حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> أصول فقه
أخبار الأخذ بقول الإمام الحي
الشيخ حسين الخشن



 ولا بدّ لنا أن نذكر الأخبار الواردة في ذلك ومن ثم نلاحظ دلالتها وما قيل فيها:

  1. خبر الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): "إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ عَنْ أَوَّلِكُمْ وحَدِيثٌ عَنْ آخِرِكُمْ بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ؟ فَقَالَ خُذُوا بِه حَتَّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ، فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ فَخُذُوا بِقَوْلِه، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): إِنَّا واللَّه لَا نُدْخِلُكُمْ إِلَّا فِيمَا يَسَعُكُمْ وفِي حَدِيثٍ آخَرَ خُذُوا بِالأَحْدَثِ"[1].
  2. قال الكليني: وفي حديث آخر: "خذوا بالأحدث"[2]
  3. وروى أيضاً عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْكِنَانِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يَا أَبَا عَمْرٍو أرَأَيْتَكَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِفُتْيَا ثُمَّ جِئْتَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتَنِي عَنْه فَأَخْبَرْتُكَ بِخِلَافِ مَا كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ؟ قُلْتُ: بِأَحْدَثِهِمَا وأَدَعُ الآخَرَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ يَا أَبَا عَمْرٍو أَبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُعْبَدَ سِرّاً، أَمَا واللَّه لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ إِنَّه لَخَيْرٌ لِي ولَكُمْ وأَبَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَنَا ولَكُمْ فِي دِينِه إِلَّا التَّقِيَّةَ".[3]
  4. مرسل الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ أرَأَيْتَكَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ الْعَامَ ثُمَّ جِئْتَنِي مِنْ قَابِلٍ فَحَدَّثْتُكَ بِخِلَافِه بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ قَالَ قُلْتُ كُنْتُ آخُذُ بِالأَخِيرِ فَقَالَ لِي رَحِمَكَ اللَّه"[4].
  5. وقد سئل (ع) - على ما رواه محمد بن مسلم - : "ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (ص) لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: "إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن"[5].

والسؤال: كيف نفهم هذه الروايات بناءً على صحتها[6] بعد استبعاد بل رفض كون تأخر الزمان في نفسه مما له مدخلية في إصابة الدليل وكاشفيته عن الواقع، وبعد استبعاد النسخ الحقيقي عن مدلولها، لأنّ النسخ قد أغلق بابه بوفاة رسول الله (ص)؟

قال الفاضل التوني: "وهذه الروايات الثلاثة دالة على أنّ الواجب الأخذ بالرواية الأخيرة، ولا أعلم أحداً عمل بها غير ابن بابويه في الفقيه .."[7]. وقال الشيخ يوسف البحراني:" يستفاد من الروايات الأخيرة أن من جملة الطرق المرجحة عند التعارض الأخذ بالأخير، ولم أقف على من عدّ ذلك في طرق الترجيحات فضلاً عمن عمل عليه غير الصدوق ( ط ) في الفقيه في باب ( الرجل يوصي للرجلين )، حيث نقل خبرين مختلفين ثم قال : " ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لأنّ الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس "[8].

وقال الفيض الكاشاني تعليقاً على هذه الأخبار:" والأخير هو مقتضي وقته، فإنّ لكل وقت مقتضى بالإضافة إلى العمل، وليس ذلك بنسخ، فإنّ النسخ لا يكون بعد النبي (ص) والأخذ بقول الحي أيضاً كذلك، لأنّه أعلم بما يقتضي الوقت العمل به"[9].

 الوجوه المطروحة في فهم الأخبار

هناك من ضعّف هذه الأخبار وأعفى نفسه من اعتمادها في عملية الترجيح بين الأخبار المتعارضة، ولكنّ البعض وثقها وبالتالي كان لزاماً عليه أن يبدي رأياً في كيفية التعامل معها، وتوجد في المقام عدة نظريات في التعامل معها:

النظرية الأولى: الترجيح بين الحجتين

هذه النظرية التي تبناها الصدوق وقد قال بها بعض المعاصرين، وهو السيد تقي القمي في أصوله واعتمدها في فقهه كما يلاحظ في كتابه مباني منهاج الصالحين[10].

النظرية الثانية: الترجيح بلحاظ الحكمين الواقعيين

أنّ الأخذ بالأحدث يناسبُ الترجيح بين الحكمين الواقعيين وليس بين الحجتين في مقام الإثبات، كما هو مفروض باب التعارض، فكأنّ الإمام (ع) يفسِّر سبب صدور الخبريْن المتعارضين عنهم (ع)، يقول المازندراني: " وهذا الحديث على تقدير حجّيته دلّ على أنّه لو حدّث المعصومُ رجلاً بحديث ثمّ حدّثه بعد ذلك بحديث يخالف الأوّل وجب عليه الأخذ بالثاني، والوجه فيه ظاهر لأنّ صدور أحد الحديثين إنّما يكون للتقيّة والدفع عنه، فإن كانت التقيّة في الأوّل كان الثاني رافعاً لحكمها فوجب عليه الأخذ بالثاني ، وإن كانت في الثاني وجب الأخذ به أيضاً ، وأمّا لو بلغ هذان الحديثان إلى الغير على سبيل الرواية عنه ( عليه السلام ) فلا يجب على ذلك الغير الأخذ بالثاني على الإطلاق لجواز أن يكون عالماً بأنّ الثاني صدر على سبيل التقيّة مع ارتفاع التقيّة عنه ، فإنّه يأخذ بالأوّل كما إذا علم أنّ المعصوم أمر بالمسح أوّلاً ثمّ أمر بالغسل ثانياً ، فإنّه يأخذ بالمسح إذا انتفت التقيّة عنه وأن يكون نسبة التقيّة إليهما سواء عنده فإنّ حكمه هو التخيير أو الوقف كما مرّ في الخبرين السابقين"[11].

 ويقول الفيض الكاشاني:" وجه الأخذ بالأخير أنّ بعض الأزمنة يقتضي الحكم بالتقيّة للخوف الذي فيه، وبعضها لا يقتضيه لعدمه، فالإمام عليه السّلام في كل زمان يحكم بما يراه المصلحة في ذلك الزمان، فليس لأحدٍ أن يأخذ في العام بما حكم به في عام أول، وهذا معنى قوله عليه السّلام في الحديث الآتي "إنا واللَّه لا ندخلكم إلا فيما يسعكم"[12].

واخذ عنه هذا المعنى الشيخ يوسف البحراني، قال: "والعمل بهذا الوجه بالنسبة إلى زمانهم ( عليهم السلام ) لا إشكال فيه . وذلك لأنّ الظاهر أنّ الاختلاف المذكور ناشئ عن التقيّة لقصد الدفع عن الشيعة، كما يشير إليه قوله ( عليه السلام ) في الخبر الثاني من الأخبار المشار إليها : " إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم". وحينئذ فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير أنه لو كانت التقيّة في الأول من الخبرين، فالثاني رافع لها فيجب الأخذ به ، وإن كانت التقية في الثاني وجب الأخذ به لذلك ، وأمّا بالنسبة إلى مثل زماننا هذا فالظاهر أنه لا يتجّه العمل بذلك على الاطلاق ، لجواز أن يحصل العلم بأنّ الثاني إنما ورد على سبيل التقية والحال أن المكلف ليس في تقية ، فإنه يتحتم عليه العمل بالأول ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقية بل صار احتمالها قائما بالنسبة إليهما ، فالواجب حينئذ هو التخيير أو الوقوف بناء على ظواهر الأخبار ، أو الاحتياط كما ذكرناه"[13].

وتفسير صدور أحد الخبرين على وحه التقية بالمعنى المتقدم له مؤشرات في الأخبار كما لاحظنا.

ولكن الخبر الأول والأهم في المقام - لأنه الصحيح في نظر البعض وأما البقية فلم تصح سنداً - لا يتعيّن فهمه على ضوء هذه النظرية، بل يحتمل التفسير الآتي في النظرية الثالثة.

 النظرية الثالثة: الحمل على التدبيريّة

 وثمة وجه آخر نطرحه ونميل إليه في تفسير هذه النصوص، وهو ورودها في دائرة الأحكام التدبيرية ذات الطابع المرحلي، وهذا ما يشهد به أخذ عنصر الحياة في الإمام، فالأخذ بقول الإمام الحي لا وجه له ظاهراً إلا أنّه الحاكم الفعلي الذي تلزم إطاعته، والظاهر أنّ هذا هو ما فهمه الشيخ الصدوق من هذه الأخبار، حيث إنّه في باب الوصيّة ذكر خبرين متعارضين ورجح أحدهما على الآخر، ثم قال: "ولو صح الخبران جميعاً لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق (ع)، وذلك لأنّ الأخبار لها وجوه ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس"، فإنّ قوله: "وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس" يتناسب مع كون نظره إلى ما ذكرنا من الأحكام التدبيرية.

 وكون مورد الأخبار هو الحديثان لا يمنع من هذا الحمل لأن الحديث يعكس أمر الإمام (ع).

وبناءً على ما ذكرناه تخرج المسألة عن باب التعارض، فلا وجه لما فعله بعض العلماء من اعتماد الأحدثية كميزان أو معيار من مرجحات باب التعارض بين الأخبار[14]، فإن هذا الأمر يواجهه إشكال آخر وهو أنّ الأحدثيّة ليست مفهومة باعتبارها دليلاً أو طريقاً على تعيين الحكم الصادر عن الإمام(ع) واقعاً، إذ تأخر الزمن وتقدمه لا علاقة له بما هو حق أو ما هو صادر عنهم. يقول السيد الشهيد رحمه الله:"  فإن كلمات الأئمة عليهم السلام تنظر جميعاً إلى وقت واحد وتكشف عن حكم شُرِّع في صدر الإسلام فلا أثر لمجرد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفيّة والطريقيّة التي هي ملاك الحجية والاعتبار"[15]

 فالترجيح بالأحدثية يعني أننا أمام معيار تعبدي في الترجيح لا ينسجم مع القواعد العقلائية، على أن ظاهر الروايتين أنّ الرواي قد سمع الحديثين المختلفين من الإمام (ع) فهو يقطع بصدورهما عنه (ع)، وعليه فلا معنى لتكون الأحدثيّة معياراً لمعرفة الصادر عنه (ع).

ونكتفي بهذا القدر من الحديث حول مسألة الترجيح بالأحدثية، وللتوسع في ذلك مجال آخر من البحث.[16]

أخبار التفويض

وقد يقال: إنّ أخبار التفويض أيضاً ناظرة إلى البعد التدبيري، وهي مجموعة من الأخبار، منها رواه الكليني بسند صحيح عن أَبِي إِسْحَاقَ النَّحْوِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه ع فَسَمِعْتُه يَقُولُ: إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّه عَلَى مَحَبَّتِه فَقَالَ * (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه، فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : * (وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]،  وقَالَ عَزَّ وجَلَّ : * (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله) [النساء: 80]، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: وإِنَّ نَبِيَّ اللَّه فَوَّضَ إِلَى عَلِيٍّ وائْتَمَنَه فَسَلَّمْتُمْ وجَحَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّه لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا وأَنْ تَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، ونَحْنُ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ مَا جَعَلَ اللَّه لأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلَافِ أَمْرِنَا"[17].

وذلك بأن يقال: إنّ التفويض هنا هو بمعنى تفويض أمر السلطة والولاية[18]، وهذا ما يناسبه " الخلق العظيم" ويناسبه قوله: " فَسَلَّمْتُمْ وجَحَدَ النَّاسُ"، فإنّ ما جحده الناس هو ولاية علي (ع) السياسية[19]. نعم قد يقال: إنّ قوله (ع) "أن تقولو إذا قلنا.."، يناسب التشريع أو هو أعم منه ومن ولاية التدبير. وقد ذكر المجلسي أن أحد معاني التفويض هو "تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما يعلموا وهذا حق لقوله تعالى : {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وغير ذلك من الآيات والاخبار، وعليه يحمل قولهم عليهم السلام : " نحن المحللون حلاله والمحرمون حرامه "، أي بيانهما علينا، ويجب على الناس الرجوع فيهما إلينا"[20].

أقول: إن لم تساعد القرائن على حمل أخبار التفويض على إرادة ولاية التدبير أو هداية الناس، واستظهر أن المراد بها تفويض التشريع، فليس المقصود أن له (ص) ولاية التشريع ليحلل ويحرم كيف ما أراد، وإنما المقصود كما تقدم في المحور الأول، أنّ الله تعالى لما أكمل نبيه (ص) فوض إليه أن يحكم في دينه، وقد أمضى تعالى بعض ما سنه نبيه (ص). وهذا المعنى لو أردنا أن نسمّيه تشريعاً فلا مشاحة في الاصطلاح بيد أن ذلك لم يثبت لغير النبي (ص).

من كتاب: أبعاد الشخصية النبوية (دراسة أصولية في تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله التشريعية والتدبيرية والخبروية والبشرية)



[1] الكافي ج 1 ص 67. ومختصر بصائر الدرجات ص 94.

[2] وسائل الشيعة حديث 7- 9، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

[3] الكافي ج 2 ص 218.

[4] الكافي ج 1 ص 67.

[5] م. ن. ح4.

[6] الروايات المتقدمة لا تخلو من إشكالات سنديّة، أما الأولى فلأن في سندها المعلى بن خنيس، وهو مختلف فيه، فقد ضعفه النجاشي صريحاً فقال: "ضعيف جداً، لا يعول عليه"[6]، ويبدو أنّ رأي السيد الخوئي تغير في الرجل فقد كان يوثقه ويأخذ برواياته، ثم أصبح يضعفه، قال رحمه الله: " وهو وإن كنّا نعتمد على رواياته إلَّا أن الصحيح أن الرجل ضعيف لا يعوّل عليه"[6]، والثانية مرسلة وكذا الرابعة ، وأما الثالثة ففيها أبو عمرو الكناني، وهو مجهول، وقد وصف المجلسي الخبر بالمجهول، انظر: مرآة العقول ج 9 ص 172. "بخبر أبي عمرو، انظر: المحكم في أصول الفقه لسيد محمد سعيد الحكيم ج6 ص443، بل صرّح الصادق الروحاني بأنّه "ضعيف بأبي عمرو الكنائي لأنّه لم يوثقه أحد" (زبدة الأصول ج4 ص443)، ولكن السيد الخوئي عبّر عنها بصحيحة أبي عمرو الكنائي، مصباح الأصول ج3 ص416 وبملاحظة معجم رجال الحديث نجد انّه لا توثيق للكنائي (راجع: معجم رجال الحديث ج22 ص287)، ولذا لا نعرف وجه تصحيح الرواية في مصباح الأصول، اللهم إلا إذا حصل سهو في نقل عبارة السيد الخوئي كأن يكون تعبيره في صحيح هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني، قال السيد الشهيد:" أما الرواية الأولى فهي ضعيفة بأبي عمرو الكناني الَّذي لم يثبت توثيقه . نعم قد نقل السيد البروجردي - قده - في جامع أحاديث الشيعة سنداً آخر لها عن صاحب الوسائل عن البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام مثله (راجع وسائل الشيعة ج16 ص207)  وهذا سند صحيح يمكن أن يتم على أساسه الحديث إلَّا أن الظاهر سقوط أبي عمرو في هذا السند سهواً فهشام بن سالم ينقل الرواية عن أبي عمرو الكناني أيضا ، والقرينة على ذلك توجه الخطاب إلى أبي عمرو في كلام الإمام عليه السلام مرتين . ولو تنزلنا عن ذلك وقع التهافت في النقل بين السندين بعد استبعاد كونهما روايتين"، انظر: بحوث في علم الأصول ج 7 ص 363.

أقول: ولعل السهو أو الاشتباه حصل من صاحب الوسائل، فإنّ الرواية كما يقول محققو الوسائل لم توجد في المحاسن المطبوع للبرقي، فقول الحر في ذيل الحديث 12 من الباب 24 من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ورواه البرقي في المحاسن عن علي بن نضال، والذي قبله عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) مثله" اشتباه، وذلك في قوله: "والذي قبله".

ولهذا يمكن القول: "إنّ روايات الترجيح بالأحدثية لا تتم سنداً، ولا يمكن دعوى حصول الوثوق بها لا سيما بملاحظة ما سيأتي من أنّها لا توافق القواعد العقلائية. ولم يحضرني الآن كتاب القمي في الأصول لأرى على ماذا اعتمد في توثيق روايات الأخذ بالأحدث، وما إذا كان هذا المرجح في طول الأخذ بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، أجل في بعض ملحقات كتابه مباني منهاج الصالحين تحدث عن ضعف مستند الرأي المشهور بالترجيح أولاً بموافقة الكتاب وثانياً بموافقة العامة، وبعد ذلك قال:" وعلى هذا الأساس لا يبقى مجال للترجيح بالموافقة مع الكتاب ولا بالمخالفة مع العامة، فيبقى للترجيح كون أحد المتعارضين أحدث من الآخر.."، أنظر: مباني منهاج الصالحين ج 8 ص 584.

[7] الوافية 331.

[8] الحدائق الناضرة ج 1 ص 105.

[9] الأصول الأصيلة 84.

[10] أنظر: مباني منهاج الصالحين ج10 ص 512 -513. ولاحظ ج 8 ص 584.

[11] شرح أصول الكافي ج 2 ص 332.

[12] الوافي ج 1 ص 285.

[13] الحدائق الناضرة ج 1 ص 105.

[14] آراؤنا في أصول الفقه ج3 ص227.

[15] بحوث في علم الأصول ج 7 ص 365.

[16] وليلاحظ ما ذكره بعض العلماء: الكافي في أصول الفقه ج2 ص951.

[17] الكافي، ج 1، ص 265، وللخبر سندان، الأول منهما مجهول والثاني صحيح. ولاحظ: مرآة العقول ج 3 ص 141. وأما تضعيف بعضهم للرواية بحوث فقهية مهمة، ص 528، فهو في غير محله وقد غفل عن أن الكليني رواها بسند آخر.

[18] كما رجحه الشيخ مكارم في كتابه بحوث فقهية مهمة، ص 528.

[19] بحوث في الفقه المعاصر، ج 1، ص 33.

[20] بحار الأنوار، ج 25، ص 349.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon