حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> أصول التفسير
روايات مناسبات النزول
الشيخ حسين الخشن



الباب الثالث: أصناف الروايات الواردة في تفسير / المحور الثاني: روايات مناسبات النزول
  1. ما هي أسباب النزول
  2. أهميّة علم أسباب النزول
  3. روايات أسباب النزول والحاجة إلى التدقيق
  4.  نماذج من الموضوعات في أسباب النزول
  5. أسباب النزول وقاعدة "المورد لا يخصص الوارد"

ويستوقفنا في أخبار التفسير، صنف خاص ذو أهميّة استثنائية، وهو الأخبار التي اصطلح على تسميتها بأسباب النزول، وهذه الأخبار تشكّل طائفةٌ كبيرة جداً، وقد استدعت تأليف كتبٍ خاصة في هذا المجال[1]، من أشهرها وأكثرها تداولاً كتاب "أسباب نزول الآيات" لعلي بن أحمد الواحدي النيسابوري ( 468هـ)[2]، وقد ألف الفقيه الشيعي سعيد بن هبة الله بن بن الحسن الراوندي ( ت 573 هـ) كتاباً في أسباب النزول[3]، هذا ناهيك عن أنّ كثيراً من المفسرين، قد أدرجوا روايات أسباب النزول في كتبهم، وبعضهم أفرز لها عنواناً في سياق تفسيره، يحمل عنوان "النزول". كما نلاحظ في تفسير "مجمع البيان".

  1. ما هي أسباب النزول

أسباب النزول هي المناسبات أو الحوادث أو المشكلات والأسباب الخاصة التي استدعت نزول آية أو آيات أو سورة معينة. ونزول آية لمعالجة موقف معين هو أمر طبيعي في سياق عملية نزول القرآن في مراحل الدعوة المختلفة، فإنّ القرآن في الوقت الذي كان يبادر - في وظيفته إلى هداية الناس - إلى طرح الكثير من المبادئ والأحكام دون سابق إنذار، فإنه في الوقت عينه كان يواكب حركة النبي (ص) والتحديات التي تواجهه أو تواجه حركة الرسالة والمجتمع الإيماني برمته، وهذا ما استدعى أن تنزل بعض الآيات رداً على بعض الأسئلة أو التشكيكات، أو تصحيحاً لبعض المواقف والأفكار، أو كشفاً لبعض المؤامرات، وما أحاط بهذه الآيات النازلة من مناسبات وظروف، وهذا ما يسمى بأسباب النزول.

يقول السيد الطباطبائي: " إنّ كثيراً من السور والآيات ترتبط بالحوادث والأحداث التي وقعت أيام الدعوة، كسورة البقرة والحشر العاديات، أو نزلت لحاجات ضرورية من الأحكام والقوانين الإسلامية كسورة النساء والأنفال والطلاق وأشباهها. هذه القضايا التي سببت نزول السور أو الآية هي المسماة بأسباب النزول، ومعرفتها تساعد إلى حد كبير في معرفة الآية المباركة وما فيها من المعاني والأسرار"[4].

وينبغي الالتفات إلى أنّ بعض الروايات التي تذكر سبب النزول، قد تكون في الوقت عينه مقيّدة لإطلاق الآية أو مخصصة لعمومها، وهذه سيأتي الحديث عنها في المحور السادس.

وعلينا أن نشير هنا إلى إنّ ثمّة ظاهرة ملفتة في روايات أسباب النزول، وهي تعددها في المورد الواحد، فكثيراً ما نلاحظ أنّ آية واحدة يذكر لها أكثر من سببٍ لنزولها، ويرد بشأنها أكثر من رواية، كما هو الحال في آية: { لا إكراه في الدين } [البقرة: 256]، فقد ذكرت الروايات عدة أسباب لنزولها[5]. وكذلك الحال في آيات الإفك[6]، وليس بالضرورة أن نعدّ هذه الأخبار متناقضة، فقد يسمح الأمر بحدوث عدة قضايا متجانسة وذات موضوع واحد تستدعي نزول آية أو آيات تتحدث عن الموضوع المذكور، والأمر ليس ممتنعاً ثبوتاً، لكنْ لا بد أنْ يخضع للفحص الإثباتي، وربما يعزى تعدد أسباب النزول إلى تعدد النزول نفسه، وهذا ممكن، ولا سيما أن بعض الآيات تكرر ذكرها في القرآن كما لا يخفى.

  1. أهميّة علم أسباب النزول

ولا شكّ أنّ لمعرفة أسباب النزول أهمية كبيرة، بحيث إنّ المفسر لا يستغني عن معرفتها والاطلاع عليها لتكوين موقف منها[7]، حتى أنّه ورد في بعض الأخبار أنّ من لا يعلم بأسباب النزول وغيرها من مبادئ التفسير ليس عالماً بالقرآن، فقد روي عن أبي عبد الله الصادق (ع): "واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني، وأسباب التنزيل... فليس بعالم بالقرآن، ولا هو من أهله.."[8]. وقد تنبه الصحابي الجليل حبر الأمة عبد الله ابن عباس إلى أهمية معرفة أسباب النزول ودورها في رفع أو تقليل الاختلاف في تفسير الآيات، حيث إنّ الجهل بها - أعني بأسباب النزول - هو أحد أسباب الاختلاف في تفسير الآيات، فعن إبراهيم التيمي قال: "خلا عمر بن الخطاب يوماً ففكر كيف تختلف الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟! فدعا ابن عباس فسأله عن ذلك؟ فقال ابن عباس: أنزل القرآن علينا فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وسيكون بعدنا أقوام يقرؤنه ولا يدرون فيما نزل فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان ذلك اختلفوا، فزبره عمر، ثم إنه أرسل اليه، فقال: أعدْ عليّ قولك، فأعاده فعرف عمر صوابه وأعجبه"[9].

وعن هذه أهميّة أسباب النزول يتحدث الواحدي النيسابوري فيقول: "هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تُصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"[10].

هذا وتعليقاً على ما ذكره النيسابوري من امتناع معرفة تفسير الآية دون الوقوف على أسباب النزول، نقول: إنّه لو أراد به أنّه مع غياب سبب النزول أو ضعف طريقه تغدو الآية مجملة إجمالاً كلياً ولا يستفاد منها أي معنى من المعاني فلا يسعنا القبول به، لأنه ينافي بيانيّة القرآن، قال تعالى: { بلسان عربي مبين }، على أنّ لازمه ذلك تجميد العمل بالقرآن الكريم وعدم الانتفاع منه بشيء سوى تلاوتها للبركة، وأما لو أراد أن سبب النزول يوّضح جانب من الصورة، ويرفع شيئاً من الإجمال فهذا صحيح ولا غبار عليها.

ويمكنك أن تقول: إنّ معرفة أسباب النزول لها فوائد جمة، فهي - بالإضافة إلى ما أشار إليه ابن عباس من ضبط الاختلاف في تفسير الآيات - تضيء على الآية وتوضح بعض مداليلها، وتساعد على معرفة بعض الغوامض أو الجوانب المجملة فيها، وهذا توضيحٌ أكثر تفصيلاً لذلك:

  • إنّ معرفة أسباب النزول لها فوائد تاريخيّة، ورجاليّة، وجغرافية، فمن خلالها نتعرّف على الأشخاص والأمكنة والأحداث، وغيرها، مثلاً عندما نقرأ قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التواب الرحيم} (التوبة: 118). فإنّ الذي يحدد لنا الثلاثة المشار إليهم في الآية هو أسباب النزول، وهكذا الحال، في قوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفنّ إن أردنا إلاّ الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطّهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين }، [التوبة: 107- 109]، فإنّ معرفة مسجد الضرار وأهله ومكانه وكذلك المسجد الذي أسس على التقوى ومكانه..لا تتم إلا من خلال ما ورد في أسباب النزول، وكذلك ما نزل في قصة زيد وزواج النبي (ص) بزوجته بعد طلاق زيد لها، قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً* وإذ تقول للذين أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} [الأحزاب: 36- 37]، فإنّ زيداً ذُكر في الآية دون إضافة أخرى توضّح هويته، كما أنّ زوجته لم تُحدد ولم تذكر باسمه أو وصفها، وكذلك ينسحب الغموض على تفاصيل القصة وزواج النبي (ص) من تلك المرأة، إنّ ذلك كلّه إنّما يعرف من أسباب النزول. وهكذا فإن أسباب الزول تكشف تفاصيل قصة الإفك وما نزل فيها من آيات معروفة. وهي أيضاً التي تحدد لنا ما جاء في سورة التحريم من حديثٍ عن زوجتي النبي (ص) اللتين أفشتا ما أسرّه لهما، هذا اللإفشاء الذي خلق مشكلة معينة دفعت النبي (ص) إلى تحريم بعض الأمور على نفسه. إلى عشرات الموارد التي تفصح وتوضح لنا أسباب النزول عن بعض الإجمال فيها، وتمكننا من فهمها بشكل جيد ومعرفة بعض إشاراتها ومعارضها
  • ومن الفوائد المهمة لمعرفة أسباب النزول: الإضاءة على بعض الجوانب ذات الصلة بمعرفة حدود الحكم الشرعي، وعلى سبيل المثال، فإنّ نفي الحرج قوله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158]، يوحي بعدم وجوب السعي، مع أنّ المعروف عند كافة فقهاء المسلمين وجوبه، ولكنْ بمراجعة أسباب النزول يرتفع الإشكال، ويتضح الوجه في التعبير المذكور، ففي الخبر سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ فَرِيضَةٌ أَمْ سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: فَرِيضَةٌ، قُلْتُ: أولَيْسَ قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ : { فَلا جُناحَ عَلَيْه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما }[البقرة: 158]، قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ إِنَّ رَسُولَ اللَّه ص شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْفَعُوا الأَصْنَامَ مِنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ فَتَشَاغَلَ رَجُلٌ وتَرَكَ السَّعْيَ حَتَّى انْقَضَتِ الأَيَّامُ وأُعِيدَتِ الأَصْنَامُ فَجَاؤُوا إِلَيْه فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ فُلَاناً لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ وقَدْ أُعِيدَتِ الأَصْنَامُ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ : * ( فَلا جُناحَ عَلَيْه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) * أَيْ وعَلَيْهِمَا الأَصْنَامُ"[11].  وروي نظيره عن السيدة عائشة[12].

ومثال آخر: إن ظاهر قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 115] أن الصلاة تجوز إلى أي جهة كانت، وهذا خلاف الإجماع وما دل من الكتاب على لزوم التوجه إلى القبلة، وبالرجوع إلى أسباب النزول يرتفع الإشكال، فقد قيل إنها نزلت في صلاة التطوع، كما ذكر الطبرسي في مجمع البيان[13]، والرواية في ذلك مروية من طرق السنة، ففي الخبر عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على راحلته تطوعا حيثما توجهت به وهو جاء من مكة إلى المدينة ، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية ( ولله المشرق والمغرب ) الآية . وقال ابن عمر في هذا أنزلت هذه الآية"[14]. وفي روايات الشيعة أنّها نزلت في قبلة المتحير، في الخبر الصحيح عن معاوية بن عمار " عن الرجل يقوم الصلاة ، ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا ، فقال [ له ] : قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة،  ونزلت هذه في قبلة المتحير { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } [البقرة: 115]"[15]. وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمة قولاً بنسخ هذه الآية، وهو ما يروى عن قتادة أنه قال في هذه الآية: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }[البقرة: 115]، هي منسوخة، نسختها { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [البقرة: 144] أي تلقاءه"[16].

  • والفوائد العقدية هي من أهم الفوائد المتحصلة من معرفة أسباب النزول. حيث إننا نلاحظ أنّ أكثر الآيات التي وردت في فضائل أهل البيت (ع) على سبيل المثال، إنما عرف حالها ونزولها فيهم مما ورد في أسباب النزول، كما في آية التطهير، وآية المباهلة، وآية التصدق بالخاتم، وآية المبيت على الفراش. وقد ألّف الحاكم الحسكاني كتاباً خاصاً في هذا المجال، وهو كتاب "شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم"، وهو كتاب مطبوع.
  • ومعرفة أسباب النزول هي من العناصر المفيدة في معرفة المكي من المدني من الآيات. وتشخيص المكي والمدني له فوائد مهمة ولا سيما في المجال التشريعي، فهو قد يساعد على معرفة الناسخ من المنسوخ، ويوضح لنا كيفية التدرج في التشريع أو في بيان الأحكام والمفاهيم القرآنية، ناهيك عن أن يساعد على معرفة حركة الرسالة ومسارها التاريخي وما واجهته من صعوبات وتحديات.   
  1. روايات أسباب النزول والحاجة إلى التدقيق

لا يخفى أنّ أسباب النزول منقولة في الأعم الأغلب بتوسط أخبار الآحاد، ولذا لا يمكن الكلام في أسباب النزول دون الرجوع إلى مصادر السنة، يقول الواحدي: "ولا يحلُّ القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطِلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار"[17]. وبالتالي فلا بدّ من تحكيم قواعد التعامل مع الخبر في تعاملنا مع روايات أسباب النزول.

وطبيعي أنّ روايات أسباب النزول هي كغيرها من الروايات تحتاج إلى بذل جهود تحقيقية نقدية في مصادرها وأسانيدها ومضامينها، لأنّ هذه الأخبار فيها الصحيح والسقيم، والغثّ والسمين، بل إننا نرجّح أنّ هذا الحقل ( أسباب النزول ) هو من المجالات التي كثر فيها الوضع والدس، لأنّ ربط أمرٍ بالقرآن هو ذو أهمية خاصة تتطلع إليه نفوس من يروم الكذب والوضع، ولذا تكون الحاجة مضاعفة إلى قراءة نقديّة فاحصة في كل التراث الخبري المندرج تحت عنوان "أسباب النزول"، ومع الأسف، فإنّ دراسة كهذه لم تحصل على حدِّ علمي، باستثناء ما قد نجده من تحقيقات في ثنايا بعض كتب التفسير، الأمر الذي دفع بعض المفسرين والأعلام إلى الإقلال من الأخذ بأسباب النزول[18].

  وقد نبّه الواحدي النيسابوري إلى وجود اختلاف في أحاديث أسباب النزول، فإنه وبعد أن بيّن تحرّز السلف عن القول في أسباب النزول بغير علم، قال: "وأمّا اليوم فكلُّ أحد يخترع شيئاً ويختلق إفكاً وكذباً ملقياً زمامه إلى الجهالة، غير مفكرٍ في الوعيد للجاهل بسبب الآية، وذلك الذي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب"[19].

ثم إنّ التوثق من سند الرواية ليس هو الأمر الوحيد الذي لا بدّ من أخذه بالحسبان قبل الأخذ بروايات أسباب النزول، فثمة أمرٌ آخر، وهو معرفة الجهة التي صدر عنها تحديد أنّ هذه الواقعة أو تلك المناسبة هي السبب لنزول هذه الآية أو تلك، فإنّ صدر ذلك عن النبي (ص) أو إمام معصوم (ع) فلا ريب في جواز اعتماده والتعويل عليه، وكذلك لو كانت القرائن والأجواء المحيطة بنزول الآية واضحة الدلالة على أن هذه الحادثة أو تلك هي سبب نزولها، فيمكن الاعتماد على ذلك حتى لو لم يرد نصٌ عنه (ص) أن هذا هو سبب نزولها، وأمّا إذا كان تعيين سبب النزول صادراً عن بعض الصحابة أو التابعين دون أن ينسبه إلى النبي (ص)، ولا احتفت أجواء النزول ببعض القرائن الدالة على أن ذلك هو سبب نزولها، فلا ملزم بالأخذ به، لأنّ اجتهاد منه، واجتهاده ليس حجة علينا.

والمعضلة الثالثة التي تواجهنا في روايات أسباب النزول، أنّ تعيين بعض المناسبات كسبب لنزول آية من الآيات يخضع في بعض الأحيان لاجتهادات نظرية، فلربما عدّ المفسر قضية معينة سبباً لنزول آية من الآيات غير معتمد على رواية تؤكد نزول الآية في هذا السبب أو ذاك، وإنما متكئاً على اجتهاده، وهذا الأمر لا حجية فيها بالنسبة لغيره، ما لم يصل الغير إلى الاجتهاد عينه، يقول الطباطبائي: "ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالبا الحوادث التاريخية ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول"[20].

  1. نماذج من الموضوعات في أسباب النزول

ولا ريب أنّ بعض الاتجاهات وضعت بعض الأخبار حول نزول بعض الآيات القرآنية المادحة أو الذامة لبعض الرموز والأشخاص، أو المسيئة لرسول الله (ص)، ولا بأس بالإشارة إلى بعض النماذج من الأحاديث الموضوعة في أسباب النزول:

النموذج الأول: قصة الغرانيق

 فمن أجلى الموضوعات في أسباب النزول: ما روي في نزول قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} [الحج: 52]، يقول الواحدي: قال المفسرون : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به ، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب به بينه وبين قومه ، وذلك لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله تعالى شئ ينفر عنه ، وتمنى ذلك ، فأنزل الله تعالى سورة – والنجم إذا هوى - فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه وتمناه ، تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها ، وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليهما ، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمدا نصيبا فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال: ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله سبحانه وتعالى ، وقلت ما لم أقل لك ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كبيرا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . فقالت قريش: ندم محمد عليه الصلاة والسلام على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه"[21].

ولا شك أنّ هذه القصة موضوعة ولا تصح عقلاً ونقلاً، وذلك:

أولاً: لو جاز أن يتكلّم الشيطان على لسان النبي (ص) لم يعدْ ثمة وثوق برسالته، فكيف لو كان ما تكلم به هو الكفر الصريح! ومن الذي يحصل له الوثوق بكل ما يصدر عن الرسول ما دام أنّ الشيطان يتمكن من أن يتسلط عليه وينطق على لسانه؟! وما يقال: من أنّ الخطأ الذي يعقبه التصحيح - كما فيما نحن فيه - ليس ممتنعاً صدوره عنه (ص)، فهو أشبه ما يكون بتبريرات ما بعد الوقوع ولا يدفع الإشكال، لأنّ من يخطأ أو يسهو في نقل الوحي الإلهي مرّة تلو الأخرى فلن ينفع التصحيح اللاحق في رفع ما يتركه الخطأ أو السهو من شكٍ في النفوس حول وصول الوحي سالماً، والوجه في عدم بقاء الشك أنّ احتمال الخطأ أو السهو يسري إلى ما يفتض أنه تصحيح للخطأ السابق. يقول السيد المرتضى: "وأما الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمنت ما قد نزهت العقول الرسل عليهم السلام عنه. هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة ضعيفة عند أصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره . وكيف يجيز ذلك على النبي صلى الله عليه وآله من يسمع الله تعالى يقول : ( كذلك لنثبت به فؤادك } [الفرقان: 32]، يعني القرآن. وقوله تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [الحاقة: 44-46] . وقوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى }[الأعلى: 6] . على أن من يجيز السهو على الأنبياء عليهم السلام يجب أن لا يجيز ما تضمنته هذه الرواية المنكرة لما فيها من غاية التنفير عن النبي صلى الله عليه وآله لأن الله تعالى قد جنب نبيه من الأمور الخارجة عن باب المعاصي ، كالغلظة والفظاظة وقول الشعر وغير ذلك مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون الله تعالى"[22].

ثانياً: إنّ القصة تضمنت تهافتاً كبيراً مع الآيات التي نزلت في سياقها وهو تهافت لن يطلي على أولئك المشركين الذين سرّهم ما نطق به النبي (ص) بشأن أصنامهم، كما يزعم الرواة، "فكيف لم ينتبه واضعوا هذه الأسطورة السخيفة حين قالوا: إن الشيطان القى على لسان رسول الله ( ص ) بعد ذكره اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، أن يقول : تلك الغرانيق العلى ، وان شفاعتهن لترتجي ؟ ! كيف لم ينتبهوا أن بعد الآية { أفرأيتم . . . } مباشرة استهزاءً بهذه العقيدة بقوله تعالى : { ألكم الذكر وله الأنثى } { تلك إذا قسمة ضيزى } ؟ ثم مجابهةٌ لهم بالاستنكار وبتكذيب زعمهم بقوله تعالى بعدها : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم * ما أنزل الله بها من سلطان } ؟!"[23].

ثالثاً: إنّ الرواية لا يمكن التعويل عليها سنداً، وذلك لأنّ أسانيدها تنتهي إلى أشخاص لم يكن أحد منهم موجوداً زمن حدوث هذه الأسطورة المزعومة ولا نقلوها عمن كان موجوداً[24].

ورفض أسطورة الغرانيق هذه لم يقتصر على علماء الشيعة، فقد رفضها جمع من أعلام السنّة أيضاً، يقول الشوكاني: "ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه، فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ، قال الله: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعن منه الوتين} [الحاقة: 44-46] وقوله: { وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3] وقوله: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم} [الإسراء: 74]، فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون . قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد متصل. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إنّ هذه القصّة من وضع الزنادقة"[25].

رابعاً: لو كان لهذه القصة أصل، فهو ما أشار إليه بعض الأعلام من أنه "محمول على أنّه كان يتلو القرآن، فلما بلغ إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها قال بعض الحاضرين من الكافرين: " تلك الغرانيق العلى" وألقى ذلك في تلاوته فـ"ظن كثير ممن حضر أنّ ذلك من قوله صلى الله عليه وآله. واشتبه عليهم الأمر لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته صلى الله عليه وآله، ويكثر كلامهم وضجاجهم طلبا لتغليطه وإخفاء قراءته"[26]. وقد أضافه الله تعالى إلى الشيطان لأنه إنما حصل باغوائه ووسوسته[27].

النموذج الثاني: ما وضع للحطِّ من مقام علي (ع)

وذك ما رواه ابن أبي الحديد، قال: " قال أبو جعفر: وقد روي أنّ معاوية بذلَ لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد }[البقرة: 204-205]، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم ، وهي قوله تعالى : { ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله } [البقرة: 207]، فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف، فقبل"[28].    

ووضوح كون هذه الرواية من الموضوعات باعتراف كل من تطرق إليها يغنينا عن تجشم العناء لبيان وضعها ودسها.

النموذج الثالث: ما ورد في سبب نزول قوله: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم }  

ورد في الصحاح عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة } [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره } [التوبة: 84]"[29].

وقد علقنا في بعض كتبنا[30] على هذا الخبر أنه لا يمكن القبول به للملاحظتين التاليتين:

الملاحظة الأولى: ما ذكره المراغي تعليقاً "على هذا الحديث بأن كثيراً من العلماء قد حكموا بعدم صحته .. وأيضاً محال أن يقول: إن اللَّه خيرني بقوله : {استغفر لهم أو لا تستغفر} لأن قوله تعالى: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } دليل قاطع على أنّ (أو) هنا ليست للتخيير، فالحديث بنفسه يدل على أنه كذب وافتراء على اللَّه ورسوله"[31]. وهذا الأمر دفع بالكثير من علماء السنة إلى التشكيك في الحديث، ومنهم من ردّه، قال العيني: "استشكل فهم التخيير من الآية حتى إنّ جماعة من الأكابر طعنوا في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، منهم : القاضي أبو بكر فإنه قال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، ومنهم: أبو بكر الباقلاني، فإنه قال في "التقريب" هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها، ومنهم : إمام الحرمين، قال في "مختصره": هذا الحديث غير مخرج في الصحيح، وقال في "البرهان" لا يصححه أهل الحديث. ومنهم: الغزالي، قال في "المستصفى": الأظهر أنّ هذا الحديث غير صحيح. ومنهم: الداودي، قال: هذا الحديث غير محفوظ"[32].

الملاحظة الثانية: "المتبادر من الآية عند الناطقين بالضاد هو أنّ عدد السبعين فيها كناية عن الكثرة، بمعنى أنّ الاستغفار لا يجدي لهم مهما بلغ عددها، سواء أكان أقل من السبعين أو أزيد منه، وهذا ما يفهمه العربيّ الصميم من الآية، ويؤيد ذلك انّه سبحانه علّل عدم الجدوى بقوله: {بأنّهم كفروا باللّه ورسوله} [التوبة 80]، والكافر ما دام كافراً لا يستحق الغفران أبداً، وإن استغفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّه مائة مرة. ولكن الظاهر من الرواية انّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم ) فهم من الآية أنّ لعدد السبعين خصوصية وانّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أقدم على الصلاة على عبد اللّه بن أُبي (وهو رأس المنافقين) إلاّ لأجل أن يستغفر له أزيد من السبعين الذي ربما تكون الزيادة نافعة لحاله! ولا خفاء في أنّه على خلاف ما يفهمه العربي الصميم من الآية، فكيف بنبيّ الإسلام وهو أفصح من نطق بالضاد"[33].

  1. أسباب النزول وقاعدة "المورد لا يخصص الوارد"

وثمّة قاعدة عامة تحكم هذا الصنف من الأخبار، وهي أنّ مناسبات النزول - في الغالب - لا توجب انحصار الآية بالمورد والسبب، لأنّ المورد أكان علّة لنزول الآية أو مناسة لذلك فهو من حيث المبدأ لا يقيّد إطلاقها ولا يخصص عمومها، فـ"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، و"المورد لا يخصص الوارد"، أجل قد أشرنا إلى بعضها قد يكون مقيداً لإطلاق الآية أو مخصصاً لعمومها، وما كان كذلك سنبحث عنه وعن شروطها في محور لاحق.

ومستند هذه القاعدة هو:

أولاً: أنّ إطلاق الآية أو عمومها حجة ولا موجب لرفع اليد عنه، لمجرد كون المورد خاصاً، ومن المعروف أنّ العديد من الآيات القرآنية قد نزلت في سبب خاص، كما في نزول آيتي الظهار واللعان في موردين خاصين[34]، ومع ذلك جرى المسلمون منذ صدر الإسلام على الأخذ بإطلاق الآيتين، واعتبروا أنّ أسباب النزول هي المنطلق[35] الذي تحركت فيه الفكرة دون أن تتجمد فيها.

وهذه القاعدة هي قاعدة عقلائية، وقد اعتمد عليها المقننون من بني الإنسان، حيث إنّ الكثير من القوانين الوضعية قد انطلقت من سبب أو جوٍ معين، تداعى لأجله المشرع ووضع القانون، ولا يتوهم أحد من العقلاء أن السبب يقيد عموم النص القانوني.

ثانياً: ويدلّ على ذلك ما ورد من أنّ القرآن باقٍ إلى يوم القيامة، وأنّه حيٌّ لا يموت، يدل عليها، وقد أوضح خبر أَبِي بَصِيرٍ عن أَبِي عَبْدِ اللَّه ( ع ) هذا المعنى، فقد سأله أبو بصير عن قوله تعالى: * ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7] فَقَالَ: رَسُولُ اللَّه (ص) الْمُنْذِرُ، وعَلِيٌّ الْهَادِي"، ثمّ أردق قائلاً: " يَا أَبَا مُحَمَّدٍ هَلْ مِنْ هَادٍ الْيَوْمَ قُلْتُ بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا زَالَ مِنْكُمْ هَادٍ بَعْدَ هَادٍ حَتَّى دُفِعَتْ إِلَيْكَ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّه، يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَوْ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَاتَتِ الآيَةُ، مَاتَ الْكِتَابُ ولَكِنَّه حَيٌّ يَجْرِي فِيمَنْ بَقِيَ كَمَا جَرَى فِيمَنْ مَضَى"[36].

ثالثاً: ويدل عليها أيضاً: ما ورد في الأخبار من أنّ القرآن نزل " بإياك أعني واسمعي يا جارة"، ففي الخبر عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "نَزَلَ الْقُرْآنُ بِإِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَةُ"[37]، وفي رواية أخرى رواها الصدوق، يسأل المأمون أبا الحسن الرضا (ع): "أخبرني عن قول الله عز وجل: { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [التوبة: 46] ؟ قال الرضا عليه السلام : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله عز وجل بذلك نبيه وأراد به أمته وكذلك قوله : تعالى: { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [الزمر: 65]"[38].

وفي الخبر عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزلت عليه: { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين }[هود: 114] قال الرجل: ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي"[39].

ولهذا قلنا سابقاً: إنّ روايات أسباب النزول هي في معظمها من الروايات المصداقية، وملاحظة هذه الموارد تساعد على ذلك أيضاً.

ثم إنّه وبملاحظة ما قلناه من أنّ أسباب النزول هي روايات مصداقية فلا نجد موجباً لما ذهب إليه بعض العلماء من التفرقة بين أسباب النزول وشؤون النزول[40]، بالقول: إنّ السبب يعني وجود مشكلة حاضرة وقائمة فعلاً استدعت نزول آية أو آيات لمعالجتها، وكان المورد علة لنزول الآية، بينما الشأن لا يفترض فيه أنّ المشكلة واقعة فعلاً في الزمن الحاضر، فلعلها حادثة في زمن غابر بيد أنها حاضرة في الأذهان بشكل أو بآخر، فتنزل الآية ناظرة إليها، كما أن المورد ليس علة لنزول الآية، ويمكن تسميتها بأجواء النزول. إنّ هذا التصنيف مع كونه صحيحاً لكننا لا نرى ضرورة له، لأنه ما دام مورد النزول ليس مخصصاً للوارد، ولا مقيداً لعمومه، فلا تترتب على التصنيف المذكور ثمرة عملية، أجل، له ثمرة علميّة، ومراعاة لهذه الثمرة العلمية فقد استخدمنا مصطلحاً يشمل هذين الصنفين، وهو مصطلح مناسبات النزول.

من كتاب: حاكمبة القرآن (دراسة تأصيلية حول علاقة السنة بالكتاب ودورها في تفسيره)

 

[1] وقد ذكر السيد محسن الأمين أسماء من ألّف من الشيعة في " أسباب النزول"، انظر: أعيان الشيعة، ج 1، ص 128.

[2] طبيعي أننا لا نصحح كل ما في هذا الكتاب أو غيره، فقد كذب العلماء بعض رواته، ومنهم الكلبي، قال السيوطي: في تفسير قوله تعالى ": * ( وإذا لقوا الذين آمنوا } [البقرة: 14]: "أخرج الواحدي والثعلبي من طريق محمد بن مروان والسدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه" إلى أن قال: "هذا الإسناد واه جدا فإن السدي الصغير كذاب وكذا الكلبي وأبو صالح ضعيف"، لباب النقول في أسباب النزول، ص 7. إلى غير ذلك من الموارد التي ردّ فيها السيوطي على الواحدي مضعفاً بعض رجال كتابه، أنظر: التمهيد للشيخ معرفة، ج 1، ص 260 – 261، وقد لاحظ الشيخ محمد هادي معرفة أن ما نقم به السيوطي على الواحدي وعابه عليه قد من اعتماد المراسيل والمجاهيل، قد تورط بما هو أضعف منه من اعتماد " المناكير وما خالف العقل والشرع في موارد من اختياراته في شأن النزول من كتابه " لباب المنقول"، التمهيد، ج 1، ص 261.

[3] وهو من مصادر بحار الأنوار، راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 2، ص 12.

[4] القرآن في الإسلام، ص 123.

[5] من المستحسن أن نذكر بعض الروايات والأقوال الواردة في ذلك:

  1. قيل: إنّ الآية نزلت في قضية ارتداد ولديْ رجل من الأنصار يكنى بـ "أبي الحصين" - وهو أحد الصحابة- عن الإسلام إلى المسيحية على يد بعض التجار الشاميين وإثر ذلك طلب "أبو الحصين" من رسول الله (ص) إجبار ولديه على الإسلام، فنـزلت الآية، فقال رسول الله (ص): "أَبْعَدَهُما اللهُ هما أولُ من كفر"، تفسير الثقلين ج2 ص234، ومجمع البيان ج2 ص162، وبذلك تكون الآية واردة صريحاً فيما نحن فيه.
  2. و"قيل نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له: صبيح، وكان يكرهه على الإسلام"، مجمع البيان ج2 ص161.
  3. وعن ابن عباس قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن عاش ولد لتهودنه، فلما أُجليت "بنو النضير" إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا! فأنزل الله: {لا إكراه في الدين} معاني القرآن للنحاس ج1 ص268.
  4. وعن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان ناس مسترضعين في اليهود (قريظة والنضير) فلمّا أمر النبي (ص) بإجلاء بني النضير، فقال نسائهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم: لتذهبن معهم ولتذنبن بذنبهم، فمنعهم أهلوهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت هذه الآية: {لا إكراه في الدين} تفسير الثعلبي ج2 ص235.

[6] فقيل نزلت في تبرئة السيد عائشة مما قذفت به، وقيل نزلت في قصة مارية القبطية، راجع ما ذكرناه حول ذلك في كتاب " تنزيه زوجات الأنبياء عن الفاحشة، ص .

[7] انظر: البرهان للزركشي، ج 1، ص 13،

[8] تفسير الصافي، ج 1، ص 39، وبحار الأنوار، ج 90، ص 4، وسنده هو التالي: " قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني رضي الله عنه في كتابه في تفسير القرآن: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال : حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي عن إسماعيل بن مهران ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه عن إسماعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.."،

[9] أنساب الأشراف 4، ص 38، شعب الإيمان للبيهقي، ج 2، ص 425.

[10] أسباب نزول الآيات ، ص 4.

[11] الكافي، ج 4، ص 435.

[12] روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى :{ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما }، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية، قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.."، صحيح البخاري، ج 2، ص 169.

[13] مجمع البيان، ج 1، ص 358، وهو رأي منقول عن قتادة، انظر: أحكام القرآن، لابن العربي، ج 1، ص 52.

[14] سنن الترمذي، ج 4، ص 274.

[15] من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 276.

[16] سنن الترمذي، ج 4، ص 274.

[17] أسباب نزول الآيات، ص 4.

[18] يقول الشيخ محمد جواد مغنية: " ونحن لا نعتمد روايات أسباب النزول إلا القليل البالغ حد اليقين أو الاطمئنان، لأن العلماء لم يهتموا بغربلتها وتمحيصها، كما فعلوا بأحاديث الأحكام، فبقيت على سقمها وعللها"، التفسير الكاشف، ج 1، ص 227، ويقول في مورد آخر: " ونحن لا نثق بشيء من أسباب النزول إلا إذا ثبت بنص القرآن أو بخبر متواتر"، التفسير الكاشف، ج 7، ص 109، ويقول الشيخ محمد هادي معرفة: " إن الطابع الغالب على أحاديث شأن النزول، هو الضعف والجهالة والإرسال، فضلاً عن الوضع والدس والتزوير"، التمهيد، ج 1، ص 259.

[19] أسباب نزول الآيات، ص 5.

[20] الميزان، ج 4، ص 74.

[21] أسباب نزول الآيات، ص 209.

[22] تنزيه الأنبياء، ص 153.

[23] أحاديث أم المؤمنين عائشة، ج 2، ص 320.

[24] أحاديث أم المؤمنين عائشة، ج 2، ص 318.

[25] فتح القدير، 3، ص 462، ويمكن الاعتراض على استدلاله على بطلان القصة بآية { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل..} بأن التقول قوانه التعمد القصدي، وهو منتفٍ في القصة.

[26] تنزيه الأنبياء، ص 154.

[27] مجمع البيان، ج 7، ص 162، وأعيان الشيعة، ج 1، ص 234.

[28] شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 73.

[29] صحيح البخاري، ج 5، ص 206، وصحيح مسلم، ج 7، ص 116.

[30] انظر: كتاب: فقه العلاقة مع الآخر المذهبي – دراسة في فتاوى القطيعة، ج

[31] التفسير الكاشف ج 4 ص 8.

[32] عمدة القاري ج 12 ص 274.

[33] الحديث النبوي بين الرواية والدراية للسبحاني ص 518.

[34] آية اللعان، نزلت في قصة هلال بن أمية، وآية الظهار نزلت في قصة، سلمة بن صخر. انظر: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 89.

[35] من وحي القرآن، ج 1، ص 29، ط ثالثة.

[36] الكافي، ج 1، ص 192، وروي هذا المعنى في تفسير العياشي، ج 2، ص 204.

[37] الكافي، ج 2، ص 631.

[38] عيون أخبار الرضا (ع)، ج 1، ص 180.

[39] صحيح البخاري، ج 5، ص 214، صحيح مسلم، ج 8، ص 101.

[40] راجع كتاب التمهيد، ج 1، ص 267.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon