ لَه إِبْرَاهِيمُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَوْلَاةٌ لِثَقِيفٍ فَقَالَتْ لَهَا: مَنْ زَوْجُكِ هَذَا؟ قَالَتْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَتْ: فَإِنَّ لِذَلِكِ أَصْحَاباً بِالْكُوفَةِ قَوْمٌ يَشْتِمُونَ السَّلَفَ ويَقُولُونَ قَالَ فَخَلَّى سَبِيلَهَا، قَالَ: فَرَأَيْتُه بَعْدَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَبَانَ عَلَيْه وتَضَعْضَعَ مِنْ جِسْمِه شَيْءٌ قَالَ: فَقُلْتُ لَه: قَدِ اسْتَبَانَ عَلَيْكَ فِرَاقُهَا قَالَ: وقَدْ رَأَيْتَ ذَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ"[14].

وعن مَالِكِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (ع) وعَلَيْه مِلْحَفَةٌ حَمْرَاءُ جَدِيدَةٌ شَدِيدَةُ الْحُمْرَةِ فَتَبَسَّمْتُ حِينَ دَخَلْتُ، فَقَالَ: كَأَنِّي أَعْلَمُ لِمَ ضَحِكْتَ، ضَحِكْتَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ عَلَيَّ! إِنَّ الثَّقَفِيَّةَ أَكْرَهَتْنِي عَلَيْه، وأَنَا أُحِبُّهَا فَأَكْرَهَتْنِي عَلَى لُبْسِهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَا نُصَلِّي فِي هَذَا"[15].

وفي موثق زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (ع) فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتَكَ الشَّيْبَانِيَّةَ خَارِجِيَّةٌ تَشْتِمُ عَلِيّاً (ع) فَإِنْ سَرَّكَ أَنْ أُسْمِعَكَ مِنْهَا ذَاكَ أَسْمَعْتُكَ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ غَداً حِينَ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ كَمَا كُنْتَ تَخْرُجُ فَعُدْ فَاكْمُنْ فِي جَانِبِ الدَّارِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ كَمَنَ فِي جَانِبِ الدَّارِ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَكَلَّمَهَا فَتَبَيَّنَ مِنْهَا ذَلِكَ فَخَلَّى سَبِيلَهَا وكَانَتْ تُعْجِبُه"[16].

إلى غير ذلك من النصوص التي تعكس وجود هذا البعد البشري في شخصية المعصوم، وأن العصمة لا تصادر بشريته، ما يعني أنه (ص) عندما يطلب حاجياته البشرية فإنما يطلبها بصفته البشرية.  

وهذا الأمر قد نبه عليه الكثير من الأعلام، فإنهم ومع تأكيدهم على عصمة الأنبياء (ع) والأئمة (ع) واتصافهم بأعلى درجات الكمال الروحي والمعنوي، فإنهم قد نصوا على صفاتهم البشرية، وعلى سبيل المثال نجد أن الشيخ الكراجكي ( 449هـ)، وهو من كبار علمائنا المتقدمين قد ذكر في رسالته حول اعتقادات أهل الإيمان، بأننا نعتقد أنّ الأنبياء(ع) "بأجمعهم عباد مخلوقون وبشر مكلفون، يأكلون ويشربون ويتناسلون ويحيون بإحيائه تعالى ويموتون بإمامته، تجوز عليهم الآلام والمعترضات، فمنهم من قتل ومنهم من مات، لا يقدرون على خلق ولا رزق ولا يعلمون الغيب إلا ما أعلمهم إله الخلق"[17].

 ويقول حول اعتقادنا بالأئمة (ع): "إنّهم بشر محدثون وعباد مصنوعون لا يخلقون ولا يخلقون ولا يرزقون، ويأكلون ويشربون وتكون لهم الأزواج وتنالهم الآلام والأعلال[18]، ويستضامون ويخافون فيتقون، وأن منهم من قتل، ومنهم من قبض"[19].

ثانياً: الإحاطة بالبعد البشري للأنبياء (ع) وصلته بالعقيدة

   ومن هنا فإنً الإحاطة بالصفة البشرية للأنبياء(ع) والتي ركّز عليها القرآن الكريم في العديد من آياته كقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} [الكهف: 110] وقوله: {قل سبحان ربي هل كنا إلا بشراً رسولاً} [الإسراء: 93]، لها فائدتان أساسيتان:

الأولى: هي الفائدة التشريعيّة

 فإنّ بشرية الأنبياء والأئمة (ع)، تستدعي أن تصدر عنهم كثير من الأفعال وربما الأقوال التي تقتضيها البشرية، وهذا النوع من الأفعال له ارتباط وثيق بالموضوع الشرعي، وهذا ما سوف نسلط عليه الضوء فيما يأتي من نقاط.

الثانية: الفائدة العقائدية

فإنّ أخذ البعد البشري بعين الاعتبار سيسهم في وضع الأنبياء(ع) في المواضع التي وضعهم الله فيها ولا تسمح لشطحات المغالين بإخراجهم عن صفة البشريّة إلى رتبة الربوبيّة والإلهيّة، وتتيح تفسير الكثير من النصوص الدينيّة المتصلة بعصمة الأنبياء (ع) تفسيراً معقولاً ومتوازناً، فلا هو يخدش بالعصمة ولا هو يخرج النصّ عن ظاهره ويقدم صورة مغالية عنهم، إنّ استحضار الصفة البشريّة في شخصية الأنبياء(ع) تساهم في انحسار نزعة الغلو فيهم والتي تسعى إلى تجريدهم من العواطف والأحاسيس البشرية. وإننا ندعو دائماً إلى تكوين تصورنا العقدي عن الأنبياء (ع) من خلال القرآن الكريم وصحيح السيرة وليس من خلال التصورات التجريدية، الأمر الذي يفرض علينا أن ندرس حياتهم ومعاناتهم وخصائصهم البشرية التي عكسها لنا القرآن وصحيح السنة والسيرة.

وعلى سبيل المثال: عندما يقدّم لنا القرآن الكريم نبياً من أنبيائه (ع) كيوسف الصديق، وهو يعيش صراعاً مريراً بين غريزته وعقله، فإنّه بذلك يقدّم لنا الأنبياء(ع) كما هم وعلى طبيعتهم دون مبالغة أو تنقيص، وثمرة ذلك هي ضبط إيقاع رؤيتنا العقدية تجاه الأنبياء(ع)، لتكون صفة البشرية حاضرة في أساس هذه الرؤية، بما يشكّل مانعاً من المبالغة في الاعتقاد فيهم، وحاجزاً دون وقوعنا في الغلوّ. وميزة النبيّ (ع) في هذا المجال عن غيره من الناس، هي أنّه في حالات التحدي وفي الوقت الذي يغرق كثير من الناس في وحول الشهوات ومستنقع الغرائز، فإنّ النبيّ (ع) يبقى فوق السّقوط، لأنّ نفسه اللّوامة وضميره اليقظ وعشقه ومحبّته لله تعالى وشعوره برقابته عزَّ وجلَّ، ومعرفته بقبح الذنب، هي التي تكون منتصرة في نهاية المطاف، ولهذا اختاره الله لرسالته، ولم يخترْه لها لأنّه - كما قد يُخيَّل للبعض - لا يمتلك غريزة أو لأنّه مخلوق من غير طينة البشر، فإنّ من كان كذلك هو ملك وليس بشراً. وحكمةُ الله تعالى قضت بأن يكون الحُجّةُ على العباد ومثلُهم الأعلى هو من جنسهم، لا من جنس آخر.

باختصار: إنّ معرفة هذا الصنف من أفعاله (ص) يساهم في إعطاء الصورة الواقعيّة عنه وعن أئمة أهل البيت (ع)، والتي تنأى بهم عن أوهام المقصرين والمغالين معاً، فإنً المقصرين قد أنزلوهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، والمغالين رسموا لهم صورة خيالية أخرجتهم عن ثوب البشرية وأوصلتهم إلى رتبة الربوبية.

نموذجان معبران:

ونجد من المناسب أن نشير نموذجين قرآنيين دالين، على تأثير الجبلة ابشرية على الأنبياء (ع):

  • اختلاف الأمزجة والسلائق والطرائق لدى المعصومين (ع)

النموذج الأول: هو ما نقله لنا القرآن الكريم، حول تفاوت موسى كليم الله وأخيه هارون في ملكة البيان والإفصاح، وهو تفاوت طبيعي فإنّ البشريّة قد تبرر اختلاف الأنبياء (ص) والأئمة (ع) في الخصائص الجبليّة وفي الأمزجة، فهذا المعصوم قد يكون لديه خصوصية بشرية والآخر يفتقدها، وهذا ما حصل مع موسى وهارون في مسألة الإفصاح والبيان، حيث إنّ الظاهر من أكثر من آية في الكتاب أنّ هارون كان أفصح من موسى، قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص 34 ]، وما يحبّه نبي (ع) أو إمام (ع) في أمور الطعام والشراب واللباس والقيام والنوم ونحوها من الأفعال البشرية ليس بالضرورة أن يحبّه نبي أو إمام آخر، فهذا عنده مزاج والآخر له مزاج آخر، فنبينا محمد (ص) – كما سيأتي – كان عزوف النفس، ويأنف من بعض المأكولات رغم حليتها وعدم كراهتها، وقد لا نجد هذه الصفة عند سائر الأنبياء، ولا الأئمة (ع)، وقد روي أنّ الإمام زين العابدين (ع) كان رجلاً صرداً[20] أي يبرد جسمه بسرعة، وقد نجد إماماً آخر ليس فيه مثل هذه الصفة. وورد في الخبر الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن المذي فقال: إنّ علياً عليه السلام كان رجلا مذاءً واستحيى أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله لمكان فاطمة عليها السلام، فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس فسأله فقال له: ليس بشيء"[21]. ولم يُعلم أن كل الأئمة (ع) من ولده كانوا كذلك.

ومن مظاهر الاختلاف بين الأنبياء (ع) ما عبّر عنه بعض العلماء باختلاف السلائق، واختلاف السلائق ربما أدى إلى اختلاف أساليب التعاطي مع الأحداث والأشخاص، فهذا هارون النبيّ (ع)، قد اختار في التعامل مع بني إسرائيل أسلوباً مغايراً لأسلوب موسى(ع)، كما جاء في صريح القرآن الكريم: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[طه: 92-94]. قال السيد الطبطبائي رحمه الله: " وظاهر سياق الآية وكذا ما في سورة طه من آيات القصة أنّ موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسباناً منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أنّ الصلاح في ذلك، مع أنه وصاه عند المفارقة وصية مطلقة بقوله : {أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف: 142) وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمَشْيَة بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، وإنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها. وكذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه حسباناً منه أنه استقل بالرأي زاعماً المصلحة في ذلك وترك أمر موسى، فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي لا عقاب في أمر مولوي وإن كان الحق في ذلك مع هارون، ولذلك لما قصّ عليه القصص عذره في ذلك، ودعا لنفسه ولأخيه بقوله: { رب اغفر لي ولأخي} [الأعراف: 151]"[22].

  • الخلاف بين داوود وسليمان في الحكم

 والنموذج الثاني: وهو نموذج يندرج أيضاً في موارد الاختلاف المعقول الذي قد يحصل بين الأنبياء (ع)، وهو ما ذكره القرآن الكريم من حصول خلاف بين سليمان وداوود في الحكم.

قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( 78 ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا..} [الأنبياء].

والآية تشير إلى أن ثمة خصومة في أمر الغنم الذي نفشت فيه ( رعته ليلاً ) الغنم[23]، وأن داوود وسليمان حكما في القضية، وكان حكم سليمان أوفق، وقد جاء في أخبار الفريقين "أن رجلين تخاصما إلى داود ، أحدهما صاحب زرع ، والثاني صاحب غنم ، قال صاحب الزرع : إنّ غنم هذا رعت زرعي في الليل ، وبعد أن ثبت ذلك عند داوود قضى بالغنم لصاحب الزرع ، ولما علم سليمان قال لأبيه : الأرفق بالرجلين ان يأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بها ، لا على سبيل الملك ، وان يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود الزرع كما كان ، وعندها يترادان ، فيأخذ هذا غنمه، وذاك زرعه. فاستحسن داود حكم ولده، ورجع إليه"[24].

قال الشيخ المفيد: "وكانت الغنم رعت كرم القوم ليلاً، فأكلت ورقه، وأفسدته ، فحكم داود عليه السلام لأرباب الكرم برقاب الغنم ، وحكم سليمان عليه السلام على أرباب الغنم بسقي الكرم وإصلاحه ، وأن يأخذ أرباب الكرم أصواف الغنم وألبانها إلى أن يرجع كرمهم إلى حالته التي كانت عليه في الصلاح ، ثم تعود منافع أصواف الغنم وألبانها على أربابها ، كما كان لهم ذلك قبل فسادها"[25]. وما ذكره من تفسير لاختلاف الحكمين وارد في الروايات[26].

ولكن السؤال كيف نفهم هذا الاختلاف بين النبيين (ع) مع عصمتهما؟

والإجابة على ذلك نوضحها من خلال النقطتين التاليتين:

النقطة الأولى: هل صدر حكم من النبيين ( داوود وسليمان ) (ع) أو أنّ المسألة كانت في طور التشاور بينهما في حكم القضية المطروحة؟

يظهر من بعض المفسرين وكذلك من بعض الروايات[27] الواردة في تفسير الآية الكريمة أنّ الحكم قد صدر من النبيين (ع). بينما ذهب البعض الآخر[28] إلى أنّ المسألة كانت في طور النقاش والمناظرة بينهما، وقد يستشهد للرأي الثاني:

أولاً: إنّ داوود (ع) كان هو الحاكم الفعلي، كما قال تعالى: { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص : 26 ]، ومن الطبيعي أن تتوجه إليه الناس في فصل القضاء، "فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه ولحكمة ما، ولعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داوود، ومن المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحده شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم ونفوذه"[29].

ولا يخفى أنّ هذا لا يكفي في إثبات ذلك، فربما توجه الخصم إلى داوود أولاً ثم توجه إلى ابنه سليمان ثانياً للسؤال عن القضية عينها.

ثانياً: إنّ الآية استخدمت تعبير {إذ يحكمان} الذي يشير إلى أنهما بصدد الحكم، فهو أقرب إلى كونهما يتناظران ويتشاوران في آن واحد، وإلا لو أنههما حكما فعلاً لكان التعبير الأنسب، "إذ حكما".

ثالثاً: وتدل عليه صريحاً صحيحة زرارة عن أبي جعفر ( ع ) في قول الله تبارك وتعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} ؟ قال : لم يحكما، إنما كانا يتناظران، ففهمناها سليمان"[30].

النقطة الثانية: كيف يختلف رأي نبيين في الحكم ولو كان الاختلاف في سياق المناظرة والتشاور؟

 وفي الإجابة على ذلك برزت عدة آراء:

الرأي الأول: هو الذي ذهب إلى أن المسألة حيث كانت في مقام المناظرة انتظاراً لوحي الله فلا تثير مشكلة ولا تنافي العصمة، قال العلامة المجلسي:" والأصوب في الجواب أن يقال : إن الآية لا تدل على أنّ سليمان عليه السلام حكم بخلاف ما حكم به داوود عليه السلام بل يحتمل أن يكون المراد: إذ يريدان أن يحكما في الحرث كما دلت عليه رواية أبي بصير في التفسير ورواية زرارة ، فهما كانا يتناظران في ذلك منتظرين للوحي أو كان داوود عليه السلام عالماً بالحكم وكان يسأل سليمان عليه السلام ليبين فضله على الناس، فأوحى الله ذلك إلى سليمان عليه السلام "[31].

الرأي الثاني: أن الحكمين كانا عن اجتهاد ونزل الوحي بتصويب حكم سليمان، نقله في "التبيان" عن " ابن الأخشاذ ، والبلخي والرماني" حيث قالوا : "يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد ، لأن رأي النبي أفضل من رأي غيره ، فكيف يجوز التعبد بالتزام حكم غيره من طريق الاجتهاد ، ويمتنع من حكمه من هذا الوجه"[32].

 وردّه الشيخ الطوسي: "أنّ الأنبياء ( ع ) يوحى إليهم ، ولهم طريق إلى العلم بالحكم، فكيف يجوز أن يعملوا بالظن؟! والأمة لا طريق لها إلى العلم بالأحكام فجاز أن يكلفوا ما طريقه الظن؟! على أنّ عندنا لا يجوز في الأمة أيضا العمل على الاجتهاد[33]. وقد بينا ذلك في غير موضع. ومن قال: إنهما اجتهدا، قال أخطأ داود وأصاب سليمان"[34]. على أنّ الله تعالى يقول: { ففهمناها سليمان} (الأنبياء: 79) ما يعني أن حكمه لم يكن عن اجتهاد وإنما كان عالماً بحكم الله تعالى.ثم قال: {وكلا آتينا حكما وعلماً} (الأنبياء: 79) وهو يشهد بكون حكم داوود عن علم أيضاً وليس عن اجتهاد ظني.

الرأي الثالث أنّ حكم سليمان كان ناسخاً لحكم داوود، قال المفيد: "وكان هذا الحكم ناسخا لحكم داود عليه السلام، ولم يكن مخالفا له من جهة قياس ولا تخطئة في اجتهاد، كما تظنه العامة الجهال "[35]. وتبناه آخرون[36]. وممن قال بالنسخ أبو علي الجبائي، قال بحسب ما نقله الشيخ في التبيان: "أوحى الله إلى سليمان مما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل. ولم يكن ذلك عن اجتهاد، لأنّ الاجتهاد لا يجوز أن يحكم به الأنبياء. وهذا هو الصحيح عندنا"[37].

ويلاحظ عليه: إنّ النسخ هو فرع تعدد الحكم مع أنّ ظاهر الآية أنّ ما صدر عن النبيين هو حكم واحد، بقرينة قوله تعالى: { وكنا لحكمهما } ولم يقل لحكميهما" على أنّ قوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } مشعر بتأييد الحكمين وهو يتنافى مع النسخ[38].

الرأي الرابع: إنّ النبيين (ع) لم يختلفا في الحكم، وإنما اختلفا في كيفية إجراء الحكم، وطريقة إحقاق الحق، فالنبيين حكما بالعدل، { وكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً } وهو ضمان قيمة ما أتلفه الغنم، وهذه القاعدة الكلية التي لم يحد عنها النبيان، وإنما اختلفا في طريقة التنفيذ، فداوود حكم بإعطاء الغنم إلى صاحب الزرع تعويضاً عما أتلفه من زرعه، وكانت قيمة الغنم تساوي ما ألف من الزرع، بينما سليمان قضى بأن يعطى الغنم إلى صاحب الزرع لمدة سنة ليستفيد من لبنه ووبره، وذلك يعادل ما أتلفه الغنم، فخسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة، وتعود الغنم بعد ذلك لصاحبها، وهذا أرفق بصاحب الغنم، كما لا يضيع حق صاحب الزرع، فسليمان في حكمه "راعى مصلحة الجانبين"[39]، وقوله: { وكنا لحكمهم شاهدين} (الأنبياء: 78) "لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحدا ومصونا عن الخطأ فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق"[40].  

ثالثاً: التصرفات البشرية والحكم الشرعي

إنّ علاقة التصرفات البشريّة للمعصوم (ع) هي مسألة في غاية الأهمية، ونحاول في هذه الفقرة دراستها بشكل تفصيلي:

  1. أقوال الفقهاء في استفادة الحكم الشرعي من أفعاله البشريّة

وأوّل ما يواجهنا على هذا الصعيد أنه هل يستفاد من هذه الأفعال حكم شرعي أم لا؟

 يظهر من بعض الفقهاء أنّه لا يستفاد منها حكم شرعي. يقول الشهيد الثاني: "فعل النبي (ص) حجة، كما أنّ قوله حجة، إذا لم يكن من الأفعال الطبيعيّة كالقيام والقعود والأكل والنوم والحركة والسكون"[41].

والظاهر أنّ الشيخ الطوسي ناظرٌ إلى هذا النوع من الأفعال عندما قال وهو يتحدث عن أفعاله (ص): "فأمّا ما لا تعلّق له بالشرع فلا طائل في ذكره"[42].

   إلاّ أنّ قوله عن هذا الصنف من الأفعال بأنّه: "لا طائل في ذكره" غير دقيق على إطلاقه، لأنّ معرفة هذا الصنف وذكر بعض نماذجه ومعرفة الفوارق بينه وبين سائر أفعاله (ص) في غاية الأهميّة، لأنّه يرفع الخلط الحاصل بين وظائفه، وما يتصل منها بالتشريع وما لا يتصل به، وهذا الخلط أدى إلى اعتبار كثير من تصرفاته البشريّة أحكاماً شرعيّة.

وأما السيد المرتضى فيرى أنّ التأسي به (ص) إنما يكون "فيما يفعله على جهة العبادة أو ما يجري مجراها، وأما المباحات التي تخصّه، كالأكل والنوم فخارج من هذا الباب"[43]، والمقصود بهذا الباب هو باب التأسي به (ص) وأنّ أفعاله سنة.

وقال بعد أن قسّم الأفعال إلى ما هو حسن وقبيح وما ليس حسناً ولا قبيحاً: "ومثال ما ليس بحسن ولا قبيح كلام النائم، وحركة أعضائه التي لا تتعداه، لأن الكلام لا حكم له مع ارتفاع القصود كلها"[44].

ويقول الميرزا القمي ( 1231هـ ) في القوانين: "فعلُ المعصوم عليه السلام حجة كقوله، لكنّ الشأن في تحقيق محلّه وتعيين ما يُحكم بمتابعته فنقول: أما الافعال الطبيعية كالأكل والشرب والنوم والاستيقاظ، فالكل مباح له ولنا بلا إشكال، وذلك إذا لم يلحقه حيثية واعتبار وخصوصية كالاستمرار على القيلولة وأكل الزبيب على الريق مثلا"[45].

وممن اختار خروج أفعاله البشرية عن باب التأسي السيد علي الموسوي القزويني ( 1298 هـ) في تعليقته على المعالم، قال متحدثاً عن أفعاله (ص) الطبيعيّة العاديّة: "ولا إشكال في حكمه كما هو المصرّح به في كلام جماعة بل ظاهرهم الإجماع عليه ، من حيث كون هذه الأفعال مباحة له ولنا ، بل الظاهر خروجها عن موضوع كلامهم في هذا الباب"[46].

هذا ولكن السيد محمد تقي الحكيم ( 1422هـ) أبدى استغرابه من إخراج أفعاله البشرية عن دائرة السنة والتشريع، قال في سياق رفض للتقسيم الثلاثي ( ما صدر عنه على وجه التبليغ، ما صدر عنه بمقتضى البشرية، وما صدر عنه بمقتضى التجارب ) لأفعال النبي (ص): " ولكن هذه التفرقة بين أقسام ما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير ، لا تخلو من غرابة إذا علمنا أنه ما من واقعة إلا ولها حكم في الشريعة الاسلامية كما هو مقتضى شموليتها ، ولا يفرق في ذلك بين ما تقتضيه طبيعته البشرية كالأكل والشرب وغيره ، إذا كان صادرا منه عن إرادة ، وبين غيره من تجارب، وإذا تم ما سبق أن عرضناه من أدلة العصمة له ، فإن كل ما يصدر عنه بطبيعة الحال يكون موافقا لاحكام الشريعة ومعبرا عنها ، وما دام الأكل والنوم والشرب من أفعاله الإرادية ، فهي محكومة حتما بأحد الأحكام ، فأصل الأكل محكوم بالجواز بالمعنى العام ، وأكله لنوع معين يدل على جوازه ، كما أن تركه لأنواع أخرى يدل على جواز الترك لها ، فالقول بأن ما كان من شؤون طبيعته البشرية لا يعبر عن حكم ، لا يتضح له وجه"[47].

هذه كلمات بعض علماء الشيعة، والخلاف نجده عند علماء السنة أيضاَ، فقد أخرج الكثيرون الأفعال البشرية عن دائرة التأسي، بينما نقل عن البعض أنها مندرجة فيها ويسن التأسي بها، قال الشوكاني في بيان أقسام فعله (ص): " القسم الثاني: ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء، ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور، ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم أنّه مندوب، وكذا حكاه الغزالي في المنخول، وقد كان عبد الله ابن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به، كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة"[48].

 ونقل عن صاحب "مراقي السعود" قوله نظماً:

"وفعله المركوز في الجبلة *** كالأكل والشرب فليس ملة"[49].

والخلاصة: أنّ البشرية في المعصوم تستدعي صدور الكثير من الأفعال عنه انطلاقاً من ذلك، وفي اندراج هذه الأفعال تحت عنوان السنة التي يجدر أو يلزم التأسي والاقتداء كلام وخلاف.

  1. تحقيق الحال وتفصيل الكلام في أنواع تصرفاته البشريّة

هذا وتوضيحاً لهذه النقطة، أعني ما يتصل بالتشريع من أفعاله وما لا يتصل به، فإننا نسجل النقاط التالية:

  • أنواع أفعاله البشرية

نقسّم أفعاله وتصرفاته (ص) البشرية إلى نوعين:

النوع الأول: الأفعال أو الصفات أو الأحاسيس البشرية اللاإرادية والتي تصدر منه بصورة قهرية، كالإنفعالات الجبليّة (الفيزيولوجية أو السيكولوجية)، من قبيل حركة إعضاء الإنسان، وكذلك نومه في ذروة النعاس، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد من أنّه (ص) كان يأنف من الشيء الفلاني كما سيأتي. فهذا ليس أمراً إرادياً ولا اختيارياً، وهذا النوع من الأفعال أو الأحاسيس لا مجال لاستفادة الحكم الشرعي منه حتى الإباحة، ولا يقع موضع الأسوة أو القدوة، لأنّ الاقتداء به إنما يكون وجيهاً في أفعاله البشرية الاختيارية، ولعلّه إلى هذا المعنى نظر النبي (ص) - بحسب ما روي عنه - : "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلْمني فيما تملك ولا أملك"[50]، حيث كان يقول ذلك بعد أن يقسم ويعدل بين زوجاته، ومقصوده بما لا يملك هو أمر القلب[51].

النوع الثاني: هو الأفعال البشريّة والتي يُقدِمُ النبي (ص) عليها بإرادته واختياره، لكنّها أفعال تصدر منه بمقتضى البشرية، كالقيام والقعود أو الجلوس أو النوم أو المشي أو الأكل أو الشرب وغيرها من الأعمال التي يتوقف عليها نظام حياة الإنسان.

والنوع الثاني يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: الأفعال البشريّة التي تقترن بصدور نصٍ قولي، سواء أكان من النبي (ص) أو الإمام (ع) نفسه الذي صدر منه الفعل أو من إمام لاحق، كقصّ الأظافر مثلاً وحلق الشعر، وغيرها من أفعاله التي اقترنت بالقول، وهذا النوع تجري عليه أحكام النص، حيث تلاحظ دلالة النص على الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة، أو عدم دلالته على الحكم الشرعي أصلاً.

الصنف الثاني: اقتران الفعل البشري بخصوصيّة قد تخرجه من الجبلية إلى التشريع، ككون فعله البشري في نطاق العمل العبادي، أو مع مواظبته (ص)عليه وتكراره له، ومثّل له صاحب القوانين فيما تقدم من كلامه بالاستمرار على القيلولة وأكل الزبيب على الريق، ورأى أنّ هذه الخصوصية تجعله موضع التأسي، ولكن قد وقع في ذلك الخلاف من بعض الأصوليين[52]، ويمكن القول: إنه إذا أحرز من القرينة قصده التشريع دخل في التأسي، وأما إذا شكّ في كونه للجبلة أو للتشريع، فسيأتي بيان حكمه في الوقفة الخامسة، تحت عنوان: ما هو الأصل؟

وما يهمنا التأكيد عليه هنا أنّ دلالة الفعل البشري على الحكم الشرعي والدعوة إلى التأسي به إنما هي بتبع القرائن الحالية أو المقالية، فقد نجد قرينة عامة أو خاصة على أنه فعل قصد به التشريع، كالأفعال التي تدخل في العمل العبادي، كالقيام أو الجلوس على هيئة خاصة في الصلاة، فيكون داخلاً تحت عمومات التأسي بالنبي (ص)، أو إطلاق " صلوا كما رأيتموني أصلي "أو خذوا عني مناسككم".

القسم الثالث: الأفعال البشريّة التي لا يقترن ولا يصدر في شأنها نصّ لفظي يدعو إلى الفعل أو الترك، ولا تحتف بخصوصية أو قرينة معينة توجب دخولها تحت عنوان السنة، وهنا محل الكلام ومركز الخلاف. ففي حين يرى بعض العلماء أنّ هذا القسم من الأفعال بطبيعتها خارجة عن دائرة الشرع والتأسي، يرى آخرون أنها تفيد الإباحة، وعن ثالث أنها تفيد الندب، كما تقدم في كلام الشوكاني.

وتعليقاً على هذه الأقوال، نتطرق أولاً إلى دليل نفي السنة عن هذه الأفعال، ومن ثم إلى دليل إثبات سنيتها:

  •  دليل نفي السنة والتشريع عن هذه الأفعال

إن ما يمكن الاستدلال به على نفي سنية هذه الأفعال وإخراجها عن دائرة التأسي، فهو أنّ استفادة الاستحباب منها، تمسكاً بعمومات التأسي، لا وجه له، لأنّ التأسي منتفٍ حتماً، بسبب أنّ هذه أفعال لا بدّ منها، وهي من لوازم التعيّش، فلا معنى للحديث عن التأسي به (ص) فيها، كيف وهو (ص) يأتي بها بصفته بشراً لا بصفته رسولاً، فهو لا يقصد التشريع بفعله. وأما استفادة الإباحة من قيامه (ص) بهذه الأفعال، بمعنى أنه لولا فعله لها لما كانت مباحة أو كان يشك في إباحتها، فلا يخفى ما فيه، لأنّ الإباحة فيها ثابتة في حقِّنا بالبداهة وبصرف النظر عن فعله لها، كونها أفعالاً ضرورية ولا بدّ منها. إنّ محل الكلام في الاستدلال بفعله الذي لولاه لما ثبت الحكم الشرعي في حقنا، وفي المقام فإنّ الحكم الشرعي في حقنا ثابت بالبداهة وبصرف النظر عن فعله، ومن هنا لم يشعر أي فقيه بالحاجة إلى إقامة الدليل على مشروعية هذه الأفعال، بأقدام النبي (ص) على فعلها، ومتى وجدنا فقيهاً يستدل على حلية أصل الأكل أو الشرب بأن النبي (ص) قد أكل أو نام، أو يستدل على حلية النوم لأن النبي (ص) قد نام ؟! ولو أن فقيهاً استدل بذلك لعدّ كلامه لغواً.

يقول السيد علي القزويني في تبرير خروج هذا القسم من الأفعال عن موضوع كلامهم في هذا الباب : "إذ النظر في فعل المعصوم، إمّا من حيث التأسّي به في فعله وأنّه هل هو واجب علينا أو مستحبّ لنا أو مباح لنا ، أو من حيث دلالته في حقّنا على حكم لولا النظر فيه لم يكن ذلك الحكم ثابتاً ، كما لو فعل ما يحتمل الحرمة أو ترك ما يحتمل الوجوب ، فيدلّ على الإباحة اللازمة لانتفاء الحرمة والوجوب في الصورتين ، نظراً إلى عصمته المانعة من ارتكاب الحرام وترك الواجب ، فتخرج الطبيعيّات عن كلتا الحيثيّتين لعدم كونها من جهة أنّها من لوازم تعيّش كلّ أحد محلاًّ للتأسّي ، وكون إباحتها ثابتة في حقّنا من غير جهة فعل المعصوم كالضرورة وحكم العادة ، حتّى أنّ منهم من التزم بخروجها عن السنّة حيث قيّد تعريفها بما تقدّم بغير العاديّات احترازاً عن العادي من قول المعصوم وفعله وتقريره. والمراد بالعادي من فعل المعصوم هو هذه الأفعال ، نظراً منه في هذا الاحتراز إلى أنّ السنّة نوع من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، ولا حاجة في معرفة الإباحة اللازمة للأفعال العاديّة إلى النظر في فعل المعصوم ، لكونها معلومة بالضرورة وبداهة العادة"[53].

  • دليل سنيّة هذه الأفعال

وأما عمدة ما استدل به لإثبات سنية هذه الأفعال وأنها في موضع التأسي فهو ( كما مرّ في كلام السيد تقي الحكيم ) أنّ إخراج الأمور الطبيعية والأفعال البشرية عن دائرة السنة والتشريع لا يصح، وذلك لأنّ كلّ فعلٍ من الأفعال الاختيارية المكتسبة للمكلف لا بد أن يتعلق بها حكم شرعي من وجوب أو حرمة أو كراهة أو استحباب أو إباحة، فما من واقعة إلا ولها في الإسلام حكم. وعليه، وعليه فإنّ فعل النبي (ص) الطبيعي لا يحتمل فيه الحرمة، لمنافاة ذلك للعصمة، ومن البعيد جداً حمله على الكراهة في حال مداومة النبي (ص) عليه، كما أنّ احتمال الوجوب في فعله الطبيعي غير وارد، فيتعين حمله على الإباحة أو الاستحباب.

  والجواب: إنّنا قد أشرنا إلى أن الأفعال الاختيارية التي لا بد للإنسان منها ولا يمكنه الاستغناء عنها، كالأكل والشرب والجلوس والقيام، هي على نحو الإجمال وبلحاظ أصل صدورها مما لا مجال لتوهم تحريمها، لنحتاج في إثبات حليتها إلى الاستدلال بسيرته (ص) وفعله، فحليتها سابقة على فعله (ص) لها. بل لا يبعد القول إنّ هذه الأفعال خارجة عن دائرة التشريع، حتى على القول بشمول الشريعة لكل وقائع الحياة، فإنّ ما دل على هذا الشمول منصرف وغير ناظر إلى ما كان من الأفعال من لوازم التعيش التي تتوقف عليها حياة الإنسان، والتي لم تبعث الشرائع لإقرار مشروعيتها، ولذا لم يرد في الشرائع السماوية حديث عن إباحة هذه الأفعال، إلا إذا كان ذلك في سياق الامتنان وبيان نِعم الله تعالى على عباده.

  •  مثال قرآني لأفعاله البشرية

ويمكن أن نذكر للصنف الثالث المشار إليه نموذجاً وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم، وهو تحريم النبي (ص) على نفسه أكلَ العسل أو مقاربة بعض نسائه على الخلاف في ذلك[54]، وذلك بسبب إقدام بعض زوجاته على إظهار النفور من النبي (ص)، فشعر (ص) بالانزعاج، وأراد استرضاءهن بما حرمه على نفسه، وهو الأمر الذي استوجب نزول بعض الآيات القرآنيّة من أول سورة التحريم، عتاباً لرسول الله (ص) وتأنيباً لبعض زوجاته على ما فعلنه معه (ص)، والآيات هي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 )} [التحريم]ّ. إنّ تحريم النبي (ص) على نفسه أكل العسل أو مقاربة بعض من يحلّ له مقاربتها ليس تحريماً شرعياً، وإنما هو تحريم يراد به امتناعه عن هذا العمل من تلقاء نفسه، سواء قيل: إنّ التحريم هنا يراد به معناه اللغوي البحت، كما في قوله تعالى بشأن موسى: { حرمنا عليه المراضع } []، وتحريمٌ كهذا لا يترتب عليه أثر شرعي، أو قيل: إنّ التحريم ليس لامتناعه عن فعل ما أحلّه الله تعالى له، وإنما هو بسبب أنّ النبي (ص) حلف على أن لا يفعل ذلك[55]. وعلى التقديرين، فالنبي (ص) في تحريمه ذاك الشيء على نفسه إنما لم انطلق من حالة بشريّة تعبر عن حسٍ مرهف دفعه إلى تطييب خاطر زوجاته بتحريم أمر يحبه على نفسه. وطبيعي أن ما فعله (ص) لم يكن معصية أو خطأ أو عملاً قبيحاً[56]، وقوله تعالى: { لمَ تحرم ما أحلّ الله لك} هو عتاب إشفاق وإرفاق بالنبي (ص)، لأنه بالغ في إرضاء أزواجه وتطييب خاطرهن، مع أنه لم يرتكب خطأ قط.

  • إعادة النظر في تعريف السنة

وفي ضوء ما تقدم، يتضح أنّ إطلاق القول بأنّ السنة هي قول النبي (ص) أو فعله أو تقريره غير صحيح على إطلاقه، فليس كل قول من أقواله (ص) صادر لبيان السنة، وليس كل فعل من أفعاله هو حجة شرعيّة، فالقول ربما كان لبيان أثر وضعي أو صادراً من موقع الخبرة أو ما إلى ذلك، والفعل أيضاً ربما كان جبلياً، ومن هنا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى إضافة قيد على التعريف، فقال: إن السنة هي قول المعصوم وفعله وتقريره في غير العاديات[57]. وقد عرف بعض علماء الأصول السنة بأنها: " ما رسم ليحتذى"[58].

  1. الأفعال والأقوال المنفرة التي لا يليق صدورها عنه

أجل، إنّه بالنسبة لأفعاله (ص) من النوعين المذكورين ( الأفعال الجبلية اللإرادية، والأفعال الجبلية الإختيارية ) وكذلك بالنسبة لأقواله (ص) لا بدّ أن نستبعد صدور بعض الأفعال أو الأقوال الجبلية التي تنفر عنه، وتوضيح ذلك:

أما الأفعال: فما أوجب نقصاً وعيباً وكان منها وضيعاً أو منفرّاً، فلا شكّ في أنّ الله تعالى ينزهه (ص) عن عنها، اختيارية كانت أو غير اختيارية، كتعمده إصدار الريح بصوت مرتفع في المجالس مثلاً، أو ضعف القوة الماسكة لديه ما يجعل الريح الكريه يخرج منه لا إرادياً في المجالس، أو نحو ذلك مما يخدش في موقعه ويؤثر على مكانته في النفوس، ومن ذلك غلبة النسيان عليه بما يؤثر دوره في بيان الأحكام الشرعية أو على نصاعة صورته، أو عروض الجنون عليه، فإنّ هذه الأفعال أو التصرفات أو الصفات حتى لو كانت غير اختيارية أو موروثة له بالولادة وليست مكتسبة بالإرادة، فإنّ الله تعالى ينزهه عنها حفظاً لدوره في الأمة. وهكذا فإن الله تعالى ينزهه عن الصفات الخسيسة، كالحسد والحقد واللؤم، حتى لو كانت في بعض جوانبها متوارثة وليست مكتسبة لأنه تعالى يختار الأنبياء من المعادن الطيبة.

نعم، ثمة أفعال وتصرفات جبلية وقع الكلام بين الأعلام في وجوب تنزيه المعصوم عنها، من قبيل: سهو النبي أو الإمام في الموضوعات، فقد آمن الشيخ الصدوق بوقوعه تبعاً لأستاذه الشيخ محمد بن الحسن بن الوليد[59] بينما رفضه المشهور[60]، نعم لا ريب أن الاتجاه العام لدى علماء المذهب على رفض كلام الشيخ الصدوق، ولا نروم هنا تناول هذه المسألة بالبحث، فلها مجال آخر.

ومن هذا القبيل أيضاً نوم النبي (ص) أو الإمام (ع) عن الصلاة الواجبة، وهو الأمر الذي لا يرى فيه الشيخ المفيد محذوراً بينما أصرّ على رفض تعرضه (ص) للسهو مع أن الظاهر أنه لا وجه للتفرقة[61].

وأما الأقوال، فهو (ص) أيضاً يُنزّهُ عنما كان قبيحاً في ميزان الأخلاق والدين، للسبب عينه، وهو أنه يوجب نفور الناس عنه، فلا تقوم الحجة به على العباد، إنّ النبي (ص) محصن من التلفظ بما لا يليق كأن يسيطر الشيطان على لسانه فينطق بغير الحق[62]، أو تعتريه حالة جبلية طبيعية تفقده التماسك في كلامه فيتكلم بما لا يليق، أو بما لا يريد، ومن هنا فإننا نرفض التصور الذي كان يحمله بعض الصحابة عنه (ص)، وذلك من قبيل ما يحكى عن الخليفة الثاني مما يعكس وجود اعتقاد لديه بأنّ النبي (ص) قد يغلبه الوجع والألم، فيقول ما لا يقصد وينطق ما لا يريد، وذلك في قصة طلب النبي (ص)في مرض موته الإتيان بقلمٍ ودواة، ليكتب للأمة كتاباً لن تضل بعده أبداً، فقال عمر: إنّ النبي (ص) غلبه الوجع، أو إنه (ص) يهجر[63].

ومن الروايات المرفوضة، لأنها تنسب إليه (ص) بعض الأقوال المنفرة والتي قد تصدر من غيره في حالة انفعال أو غضب، ما روي من أنّ الانفعال البشري والغضب كان يدفع النبي (ص) للعن أصحابه وسبهم، فقد روي أنه دعا على يتيمةٍ لأم سليمة، حيث خاطبها قائلاً: " أنت هيه، لقد كبرت لا كبر سنك" وجاءت اليتيمة إلى أم سليم باكية شاكية، فاستفسرت عن سر بكائها فأخبرتها اليتيمة بما قاله النبي (ص) لها، فخرجت أم سليم إلى رسول الله مستعجلة ومستفسرة عن صحة ما قالته اليتيمة، فضحك (ص) وقال لها: " يا أم سليم، أمّا تعلمين أن شرطي على ربى، أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشرٌ أرضى كما يرضى البشر وأغضب، كما يغضب البشر، فأيّما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة"[64].

ونحن قد أعربنا عن رفضنا لهذا الخبر وأمثاله لأكثر من سبب في كتاب فقه العلاقة مع الآخر المذهبي[65].

وما نريد إضافته هنا، هو أنّ البعض حاول تبرير صدور اللعن أو السبّ عنه (ص) لبعض أصحابه، مع أنّهم لا يستحقون ذلك ببعض الوجوه، منها:

الوجه الأول: "أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله: "تربت يمينك" و"عقرى حلقى"، وفي هذا الحديث: "لا كبرت سنك"، وفي حديث معاوية: "لا أشبع الله بطنه" ونحو ذلك، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء"[66].

ولكن هذا التوجيه لا يستقيم في خصوص ما نحن[67]، وذلك لأنه خلاف الظاهر، بدليل أن اليتيمة وكذلك سيدتها فهمتا من كلامه الجديّة، ولذا بكت اليتيمة وجاءت أم سليم مسرعة للاستفسار، والقرينة الأقوى على مخالفة هذا الحمل للظاهر أن جواب النبي (ص) لأم سليم لا يساعد عليه، فهو لو كان كلاماً عابراً غير مقصود، فلا موجب ليبرر النبي (ص) مقالته تلك بأنه بشر ويغضب كسائر البشر، ولا مبرر أيضاً ليطلب من ربه أن يجعل لعنه لمن ليس أهلاً للعن زكاة وطهوراً، وأما ما قيل من أنه "خاف (ص) أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجراً"[68]. فيرده، أنه لا موجب لمثل هذا الخوف، لأنه كلام غير جدي ولا يقصد به الدعاء.

 الوجه الثاني: أنه فعل ذلك "بباعث البشرية"[69]، بقرينة تعليله لذلك بأنه بشر يرضى ويغضب.

وهذا التوجيه غير مقبول عندنا، لأنّ البشرية في النبي (ص) لا تجعله يتورط في الوقوع بما هو محظور في الشرع من لعن أو سب الناس، وإلا لفقد الاقتداء به (ص)، معناه، وبكلمة أخرى: إنّ صدور اللعن بمقتضى البشرية، إن أريد به صدوره عنه (ص) دون وعي بسبب شدة الغضب، فهذا لا يليق
بالنبي (ص)، لأن سورة الغضب لا تتملكه (ص) وتستبد به إلى الحد الذي يقع في ارتكاب ما هو قبيح في العرف ومحظور في الشرع، وأما إن أريد به صدوره عن وعي وإرادة منه فهذا أشد بعداً من سابقه، بل هو غير معقول، لمنافته للعصمة ولأنه يفقده معنى الاقتداء به، كما قلنا.


من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)

 


[1] قيل: "إن التي أعجبه صلوات الله عليه حسنها أسماء بنت عميس الخثعميّة بعد فصل [قتل] جعفر بن أبي طالب عنها"، مجمع البيان ج 8 ص 176، زبدة التفاسير للكاشاني ج 5 ص 393. واستفاد بعضهم من الآية جواز النظر إلى وجه المرأة التي يريد الزواج بها، لأنّ الإعجاب يحصل نتيجة النظر، انظر: روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن ج 16 ص 12. وتفسير الكاشف ج 6 ص 233.

[2] الرسائل العشر ص 307.

[3] نقله في التبيان عن الشعبي وسعيد بن جبير انظر، وهو غريب ولا يليق بالأنبياء أن يكونوا بهذا المستوى، الذي يشارف درجة الكفر بالله تعالى، التبيان: ج 17 ص 273. ومجمع البيان ج 7 ص 108.

[4] مجمع البيان ج 7 ص 108.

[5] التفسير الكاشف ج 5 ص 296.

[6] مجمع البيان، ج 7، ص 108.

[7] وقد بحثنا ذلك في كتاب " تنزيهاً لرسول الله (ص) – قراءة نقدية في زواج النبي (ص) من السيدة عائشة في التاسعة من عمرها.

[8] كنز العرفان للفاضل المقداد ج2 ص 247.

[9] عيون أخبار الرضا (ع) ج 11 ص 285.

[10] الكافي ج 2 ص 663.

[11] الكافي ج 5 ص 494، وعنه وسائل الشيعة ج 20 ص ذ05، الباب 47 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 1.

[12] مرآة العقول ج 20 ص 301.

[13] انظر: الكافي، ج 2 ص 684، وج 5 ص 535. ورواه الصدوق، انظر: من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 469.

[14] الكافي ج 5 ص 351.

[15] الكافي ج 6 ص 447، الرواية مجهولة، أنظر: مرآة العقول ج 22 ص 325.

[16] المصدر نفسه ج 5 ص 351. والتهذيب ج 7 ص 303.

[17] كنز الفوائد ج1 ص242.

[18] قيل: إنه كان "زين العابدين عليه السلام يوم الطف مريضا بالذرب"، وهو الٍاسهال، أنظر: السرائر ج 1 ص 158. وأعيان الشيعة ج 1 ص 612، وروي عن أبي جعفر (ع): " و كان علي بن الحسين عليه السلام مبطونا لا يرون إلا أنه لما به "، الكافي، ج 1، ص 291.

[19] كنز الفوائد، ج 1 ص 245.

[20] في الخبر عن أبي عبد الله (ع):" كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ص رَجُلاً صَرِداً لَا تُدْفِئُه فِرَاءُ الْحِجَازِ"، انظر: الكافي ج 3 ص 379. وتهذيب الأحكام ج 3 ص 203.

[21] تهذيب الأحكام ج 1 ص 17.

[22] الميزان ج 8 ص 251.

[23] قال الراغب الأصفهاني:" النفش نشر الصوف، قال ( كالعهن المنفوش ) ونفش الغنم انتشارها ، والنفش بالفتح الغنم المنتشرة ، قال تعالى : ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) والإبل النوافش المترددة ليلا في المرعى بلا راع". ص 502.

[24] تفسير الكاشف ج 5 ص 291.

[25] المقنعة ص 771.

[26] روى الكليني عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنِ الْمُعَلَّى أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع عَنْ قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ * ( وداوُدَ وسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيه غَنَمُ الْقَوْمِ ) * ( 3 ) فَقَالَ لَا يَكُونُ النَّفْشُ إِلَّا بِاللَّيْلِ إِنَّ عَلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ أَنْ يَحْفَظَ الْحَرْثَ بِالنَّهَارِ ولَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْمَاشِيَةِ حِفْظُهَا بِالنَّهَارِ وإِنَّمَا رَعْيُهَا بِالنَّهَارِ وإِرْزَاقُهَا فَمَا أَفْسَدَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهَا وعَلَى أَصْحَابِ الْمَاشِيَةِ حِفْظُ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَنْ حَرْثِ النَّاسِ فَمَا أَفْسَدَتْ بِاللَّيْلِ فَقَدْ ضَمِنُوا وهُوَ النَّفْشُ وإِنَّ دَاوُدَ ع حَكَمَ لِلَّذِي أَصَابَ زَرْعَه رِقَابَ الْغَنَمِ وحَكَمَ سُلَيْمَانُ ع الرِّسْلَ والثَّلَّةَ وهُوَ اللَّبَنُ والصُّوفُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ" الكافي ج 5 ص 301، وتهذيب الأحكام 7 ص 224،

وفي رواية أخرى رواها عن أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ بَحْرٍ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ قُلْتُ لَه قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ : * ( وداوُدَ وسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) * ( 1 ) قُلْتُ حِينَ حَكَمَا فِي الْحَرْثِ كَانَتْ قَضِيَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ إِنَّه كَانَ أَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى النَّبِيِّينَ قَبْلَ دَاوُدَ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه دَاوُدَ أَيُّ غَنَمٍ نَفَشَتْ ( 2 ) فِي الْحَرْثِ فَلِصَاحِبِ الْحَرْثِ رِقَابُ الْغَنَمِ ولَا يَكُونُ النَّفْشُ إِلَّا بِاللَّيْلِ فَإِنَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ أَنْ يَحْفَظَه بِالنَّهَارِ وعَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ حِفْظُ الْغَنَمِ بِاللَّيْلِ فَحَكَمَ دَاوُدُ ع بِمَا حَكَمَتْ بِه الأَنْبِيَاءُ ع مِنْ قَبْلِه وأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى سُلَيْمَانَ ع أَيُّ غَنَمٍ نَفَشَتْ فِي زَرْعٍ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ إِلَّا مَا خَرَجَ مِنْ بُطُونِهَا وكَذَلِكَ جَرَتِ السُّنَّةُ بَعْدَ سُلَيْمَانَ ع وهُوَ قَوْلُ اللَّه تَعَالَى : * ( وكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً ) * فَحَكَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ". الكافي ج 5 ص 301. وتهذيب الأحكام ج 7 ص 224. ولكن الروايتان ضعيفتان سنداً.انظر: مرآة العقول ج ، وروى الصدوق بإسناده  وروى الوشاء ، عن أحمد بن عمر الحلبي قال : " سألت أبا الحسن عليه السلام " عن قول الله عز وجل : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " قال : كان حكم داود عليه السلام رقاب الغنم ، والذي فهم الله عز وجل سليمان عليه السلام أن حكم لصاحب الحرث باللبن والصوف ذلك العام كله " أنظر: من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 101..

[27] منها رواية ابي بصير المتقدمة في هامش سابق.

[28] منهم العلامة المجلسي في بحار الأنوار ج 14 ص 134، ومنهم العلامة الطبطبائي ج

[29] تفسير الميزان ج 14 ص 311.

[30] من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 100، ورواه في المحاسن ج 1 ص 277.

[31] بحار الأنوار ج 13 ص 134.

[32] التبيان ج 7 ص 268.

[33] مقصوده الاجتهاد في مقابل النص وليس الاجتهاد في فهم النص.

[34] التبيان ج 7 ص 268.

[35] المقنعة ص 771.

[36] منهم الطبرسي في جوامع الجامع ج 2 ص 533، والفاضل المقداد في كنز العرفان ج 2 ص 379.

[37] التبيان ج 7 ص 268.

[38] الميزان، ج 14 ص 311.

[39] كنز العرفان، ج 2 ص 380.

[40] الميزان، ج 14 ص 312.

[41] تمهيد القواعد ص 236.

[42] كتاب العدة، ج 2، ص 585.

[43] الذريعة ص 401.

[44] الذريعة ص 393.

[45] القوانين ص 490. حجرية

[46] تعليقة على معالم الأصول، ج 5، ص 435.

[47] الأصول العامة للفقه المقارن، ص 230.

[48] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص 35.

[49] انظر: أضواء البيان للشنقيطي، ج 4، ص 301.

[50] سنن الدارمي، ج 2، ص 144، وسنن أبي داوود، ج 1، ص 473، والمستدرك للحاكم النيسابوري، ج 2، ص 187.

[51] كما ذكر أبو دوود السجستاني بعد روايته للخبر، أنظر المصدر السابق.

[52] قال الزركشي: " ما احتمل أن يخرج عن الجبلية إلى التشريع بمواظبته على وجه خاص كالأكل والشرب واللبس والنوم وهو دون ما ظهر منه قصد القربة وفوق ما ظهر فيه الجبلية وقد يخرج فيه قولان للشافعي من القولين في تعارض الأصل والظاهر إذ الأصل عدم التشريع والظاهر أنه شرعي لكونه منصوبا لبيان الشرعيات وقد جاء عن الشافعي أنه قال لبعض أصحابه اسقني قائما فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً. وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بحكاية الخلاف وفيه وجهان للأصحاب: أحدهما وهو قول أكثر المحدثين أنه يصير سنة وشريعة ويتبع، والأصل فيه أن يستدل به على إباحة ذلك. والثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدليل هكذا حكى الخلاف في شرح الترتيب"، البحر المحيط في أصول الفقه، 3، ص 248.

[53] تعليقة على معالم الأصول للقزويني ج 5 ص 435.

[54] يقول الشيخ الطوسي: "قيل في سبب نزول قوله ( يا أيها النبي ) قولان :

أحدهما: قال زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وابن زيد والضحاك: ان النبي صلى الله عليه وآله حرم على نفسه مارية القبطية بيمين انه لا يقربها طلبا لمرضاة حفصة زوجته ، لأنها غارت عليه من أجلها ، وقال الحسن : حرم رسول الله أم ولده إبراهيم ، وهي مارية القبطية على نفسه فأسر بذلك إلى زوجته حفصة فأفضت به إلى عائشة وكانت حفصة بنت عمر قد زارت عائشة ، فحلا بيتها ، فوجه رسول الله إلى مارية القبطية ، وكانت معه وجاءت حفصة فأسر إليها التحريم .

والقول الثاني: ما رواه عبد الله بن شداد بن الهلال: إنّ النبي صلى الله عليه وآله كان شرب عند زينب شراب عسل كانت تصلحه له، فكان يطول مكثه عندها فكره ذلك عائشة وحفصة ، فقالت له إنا نشم منك ريح المغافير ، وهي بقلة متغيرة الرائحة - في قول المفسرين - وقال الزجاج: هي بقلة منتنة ، فحرم النبي صلى الله عليه وآله شراب العسل الذي كان يشربه عند زوجته زينب بنت جحش. وقيل: ذكرت ذلك له حفصة ، فحرمه النبي صلى الله عليه وآله على نفسه . ومن قال: إنها نزلت بسبب مارية قال: أنه قال: هي علي حرام ، فجعل الله فيه كفارة يمين، ذكره ابن عباس والحسن. ومن قال: إن التحريم كان في شراب كان يعجبه قال: إنه حلف على أنه لا يشربه فعاتبه الله على تحريم ما أحل الله له"، التبيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 44. وراجع حول هذين القولين في نزول الآيات: مجمع البيان، ج 10، ص 55، وتفسير القرآن لعبد الرزاق، ج 3، ص 301، قال الطبري: " واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جل ثناؤه أحله لرسوله، فحرمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه، فقال بعضهم: كان ذلك مارية مملوكته القبطية ، حرمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالبا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته ، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله ( ص ) في يومها وفي حجرتها".. إلى أن قال: "وقال آخرون: كان ذلك شرابا يشربه، كان يعجبه ذلك"، ونقل الروايات التي تدل على القولين، أنظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 28، ص 198.

وفي روايات أهل البيت (ع) ما يدل على ترجيح القول الأول، فعن زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِه أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَقَالَ لِي لَوْ كَانَ لِي عَلَيْه سُلْطَانٌ لأَوْجَعْتُ رَأْسَه وقُلْتُ لَه اللَّه أَحَلَّهَا لَكَ فَمَا حَرَّمَهَا عَلَيْكَ إِنَّه لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ كَذَبَ ( 3 ) فَزَعَمَ أَنَّ مَا أَحَلَّ اللَّه لَه حَرَامٌ ولَا يَدْخُلُ عَلَيْه طَلَاقٌ ولَا كَفَّارَةٌ فَقُلْتُ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ : * ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ ) * ( 4 ) فَجَعَلَ فِيه الْكَفَّارَةَ فَقَالَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْه جَارِيَتَه مَارِيَةَ وحَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْه الْكَفَّارَةَ فِي الْحَلْفِ ولَمْ يَجْعَلْ عَلَيْه فِي التَّحْرِيمِ"، الكافي، ج 6، ص 134، وتهذيب الأحكتم، ج 8، ص 41، وروى في الدعائم ما يدل على ذلك، دعائم الإسلام، ج 2، ص 98. وفي رواية البخاري ما يشهد للقول الثاني، فقد روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها فواطأت انا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير انى أجد منك ريح مغافير قال لا ولكني كنت اشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً"، صحيح البخاري، ج 6، ص 69.

[55] يقول الشيخ الطوسي: "وعندنا أنه لا يلزم بقوله أنت علي حرام شيْ ووجوده كعدمه، وهو مذهب مسروق. وفيه خلاف بين

الفقهاء ذكرناه في الخلاف. وإنما أوجب الله الكفارة، لأنه صلى الله عليه وآله كان حلف ألا بقرب جاريته أو لا يشرب الشراب المذكور، فعاتبه الله على ذلك وأوجب عليه أن يكفر عن يمينه ويعود إلى استباحة ما كان يفعله. وبين أن التحريم لا يحصل إلا بأمر الله ونهيه ، وليس يصير الشي حراما بتحريم محرم ، ولا باليمين على تركه ، فلذلك قال: {لم تحرم ما أحل الله لك} []"، التبيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 45. وقد اختار السيد الطباطبائي أن التحريم بسبب أنه خلف، قال: "المراد بالتحريم التسبب إلى الحرمة بالحلف على ما تدل عليه الآية التالية فإن ظاهر قوله: " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " الخ ، أنه صلى الله عليه وآله وسلم حلف على ذلك ومن شأن اليمين أن يوجب عروض الوجوب إن كان الحلف على الفعل والحرمة وإن كان الحلف على الترك ، وإذ كان صلى الله عليه وآله وسلم حلف على ترك ما أحل الله له فقد حرم ما أحل الله له بالحلف. وليس المراد بالتحريم تشريعه صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه الحرمة فيما شرع الله له فيه الحلية فليس له ذلك"، تفسير الميزان، ج 19، ص 303.

[56] .  يقول الطبرسي: "ولَيسَ هذا بِزَلَّة منْهُ صلوات الله وسلامه عليه كَمَا زَعَمَهُ جَارُ اللهِ ( يقصد الزمخشري) ، لأنَّ تَحْريمَ الإِنْسانِ بَعْضَ المَلاَذِّ بنَفْسِهِ بسَبَب أو غَيْرِ سَبَب لَيسَ بقَبيح ولا زَلَّة ، ويَمكنُ أَن يكُونَ ( عليه السلام ) عُوتِبَ على ذلك لأنَّه كانَ تَرْكاً للأَوْلى والأَفْضَل ، ويَحسنُ أَن يُقَالَ لِتَارِكِ النَّفْلِ : لِمَ لَمْ تَفعلْهُ؟!"، جوامع الجامع، ج 3، ص 589، ويقول ابن شهر آشوب المازندراني في شرح الآية: " ليس في ظاهرها ما يقتضي عتابا وكيف يعاتبه الله تعالى على ما ليس بذنب لأن تحريم الرجل بعض نسائه لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخل في جملة الذنوب فأكثر ما فيه أنه مباح لا يمتنع أن يكون قوله لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاةَ أَزْواجِكَ خرج مخرج التوجه له من حيث تحمل المشقة في إرضاء زوجاته وإن كان ما فعل قبيحا ولو أن أحدنا أرضى بعض نسائه بتطليق أخرى أو تحريمها لحسن أن يقال له لم فعلت ذلك وإن كان ما فعل قبيحا"، متشابه القرآن ومختلفه، ج 2، ص 20.

[57] قال الميرزا القمي: " السنة وهو قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره الغير العاديات"، انظر: القوانين طبعة حجرية، ص 409، والطبعة المحققة من قبل السيد رضا صبح، ج 3 ص 338.

[58] اللمع في أصول الفقه لأحد علماء القرن السادس من أهل السنة وهو إبراهيم بن علي الشيرازي، ص 83.

[59] قال رحمه الله : " وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول : أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله ، ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار وفي ردها إبطال الدين والشريعة . وأنا أحتسب الاجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلى الله عليه وآله والرد على منكريه إن شاء الله تعالى ."، من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 360.

[60] قال المفيد بعد نقل ما حكي عن ابن الوليد:" فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنه من علماء القميين ومشيختهم"، أوائل المقالات ص 135 .

[61] أنظر: مصنفات الشيخ المفيد ج10 رسالة عدم سهو النبي ص28. يلاحظ أنّ المفيد قد ناقش في المسألة من جهة عدم صحة الخبر الوارد فيها، فقال: " أيضاً في نوم النبي ( عليه السلام ) عن صلاة الصبح من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة ، وإنه من أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، ومن عمل عليه فعلى الظن يعتمد في ذلك دون اليقين"، المصدر نفسه ص 27. لكنه من الناحية العقلية لم يجدها مستحيلة ولا مستقبحة، وفرق بين السهو والنوم في كلام مستفيض لا يخلو من بعض النقاشات، ويمكن مراجعة نوم÷ (ص) عن صلاة الصبح في الوافي ج 8 ص 1019.

[62] من قبيل ما روي في قصة الغرانيق،

[63] فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالكتف والدواة ( أو اللوح والدواة ) اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر"، انظر: صحيح مسلم ج 5 ص 76.  

[64] صحيح مسلم، ج 8، ص 27،

[65] لقد ذكرنا هناك أنه لا يمكننا التصديق بما تضمنته تلك الأخبار من أنّ النبي (ص) كان يسبّ صحابته أو سواهم من الناس، وذلك لعدة أسباب:

أولاً: منافاة ذلك لما هو معروف من خلقه الكريم، مما نصّ عليه القرآن في العديد من الآيات الشريفة، كما في قوله تعالى: {وإنّك لعلى خلق عظيم} [القلم 4]، وقال سبحانه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران 159]، وهو القائل : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "[65]، فكيف نصدّق أنّه يغضب ويضيق صدره ببعض المسلمين فيلجأ إلى سبهم ولعنهم! والسيدة عائشة الراوية لهذا الخبر هي نفسها قد عبّرت عن حقيقة خُلُقه في قولها عندما سئلت عن ذلك، فأجابت: "كان خلقه القرآن"[65].

ثانياً: ثمّ إنّه قد روي عن السيّدة عائشة نفسها أّنّها قالت: "ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً من لعنة تذكر ولا ضرب بيده شيئا قط"[65]، فأي الكلامين أو الروايتين نصدق؟! إننا دون أدنى تردد ملزمون بتصديق ما يصدقه القرآن الكريم، من مكارم أخلاقه وسموّها، والغريب أنّه قد روي عن السيدة عائشة نفسها رواية تشير إلى أنّ قوماً من اليهود جاؤا النبي (ص) وأساؤا إليه في الكلام ولم ينفعل أو يشتم، وإنّما هي التي أغلظت لهم في القول، فقد روى البخاري بإسناده عن عائشة: "أنّ اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: السام عليك، قال: وعليكم، فقالت: عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف أو الفحش، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم"[65]. أفيحلم (ص) مع اليهود وينفعل في وجه المسلمين ويشتمهم؟!

ثالثاً: إنّ النبي (ص) نهى - في العديد من الروايات المروية عنه - عن السبّ، وقبّح للمسلم أن يسبّ الآخرين أو يكون سباباً أو لعاناً، وهو أولى الناس بالتزام هذا الخلق العظيم، حاشاه أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم: {أفتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة 44]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف 2 – 3].

رابعاً: إنّ الرواية تصوّر النبي (ص) أنّه كان رجلاً انفعالياً، يغضب بسرعة ويوقعه غضبه في السب والشتم حتى لأصحابه، ومن هنا عمد (ص) وكي لا تصيب لعنته أحداً من أصحابه إلى الطلب من الله تعالى أن يجعل سبّه ولعنه لهم رحمةً وزكاةً لهم، وهذا أمر يخدش في عصمته، ومن كان كذلك لا تليق به النبوة، بل إنّ القائد المحنك لا يصدر منه ذلك فكيف بالنبي الكريم (ص)! 

خامساً: وليس بعيداً أن تكون يدُ السياسة وراء وضع هذه الأحاديث لتبييض صفحة بعض الأشخاص الذين نقل أنّ النبي (ص) لعنهم، ومنهم أبو سفيان ومعاوية كما سيأتي لاحقاً، وذلك في محاولة للقول: إنّ لعنه (ص) لهؤلاء لا تشكّل طعناً فيهم أو ذمّا لهم، وإنّما هو رحمة وزكاة لهم!

[66] شرح صحيح مسلم للنووي، ج 16، ص 152

[67] أعني الدعاء على اليتيمة، وكذلك في دعائه على معاوية.

[68] شرح صحيح مسلم للنووي، ج 16، ص 152

[69] سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon