حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
تزوير المفاهيم الدينية واغتيال العقل المبدع
الشيخ حسين الخشن



 

بالعودة إلى الجمود الذي أصاب علم الكلام لقرون طويلة، فإنه ـ وفق ما نعتقد ـ لم يفقده حيويته الاجتهادية وقدرته الذاتية على التجدد شكلاً ومضموناً فحسب، بل أضعف من وظيفته الأساسية في الرصد المستمر والعمل على حياطة الدين بمنع تسلل المفاهيم الدخيلة أو اجتياح الأفكار المشوّهة، والعمل على غربلتها وتصحيحها، ووضع الحدود الفاصلة بين الحقائق والأوهام، والمقدس والنسبي، والثابت والمتغير.

 

إن انكفاء أو نأي علم الكلام عن القيام بهذه المهمة المزدوجة: التجديدية والرصدية، أدى ـ في نهاية الأمر ـ إلى انكفاء الإسلام نفسه عن التأثير المطلوب والتغيير المرجو في واقع الأمة، وفسح في المجال أمام أمرين خطيرين وهما:

 

1 ـ غزو الفكر الآخر واجتياحه لقطاعات واسعة من أبناء الأمة.

 

2 ـ انبعاث الفكر السلفي المتحجر محملاً ومعبأ بكل هموم الماضي ومشاغله.

 

هذه الأجواء هيأت لانتشار جملة من المفاهيم العقدية المحرَّفة والمزوّرة، التي تمّ تثميرها بطريقة مغايرة لحقيقتها، ومضادة لروح الدين ومقاصده وأهدافه.

 

غياب منطق الأسباب والمسببات:

 

ولعل واحداً من أخطر هذه المفاهيم العقدية التي طاولتها يد التشويه والتحريف هو مفهوم التوحيد الافعالي أو الفاعلي الذي تمّ تفسيره بطريقة مصادمة لسنة رئيسة من سنن الله في الخلق، بل قل : مصادمة لأهم قانون ارتكزت عليه البشرية في نهضتها وتطورها، أعني به قانون العلية والمعلولية، المعبّر عنه في بعض المأثورات بجملة "إن الله أبى أن تجري الأمور إلاّ بأسبابها". إن هذا القانون الذي تدين له الإنسانية في كل معارفها وحضارتها، قد تمّ رفضه من قبل بعض الفرق الكلامية الإسلامية الكبيرة. وذلك بزعم منافاته مع عقيدة التوحيد، فانك لو اعتقدت بأن النار هي سبب الإحراق أو علة الحرارة فقد أشركت بالله وجعلت في الكون مؤثراً غيره، والصحيح ـ في نظر هؤلاء ـ أن الذي أوجد الحرارة أو الإحراق هو الله ولا دخل للنار في ذلك إطلاقاً، غاية الأمر أن عادته تعالى جرت على إيجاد الحرارة عند وجود النار دون أن تكون هناك رابطة بين الأمرين، أعني النار والحرارة، أو الشمس والضياء، وهكذا فالإنسان إذا أكل حتى شبع فإنه لا يشبع بسبب الأكل وإنما شبع عند الأكل، وإذا كسر زجاجة فهي لم تنكسر بكسره، بل عند كسره، فالمسألة مسألة اقتران لا سببية، يقول صاحب جوهرة التوحيد، وهي منظومة في العقيدة الأشعرية:

 

والفعل في التأثير ليس إلا          للواحد القهار جلّ وعلا
ومن يقل بالطبع أو بالعلة          فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعةِ           فذاك بدعي فـلا تلتفـتِ

 

وإنكار التأثير والسببية لا يقتصر على الظواهر الطبيعية والجمادات والحيوانات، بل يمتد إلى الإنسان نفسه، فإن أفعال هذا المخلوق العاقل ليست تحت قدرته ولا هو الموجِد لها، بل لو اعتقد أنه الموجد لما يصدر عنه من أفعال سواء الطاعات منها أو المعاصي، فقد أشرك بالله وجعل له نداً، والصحيح ـ في نظر هؤلاء ـ أن الخالق لأفعال العباد هو الله، والعبد مجرد محل لها. يقول الشريف الجرجاني في شرح المواقف:" إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، والله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختباراً... فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري"(شرح المواقف: 8/146).

 

إن هذا الاعتقاد المزوّر  الذي ينسف مبدأ العلية  أدّى إلى اغتيال الإبداع لدى العقل العربي، لأنه تضمن دعوة صريحة لا لبس فيها إلى تجميد العقول عن التفكير في علل الأشياء وأسبابها، فليس عليك بل ليس لك أن تفكر في علة المرض أو الكسوف أو الخسوف أو غيرها من الظواهر الطبيعية، لأنّ علة ذلك كله هي الله ولا رابطة بين الظاهرة وما يرى من آثارها. فارتفاع حرارة المريض لا علاقة لها بالمرض، وإنما هو محض تقارن اتفاقي، وهكذا الحال في سائر الأمثلة.

 

إن هذا المنطق إذا ما ساد في أمة من الأمم فلا تسأل بعد ذلك عن سرّ تخلفها وتقهقرها وتبدد طاقاتها وتفشي الجهل فيها. ولعل هذا هو ما حدا بأحمد أمين، الكاتب المصري المعروف، أن يتمنّى عودة الفكر المعتزلي إلى الحياة الإسلامية، لأنه لو ظل سائداً، "لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم الضعف وشلهم الجبر وقعد بهم التواكل"(ضحى الإسلام: 3/70).

 

القرآن وقانون العلية:

 

والحقيقة أن الأمر لا يتوقف على استعادة مذهب الاعتزال أو الفكر المعتزلي، بل على إحياء المنطق القرآني واستحضاره، فإن هذا المنطق يؤكد وبوضوح على قانون العلية وإسناد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية، والآيات القرآنية التي تسند الأفعال إلى ظواهر طبيعية أو إلى إرادة الإنسان كثيرة، ولا مجال لاستعراضها في المقام، وعلى سبيل المثال: فإن قوله تعالى:{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}(البقرة:261)، يدل بوضوح على استناد نبات السنابل إلى نفس الحبة، وهكذا عندما نقرأ قوله تعالى:{إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد:11)، فإننا نستلهم منها صراحة أن الإنسان هو الذي يصنع الأحداث ويغيّر مجرى التاريخ، وأنه ليس مجرد ريشة في مهب الريح. وقد عبر عن هذا المعنى الحديث المروي عن الإمام الصادق(ع) خير تعبير، قال (ع):" أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً..."(الكافي1/183).

 

إن الغفلة القاتلة التي وقع فيها هؤلاء هو عجزهم عن المواءمة بين قانون العلية ومبدأ التوحيد الفاعلي، فتخيلوا أن معنى التوحيد المذكور هو أن الله سبحانه هو العلة المستقلة والمباشرة لكل الأحداث الكونية، الأمر الذي اضطرهم إلى رفض قانون السببية أو العلية، مع أن الاعتقاد بوحدانيته تعالى في الخالقية  وجعل التأثير بيده، لا ينفي التأثير عن سائر العلل الطبيعية، لأن تأثير هذه العلل ليس على نحو الاستقلال بل هو يستند في نهاية المطاف إليه تعالى، فتأثيرها في طول تأثيره لا في عرضه، وهوـ أي الله ـ الذي أوجد فيها خصوصية التأثير، فجعل في النار خصوصية الإحراق وفي الشمس خصوصية الإشراق، وهكذا في سائر الأمثلة، ما يعني أن مبدأ العلية أو السببية ليس فقط لا ينافي التوحيد بل يؤكده وينسجم معه تمام الانسجام.

 

بين التوكل والتواكل:

 

وغير بعيد من هذا السياق فقد حصلت غفلة أخرى عن المغزى الحقيقي لمبدأ التوكل على الله والاعتماد عليه في كل الأمور كطلب الرزق أو الشفاء أو الأولاد أو النصر...

 

فقد خيّل للكثيرين أن التوكل يتنافى واللجوء إلى الأسباب الطبيعية، وهذا التخيل هو الذي مهد لانتشار ثقافة الاستشفاء بالأحراز أو القرآن، وطلب الرزق أو النصر بمجرد الدعاء والتوسل، وبعيداً من الأخذ بأسباب ذلك، مع أن المتأمل في سيرة المسلمين الأوائل قبل غيرهم، يدرك أن ما توصلوا إليه من انتصارات على مختلف الجبهات وفي شتى الميادين العلمية والعسكرية والطبية... إنما كان ثمرة طبيعية لاعتمادهم مبدأ الأخذ بالأسباب، فهم لم يفهموا من قوله تعالى:{وإذا مرضت فهو يشفين}(الشعراء:80) أنه دعوة إلى ترك التداوي بالطرق الطبيعية، وإنما فهموا أنه يشفي من خلال الأسباب الطبيعية، وهكذا الحال في الرزق والنصر وطلب الولد... فإن جعل هذه الأمور بيده تعالى لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب، ولذا أمر سبحانه بإعداد القوة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}(الأنفال:60) ، وأمر النبي(ص) والأئمة بالتداوي والتكسب، بل خرجوا بأنفسهم في طلب الرزق ومواجهة العدو...

 

النظرة التبخيسية للدنيا:

 

ومن علامات وأمارات التشوه المفاهيمي: اختلال النظرة المتوازنة للدنيا والآخرة، وحسبان أنّ طلب علوم  الدنيا لا يتناسب مع التدين ولا ينسجم مع التقوى، اعتماداً على رؤية مجتزأة لمفهوم الزهد، وقراءة خاطئة للمأثورات الدينية التي تزهد في الدنيا وتذم التعلق بها، الأمر الذي أسس لنظرة تفاضلية بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فعلوم الدين سواء ما يربط منها بالجانب المعرفي أو القانوني أو الأخلاقي، أشرف وأكمل من سائر العلوم، وهذه الفكرة وإن كانت صحيحة في الجملة وبشرطها وشروطها، بيد أن الأمر تجاوز حد التفاضل ـ الذي يتضمن اعترافاً بالاشتراك في الفضل مع ميزة للفاضل على المفضول ـ إلى حد التبخيس من شأن سائر العلوم والتزهيد بها، حتى غدا الاشتغال بعلم الطب أو الفلك غير لائق بالإنسان الإلهي كما يعتقد صدر الدين الشيرازي...

 

إننا وأمام هذا النمط من التفكير الذي يبخس العلوم حقها، ويهمش دورها، لا يسعنا سوى القول بأسى: إنه مخالف لمنطق القرآن الكريم، الذي حارب الجهل والخرافة، واعتنى بالعلم النافع ودعا إلى السير التأملي في الآفاق والأنفس والنظر في كل المخلوقات، لاكتشاف أسرارها وخصائصها، فاتحاً بذلك الباب واسعاً أمام كل المعارف والعلوم النافعة للإنسان في دينه أو دنياه، وقد عبّرت عن هذه النظرة المتوازنة للدنيا والآخرة كلمة علي(ع) الخالدة "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، وفي الحديث النبوي:"العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان" وفي حديث آخر عن علي(ع):" العلوم أربعة: الفقه للأديان والطب للأبدان والنحو للسان والنجوم لمعرفة الزمان"(بحار الأنوار1/218).

 

إن الغفلة عن هذه الحقيقة والتشوّه الذي أصابها، أساء للإسلام وأثر في شكل سلبي على واقع المسلمين.

 

من علامات وأمارات التشوه المفاهيمي: اختلال النظرة المتوازنة للدنيا والآخرة، وحسبان أنّ طلب علوم  الدنيا لا يتناسب مع التدين ولا ينسجم مع التقوى، اعتماداً على رؤية مجتزأة لمفهوم الزهد، وقراءة خاطئة للمأثورات الدينية التي تزهد في الدنيا وتذم التعلق بها.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon