حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
العلم والدين : خدمات متبادلة
الشيخ حسين الخشن



 

إلى أي حدٍ يمكن لحركة الاستنباط الفقهي والكلامي أن تستفيد من الجهود العلمية في المجالات المختلفة؟ وهل يمكن أن يكون للاكتشافات العلمية دورٌ في هذا المجال أم أنّ المفاهيم العقائدية والأحكام الشرعية لها وسائل اثبات خاصة ولا يمكن إثباتها والبرهنة عليها أو تفسيرها عن طريق العلم، فضلاً عن وضعها تحت مشرحة العلوم الطبيعية؟

 

القرآن والعلم:

 

 في إطلالة سريعة على تاريخ العلاقة بين الدين والعلم يلاحظ المتابع أنها اتسمت بطابع جدلي اشكالي، وشهدت توتراً متواصلاً على امتداد تاريخ التجربة الدينية، لكن هذه العلاقة اتخذت ـ مع الإسلام ـ مساراً مختلفاً أقل توتراً وأكثر استقراراً، ومرد ذلك في الدرجة الأولى إلى المنهج القرآني الذي أرسى أسس هذه العلاقة على مبدأ الاعتراف والتفاعل والتواصل واحترام التخصصات، وامتدح العقل التأملي واطلق العنان لحركة البحث العلمي، محارباً كل أشكال الخرافة والأسطورة أو العبثية والصدفة، مما لا يرتكز على قاعدة أو أساس علمي، ومن المؤكد أن المنهج المذكور عندما أخذ به المسلمون وامتد إلى حياتهم كان سبباً في بناء حضارة إسلامية رائدة. وعندما ابتعدوا عن الأخذ به والاعتماد عليه تخلفوا وأصبحوا عالة على الآخرين.

 

صحيح أن السلطة في الإسلام ـ دينية أو سياسية ـ لم تتخذ موقفاً سلبياً صارماً في وجه حركة البحث العلمي خلافاً لما فعلته الكنيسة مع الحركة العلمية في أوروبا في القرون الوسطى، بل يمكن القول: إن المناخ الإسلامي الإيجابي شكل مظلة رعاية وحماية للعلم والعلماء في عصر الازدهار الإسلامي، لكن مع ذلك لا يمكن التنكر لحقيقة مُرّة وهي أن العقل السلفي الذي اتسم بالجمود والقشرية كان على الدوام متوجساً من كل المستجدات والتطورات العلمية، بسبب عجزه عن رفع الالتباس بين مفهومي الابداع والابتداع، الأمر الذي أبقى جدلية العلم والدين مفتوحة وقيد التداول في العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، مع أن المفروض أن تكون المسألة قد حسمت منذ زمن بعيد ووضعت لها الضوابط والمعايير الفاصلة بين حدود العلم والدين، ولذا نجد أن كبار علماء الخط السلفي ما زالوا ـ أو البعض منهم ـ إلى يومنا هذا غير مقتنعين بكروية الأرض أو حركتها حول نفسها وحول الشمس، مع أن هذه القضايا أصبحت في عداد المسلّمات العلمية.

 

مجال العلم والدين:

 

واعتقد أنّ فك الاشتباك بين العلمي والديني أو بالأحرى بين ما هو من صلاحيات عالم الدين وما هو من صلاحيات علماء الطبيعة ينطلق من الاقرار بالقاعدة التالية وهي: أن تفسير الظواهر الكونية وتحليل العناصر الطبيعية وبيان خصائصها وآثارها وعلاقة بعضها بالبعض الآخر ليس من مهام القرآن ولا أهداف منزله، وإن تضمن ـ أعني القرآن ـ بعض الاشارات العلمية، وعليه فالمرجع في قضايا العلوم الطبيعية ليس علماء الدين وإنما أهل الاختصاص في هذه المجالات، فعندما نواجه ظاهرة من الظواهر الطبيعية كالخسوف أو الكسوف أو الفيضنات أو الزلازل أو ارتفاع درجة حرارة الأرض أو ما إلى ذلك فليس من المنطقي أن نتوجه إلى الكتب الدينية ـ بما في ذلك القرآن ـ أو إلى علماء الدين لتفسير هذه الظاهرة أو التخفيف من آثارها أو الاحتراز منها، وإنما نلجئ إلى أهل الاختصاص، والقرآن نفسه أمر بذلك في قوله تعالى :{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} نعم لرجل الدين أو القانون أو الأخلاق أن يبدي رأياً في المجال التطبيقي أعني في توجيه وترشيد عملية الاستفادة من التقنية العلمية، لأن المفروض بحركة البحث العلمي أن تكون هادفة وليس عابثة، وأن تسعى لخدمة الإنسان والحياة، وأن لا تتحرك وفق منطق "طلب العلم للعلم" فإنه منطق يؤدي إلى كوارث إنسانية وبيئية.

 

وإنه لمن دواعي الأسف أن تجد العقل الإسلامي مشغولاً لدى الإعلان عن أي اكتشاف علمي بالبحث والتفتيش عن "سند شرعي" لهذا الاكتشاف والتفكير في مدى انسجامه مع التعاليم أو المفاهيم أو النصوص الدينية، ومردّ ذلك إلى أنّ هذا العقل مسكون برؤية خاطئة عن الدين، ومفادها: أن القرآن كتاب يشتمل على كل شيء من علوم الدين فضلاً عن الآخرة، كما أن انشغال البعض في مهمة التفتيش عن نص ديني يلمّح أو يشير من قريب أو بعيد إلى هذا المنجز العلمي أو ذاك والاستنتاج ـ في حال العثور على هكذا نص ـ أن الإسلام سبق العلم والعلماء إلى اكتشاف هذا المنجز، إن هذا إنما يعبر عن عقدة نقص سببها العجز عن الالتحاق بركب النهضة العلمية الناشطة، ويتم تلافي هذا النقص والتعويض النفسي عنه بالادعاء المذكور حول أسبقية الإسلام إلى هذا الاكتشاف. إذا كان النص الإسلامي القرآني أو السُنّتي قد تنبأ وأشار إلى هذا الانجاز العلمي أو ذاك فإنّ على المسلمين أن يكونوا السّباقين إلى اكتشافه ونيل براءة اختراع بشأنه، بدل التبجح حول "أسبقيّتنا" في شتى العلوم والمعارف، فإنها أسبقية فارغة ولفظية لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

دور العلم في بناء العقيدة:

 

وفي ضوء ما تقدم لا يبقى ثمة مبرر للقلق أو الخوف الديني من التطورات والمستجدات العلمية، وفي المقابل ليس لعلماء الدين سلطة ولا للدين قيود على حركة البحث العلمي الا في حدود الضوابط الأخلاقية المتقدمة والتي تتلخص بعنوان واحد وهو هدفية النشاط العلمي، هذا ما يريده الإسلام ويقدمه للعلم، ولكن ماذا يمكن للعلم أن يقدم للدين؟

 

اعتقد أنه يمكن للجهود والاكتشافات العلمية أن تقدم الكثير للمعارف الدينية سواء ما يتصل منها بالحقل التشريعي أو العقائدي، فعلى المستوى التشريعي تقوم البحوث العلمية بدورٍ مهم في تحديد موضوعات الأحكام الشرعية، كتحديد مفهوم وحقيقة الموت الدماغي أو ولادة الهلال أوغير ذلك من الموضوعات. وأما على المستوى الاعتقادي فإن بالإمكان الاستفادة من المعطيات العلمية على أكثر من صعيد وهذه الأصعدة بعينها تنطبق على المجال التشريعي.

 

تعزيز وتأكيد:

 

الصعيد الأول الذي يمكن الاشارة إليه في المقام هو دور المستجدات العلمية في تعزيز وتأكيد المفاهيم العقدية واثبات مقدماتها، ونذكر في هذا المجال مثالين:

 

ـ المثال الأول: إنّ برهان النَظْم يمثل أحد أهم البراهين على إثبات وجود الله ووحدانيته ويتألف هذا البرهان من مقدمتين: إحداهما حسية، وهي: إنّ هذا الكون يقوم على نظام متكامل ومترابط، والثانية عقلية، ومفادها: أن النظم يدل على وجود المنظم، كما أنّ وحدة النظم تدل على وحدانية المنظم، ومن الواضح أنّ المنجزات والمعطيات العلمية المستجدة تعزز وتؤيد هذا البرهان في مقدمته الأولى ما يجعله برهاناً حيوياً متجدداً يستلهم روح العصر بالأرقام والشواهد العلمية الحديثة، بدل أن يعتمد على شواهد عفى عليها الزمان.

 

ـ المثال الثاني: يدور حول إمكانية الاستفادة من تقنية الاستنساخ في تأكيد وتعزيز عقيدة دينية أساسية هي عقيدة المعاد، فإن عقيدة المعاد كانت على الدوام تواجه سؤالاً استبعادياً تعجبياً فحواه: أنّى لهذا الجسد بعد تحلله واستحالته تراباً أن يُبعث من جديد؟ قال تعالى في الإشارة إلى هذا الاعتراض {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}(يس:78)، وكان الجواب على هذا الاعتراض{قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}(يس:79)، واليوم وبعد أنّ أثبتت التجارب العلمية أنّ بمقدور الإنسان نفسه أن يعمل على استنساخ أو استيلاد إنسان أو حيوان بأخذ جينة من خلايا هذا الإنسان لا تُرى بالعين المجردة ثم العمل على تخل
يقها اعتماداً على تقنية الاستنساخ، أفلا يكون بمقدور الخالق القادر مبدع الكون وواهب الحياة أن يعيد إحياء الإنسان وبعثه من جديد؟!

 

تفسير وتوضيح:

 

الصعيد الثاني: إن حركة التطور العلمي قد اسهمت في تفسير المفاهيم الدينية وما تضمنته النصوص القرآنية من إشارات إلى بعض القوانين أو المنجزات العلميّة، فقد كانت التفسيرات التي تقدّم  لهذه الآيات غير مقنعة، لكن تطور العلوم وتقدمها استطاع تقديم تفسيرات مقبولة، وهذا الأمر لا يخدش بما قلناه من أنّ القرآن ليس كتاباً في علوم الطبيعية، لأن ما ورد في القرآن هو مجرد إشارات جاءت في سياق بيان الأهداف القرآنية الرسالية، والأمثلة على ذلك كثيرة من قبيل: الإشارة إلى بصمة البنان في قوله تعالى {بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} أو الاشارة إلى قانون انخفاض الضغط الجوي في طبقات الجو في قوله تعالى{ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعد في السماء} أو الاشارة إلى قانون الزوجية في قوله تعالى {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}(الذاريات:49)، إلى غير ذلك من الاشارات التي ندعو إلى دراستها بتأنٍ بعيداً عن المبالغة أو الهوس الذي وقع فيه بعض المنشغلين بالعمل على إيجاد سند قرآني يرضي ميلهم ونزوعهم النفسي بشأن اسبقية المسلمين في كل الميادين، فتراهم يعمدون إلى لَيّ عنق النص القرآني وتأويله بطريقة بعيدة كل البعد عن قواعد اللغة ومعايير البلاغة، ويزداد الأمر غرابة عندما يتم تطويع الآيات وتفسيرها وفق نظريات أو آراء لا ترقى إلى مستوى الاعتبار العلمي.

 

محاكمة النصوص:

 

وعلى صعيد ثالث فإن الدور الأهم الذي تلعبه حركة البحث العلمي هو أنها تشكل ضابطاً ومعياراً في محاكمة الروايات، انطلاقاً من مسلمة أنّ وحي الله لا يمكن أن يتنافى مع سننه في الخلق، أو لنقل أن عالم التدوين لا بدّ أن يكون مرآة صافية لعالم التكوين، وفي ضوء ذلك: فكل خبر يتعارض وحقيقة علمية لا بدّ من رفضه وفي الحد الأدنى رسم علامة استفهام حوله والتشكيك في صدوره عن مصدر الوحي، من قبيل الروايات التي تتحدث عن أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوماً أو الروايات التي تصف الإنسان الأول لجهة طوله وعرضه بطريقة خيالية تجعل رأسه يناطح السحاب.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon