حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> فكر ديني
الخطاب العاشورائيّ: قراءة في المفهوم والمصادر
الشيخ حسين الخشن



لا نبالغ عندما نقول إنّ نهضة الإمام الحسين(ع) كانت نهضةً إنسانيّةً بامتياز، إنسانيّةً في أهدافها ومنطلقاتها وفكرها ورسالتها، وهي تحمل كلّ عناصر الفكر الإنسانيّ، وكلّ القيم الإنسانيّة المتسامية. وإنَّ النّهضة الإنسانيّة بحاجةٍ في استمراريّتها ودوام تأثيرها، إلى خطاب إنسانيّ يحمل قيم هذه النّهضة، ويبشّر بها وينشرها بين النّاس، فإذا ما افتقدت أيّ نهضة مثل هذا الخطاب الإنسانيّ، فإنّها بالتّأكيد ستنتهي وسيؤول أمرها إلى الزّوال.

 

والسّؤال: هل إنّ الخطاب العاشورائيّ ارتقى إلى مستوى هذه النّهضة ومشروعها وحمل قيمتها الإنسانيّة ورسالتها الإسلاميّة؟

 

الإنصاف يقتضي منّا القول بأنَّ الخطاب العاشورائيّ، رغم إيجابيّاته الّتي لا يمكن إنكارها، لم يرق إلى مستوى النّهضة، بل إنّه عرف الكثير من الإخفاقات والسّلبيّات.

 

الخطاب العاشورائيّ:
 
وفي البدء، لا بدّ من أن نشير إلى أنّ الخطاب العاشورائيّ، لا نقصد به ما يتلوه قارئ العزاء أو الخطيب الحسينيّ فحسب، فما يتحفنا به قارئ العزاء، هو جزء مهمّ ومصداق بارز لهذا الخطاب العاشورائيّ، لكنّه لا يختصره، بل إنّ كلَّ جهدٍ شفهيّ أو كتابيّ، سرديّاً كان أو تحليليّاً، أدبيّاً أو نثرياً، قصصيّاً أو فنيّاً... إنّ كلّ جهدٍ إنسانيّ من هذا القبيل، هو خطاب يعكس هذه النّهضة وأهدافها.
 
 وفي ضوء ذلك، يغدو كلُّ واحدٍ منّا معنيّاً بهذا الخطاب ومنتجاً له، فعندما تشرح لصديقك معنى النَّهضة وأهدافها وشخصيَّة رجالاتها، فأنت تقوم بخطابٍ عاشورائيّ، وكذلك الأستاذ الّذي يشرح لطلابه أهداف هذه النَّهضة الإنسانيَّة، والفنّان الّذي يرسم بريشته لوحةً لمشهدٍ عاشورائيّ، أو الفنّان الّذي ينتج فيلماً عن هذه النّهضة... إنّ هؤلاء يساهمون في تقديم خطابٍ عاشورائيّ.
 
في ضوء هذا البيان والتّعريف للخطاب العاشورائيّ، لا يشكلنَّ أحدٌ علينا بأنّه ما الدّاعي لطرح قضيّة الخطاب العاشورائيّ من على هذا المنبر الّذي يخاطب الجمهور العام، فهذا الإشكال ليس في محلّه:
 
أولاً: لأنّنا كلّنا معنيّون بالخطاب العاشورائيّ، وكلّنا يمكن أن نساهم في تقديمه، كما أسلفنا.
 
ثانياً: لأنّ الجمهور العاشورائيّ لا يجوز أن يبقى جمهوراً مستمعاً ومتلقّياً فحسب، بل لا بدَّ من أن يكون جمهوراً مشاركاً بفاعليّة، وعندما يستمع، فعليه أن يستمع بعقلٍ مفتوح وبأذنٍ واعية... ففي الحديث عن أبي جعفر(ع): "من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده، فإن كان النّاطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان النّاطق يؤدّي عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان".
 
إنَّ الجمهور العام معنيّ بأن يفتح عقله ويقيّم كلّ ما يُلقى عليه، فأنتم، أيُّها الأحبّة، لستم مجرّد أشخاصٍ تستمعون وتصدّقون كلّ ما يُلقى عليكم، أنتم أجلّ من ذلك، علينا جميعاً أن نكون أصحاب عقلٍ ووعي وتحليل.

 

مزايا الخطاب العاشورائي:
 
في ضوء هذا التّعريف للخطاب العاشورائيّ، أدخل الآن إلى تقييمه، فكما قلت، إنّه يحمل الكثير من الإيجابيّات، ويمتلك الكثير من العناصر الجيّدة:
 
الإيجابيَّة الأولى: أنَّه يمتلك قدرةً على الاستقطاب الجماهيريّ قلَّ نظيرها، فقد لا تجد شخصاً مهما كان متفوِّهاً يستطيع أن يستقطب النَّاس كما يستقطبهم الخطيب الحسينيّ والمنبر الحسينيّ، وقد لا يكون منشأ هذه القدرة على الاستقطاب هو قوّة الجذب في الخطاب العاشورائيّ، بل المنشأ هو حرارة القضيَّة، "إنَّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً"، هذه الحرارة هي الّتي تمتلك هذه القوَّة من الجذب.
 
والإيجابيَّة الثَّانية: هي دوره الاستنهاضيّ والتَّعبويّ، فهو كان ولا يزال قادراً على استنهاض الأمَّة وتعبئتها، ودفعها نحو الحركة والثَّورة، وربَّما في هذا السّياق، جاءت كلمة الإمام الخميني المعروفة: "كلّ ما عندنا فهو من كربلاء ومن عاشوراء".
 
أمَّا الإيجابيَّة الثَّالثّة: للخطاب العاشورائيّ: فهي دوره الثَّقافيّ والتَّنويريّ، فنحن لا ننكر أنَّ بعض الخطباء العاشورائيّين والعلماء المفكّرين، ممن تحدَّثوا وكتبوا عن الثَّورة الحسينيّة، يمتلكون خطاباً تنويريّاً تثقيفيّاً، ولعلّ صاحب هذا المنبر، العلامة الرّاحل والفقيه المجدّد، السيّد محمد حسين فضل الله، كان إمام التّنويريّين في هذا العصر بامتياز.
 
 هذه، أيّها الأحبة، بعض الخصائص الإيجابيّة للخطاب العاشورائيّ

 

السّلبيَّات والثَّغرات:
 
وإلى جانب هذه الخصائص الإيجابيَّة، هناك إخفاقات وسلبيّات، لا بدَّ من أن نشير إليها بهدف تلافيها وتصحيحها، بما يخدم أهداف النّهضة الحسينيّة:

 

السّلبيّة الأولى: إنَّ هذا الخطابَ لا يزال في الأعمِّ الأغلب خطاباً مذهبيّاً، يحبس الإمام الحسين(ع) ونهضته في إطارٍ مذهبيٍّ ضيِّقٍ، ليغدو إمام الطّائفة وإمام الجماعة، وليس إمام المسلمين، فضلاً عن أن يكون إمام الإنسانيّة.

 

السَّلبيَّة الثَّانية: إنَّ هذا الخطاب لا يزال خطاباً عاطفيّاً بامتياز، ويطغى عليه المنحى العاطفيّ الّذي يستهدف إبكاء النّاس، ليغدو ذلك هدفاً للخطيب الحسينيّ، ومقياساً لنجاحه.

 

السَّلبيَّة الثَّالثة: إنَّ الخطاب العاشورائيّ يعتمد التَّسامح والتَّساهل في العرض التَّاريخيّ، ليس هناك في الأعمّ الأغلب تدقيقٌ في مصادر التَّثقيف العاشورائيّ، ولعلَّ غلبة المنحى العاطفيّ المشار إليه، هي الّتي أدَّت إلى التَّسامح في
قراءة المصدر التَّاريخيّ، لأنَّه إذا كان الغرض هو إبكاء الجمهور، فلا بدَّ من أن يتوسَّل الخطيب كلَّ شيءٍ يستدرّ الدَّمعة، بصرف النَّظر عن صحّته أو عدم صحّته.

 

 

أيّها الأخوة، ما أبتغيه في هذه الكلمة، هو التَّركيز على هذه السلبيَّة الثَّالثة، أي التّسامح في مصادر الخطاب العاشورائيّ، لأنّي أعتقد أنَّ لهذا الأمر سلبيَّاتٍ كثيرةً ونتائج خطيرة على الوعي وعلى صورة الإمام الحسين وهدفيّة ثورته.

 

لهذا، لا بدّ لي أوّلاً من أن أبيّن ما هي المصادر الصّحيحة والمعتبرة للثّقافة الحسينيّة والعاشورائيّة، ثم أبحث ثانياً عن المصادر غير المعتبرة:

 

المصادر المعتبرة للثقافة العاشورائية:
 
أمّا المصادر المعتبرة، والّتي ينبغي أن تتثقّف الأمَّة على أساسها، لأنَّ التّثقيف مسؤوليّة، وهي مسؤوليّة مشتركة بين الخطيب الّذي يقوم بتثقيف النّاس، والمستمع الّذي لا بدَّ له من أن يعرف كيف يتثقَّف وعمَّن يأخذ ثقافته، فإنَّ المصادر المعتبرة للثّقافة العاشورائيّة وللثّقافة الإسلاميّة عموماً هي:
 
أوّلاً: القرآن الكريم ويأتي على رأس هذه المصادر، فهو المصدر الأوّل للثّقافة الإسلاميّة، بل يمتاز بأنّه المرجع الّذي تُحاكم على ضوئه كافّة المصادر مما ستأتي الإشارة إليها.
 
وإذا لم يكن هناك شكٌّ في أنَّ القرآن الكريم هو مصدر الثَّقافة الإسلاميَّة الأوّل، فإنَّ المهمّ أن نعرف كيف نفهم القرآن، وكيف نقدّمه إلى النّاس، لأنّ البعض ربما يفتح بعض الأبواب في تأويل القرآن، مما هي في حقيقتها خروجٌ عن ظاهر القرآن، بل ربّما كانت تحريفاً للقرآن. فمثلاً، تسمع في بعض الأحيان من يفسِّر لك قوله تعالى في "كهيعص": الكاف هي كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد، والعين عطش الحسين، والصّاد صبر الحسين... ونحن نتساءل: ما مصدر هذا الكلام؟ فإنَّ القرآن الكريم ليس ألغازاً ولا أحاجي، القرآن الكريم هو بيان وتبيان للنّاس، كما هو نصّ الآيات الكريمة، وهل أئمّة أهل البيت اعتمدوا هذا المنهج التأويلي في تفسير القرآن؟ بالطّبع لم يعتمدوا هذا المنهج. عندما سُئل بعض الأئمّة: إنّ بعض أصحابك يقولون في تفسير قوله تعالى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة:90]: فهل الخمر والميسر يقصد بهما رجال، واجتنبوه يعني اجتنبوا فلاناً وأبغضوا فلاناً؟.. فماذا علّق الإمام؟ قال: "ما كان الله ليخاطب خلقه بما لا يعلمون"، أي إنَّ الله أجلّ من أن يخاطب قومه بما لا يعقلون وما لا يفقهون. إذاً القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للثّقافة الإسلاميّة.
 
ثانياً: المصدر الثّاني للثّقافة العاشورائيّة الإسلاميّة هو السنّة، وأقصد بالسنّة هنا ما يشمل السّيرة والتّاريخ الصّحيح، ولكن حتَّى يجدر بنا أن نثقِّف النَّاس بالسنَّة، لا بدَّ من التوثّق منها، وأن تكون معتبرة.
 
والاعتبار هنا، أيّها الأحبّة، ليس بالضّرورة أن يكون بالمعنى الفقهيّ للاعتبار، يعني أن نمتلك حديثاً صحيحاً يرويه الثّقاة، لأنّه إذا كان الأمر على هذه الشّاكلة، فأكثر الخطباء لا بدَّ من أن يتوقّفوا عن صعود المنبر، إذ كلّ روايةٍ أو قصّةٍ يراد نقلها، لا بدَّ من أن تكون واردةً في سندٍ صحيح، وهذا ما لا يتيسّر غالباً.
 
بل إنّنا قد نكتفي بالاعتبار التّاريخيّ عندما لا تتّصل القضيّة بمفهومٍ عقيديّ أو حكمٍ شرعيّ، ونقصد بالاعتبار التّاريخيّ، أن يكون للحادثة الّتي ننقلها إلى النّاس مصدر تاريخي معتبر.
 
 ولكن عندما نقول بأنّ السنّة هي مصدر للثّقافة العاشورائيّة، فإنَّ لذلك شروطاً وضوابط، فالخبر والسنّة والحديث المعتبر، إنَّما يكون حجّةً بشرط أن لا يعارض كتاب الله، ولا يعارض العقل الفطريّ، ولا يعارض المسلّمات العلميّة، فالخبر الّذي يعارض القرآن الكريم لا يساوي فلساً، حتّى لو كان صحيح السّند، فضلاً عمّا إذا لم يكن صحيح السّند.
 
ولهذا، لا بدَّ من أن نتوثّق من الأخبار لتكون منسجمةً مع المفاهيم القرآنيّة، عندما يقدّم لنا الخطيب حديثاً أو قصّةً فيها ما يهتك حرمة الإمام الحسين(ع) وينافي عزّته وكرامته، فلا يمكن قبول ذلك.
 
 إنّ أيّ خبرٍ يخدش حرمة مؤمنٍ عاديّ، فضلاً عن أن يخدش حرمة نبيّ أو وليّ، يُضرب به عرض الحائط، لأنّه يُنافي الكتاب الكريم الّذي أكّد كرامة الإنسان وعزّة الرّسول وكرامة المؤمن: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:70]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8].
 
عندما يأتيني خبر على سبيل المثال يذمّ بعض الأقوام وبعض الشّعوب وبعض الأعراق، هذا لا بدّ من طرحه، يوجد لدينا بعض الرّوايات تقول: "إنّ الأكراد حيّ من الجنّ كُشف عنهم الغطاء"، فمثل هذه الأخبار تنافي روح القرآن ومفاهيمه الأصيلة الّتي جاءت لتقول: لا فرق بين مسلمٍ وآخر، بين إنسانٍ وآخر، إلا بالتّقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13].
 
وهكذا، لا بدَّ لأيّ خبرٍ من أن لا يتنافى مع معطيات العقل الفطريّ، فالخبر الّذي تشعر بأنّه يتنافى مع فطرتك، عليك التأكّد من صحّته. طبعاً هنا لا بدّ من أن ننتبه إلى أنّ المعيار في رفض الخبر ليس مخالفته للذّوق أو الاستحسانات الخاصّة، وإنّما المعيار هو العقل الفطريّ، والفطرة السّليمة المودعة في الإنسان، والّتي كانت إحدى وظائف الأنبياء أن يحرّكوها. جاء في نهج البلاغة عن الإمام عليّ(ع) وهو يحدّد وظائف الأنبياء تجاه الأمّة، يقول: "ويثيروا فيهم دفائن العقول"، يعني أن َّالعقل قد يعلوه الغبار والصّدأ، ويأتي النبيّ ليثير هذه الدّفينة وهذا الكنز الّذي اسمه العقل أو الفطرة.
 
فهذا إذاً معيار، وعندما نطرح سيلاً من الأحاديث والأخبار على النّاس ولا نتوثّق منها، ولا نطابقها مع مفاهيم القرآن، فإنَّ على النّاس أن تتصدّى لذلك، وأن تُحاكم، وأن لا تستسلم لكلّ ما يُلقى عليها.
 
هذه إطلالة سريعة على أهمّ المصادر المعتبرة للثّقافة العاشورائيّة والإسلاميّة.

 

المصادر غير المعتبرة:
 
أنتقل إلى الحديث عن المصادر غير المعتبرة في الثّقافة العاشورائيّة، والّتي يعتمدها الكثيرون من الخطباء والمتكلّمين الحسينيّين، من قرّاء العزاء وغيرهم.
 
ومن هذه المصادر:
 
أوّلاً: الأخبار والرّوايات غير الموثّقة، والّتي ليس لها اعتبار فقهيّ، ولا اعتبار تاريخيّ، كما هو الحال في كثيرٍ من أخبار كتاب "أسرار الشّهادة" للدّربندي، أو غيره من الكتب الّتي يعتمدها بعض قرّاء العزاء، وينقلونها إلى النّاس دون تثبت، مع أنّ وجود الرّواية في كتاب معتبرٍ ـ فضلاً عن أن يكون غير معتبر ـ ألّفه عالم جليل لا يعني أنّها معتبرة، كما هو الحال في روايات بحار الأنوار، حيث إنّ العلامة المجلسي هو نفسه لا يضمن صحّة أخبار كتابه، بل قد يقول: "وجدْتُ في كتابٍ قديم"، فهو نفسه يشهد بأنّ مصادر كتابه ـ فضلا عن رواياته ـ  ليست بأجمعها معتبرةً، ومجرّد أنّ الرّواية مذكورة في البحار أو غيره، لا يبرّر لك أن تأتي وتثقّف الناس بها..
 
أجل، إنّ بعض الأخبار قد لا يكون لها إسناد بالمعنى المعروف فقهياً، لكنّها تمتاز بقوّة في مضمونها، ولها كيمياء خاصّة، وعليها حلاوة تشهد بصدورها عن الإمام(ع)، وقد ورد في بعض الرّوايات: "إنّ على كلّ حقٍّ حقيقةً، وإن على كلّ صوابٍ نوراً"، فإذا كان للكلام هذه القوّة في المضمون، وكان منسجماً مع القرآن، حينئذٍ يمكن أن أطرحه على النّاس وأنقله إليهم وأثقّفهم به، أمّا الأخبار الّتي لا تملك اعتباراً فقهيّاً، ولا اعتباراً تاريخيّاً، والتي لا تملك هذه القوّة في مضمونها، لا يجوز أن أثقّف النّاس بها. ومن الغريب أنّ بعض الخطباء يسندون بعض القصص والأخبار إلى "أرباب المقاتل" دون تثبّت، أو يقول لك: حدَّثَ بعض الخطباء، فيصبح المصدر هو بعض الخطباء، خطيب ينقل عن خطيب؛ إنّ هذا ليس مصدراً معتبراً لنقل الرّواية ولبناء الثّقافة الإسلاميّة.
 
ثانياً: المنامات؛ حيث نلاحظ أنّ بعضهم يكثر سرد المنامات على المنابر، ويستشهد بها ويثقّف الناس بها، فهل المنام حجّة شرعاً، أو هل يمكن أن يشكّل مصدراً للثّقافة الإسلاميّة؟
 
والجواب: إنّ منام النبيّ هو وحي، فعندما يرى النبيّ إبراهيم في منامه أنّه يذبح ابنه، فهذا وحي من الله، ولكنّ منامي أنا أو أنت، هل هو حجّة شرعاً، وهل يشكّل مصدراً للثّقافة الإسلاميّة؟ الجواب: كلا، هو ليس حجّةً شرعاً، فالأحكام الشّرعيّة لا تؤخذ من المنامات. فقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع)، وهو صحيح السّند، وقد سئل عن بعض الأمور العباديّة الّتي رُئِيَتْ في المنام، فقال: "إن دين الله أعزّ من أن يُرى في المنام". ولذلك ينقل عن الشّيخ جعفر كاشف الغطاء: "إنّ الأحلام ليست شواهد الأحكام، باتّفاق علماء الإسلام".
 
هذا بالنّسبة إلى الأحكام الشّرعيّة، وهكذا الحال في التثقيف العام، في المفاهيم، في الأخلاق، لا يمكن اعتماد المنام كحجّةٍ أو دليل، ولا سيّما أنّ المنام بحاجةٍ إلى من يعبّره لنا، بحيث يكون عندنا شخصٌ مثل يوسف(ع) الّذي خصّه الله بقدرةٍ على تفسير الرّؤى والأحلام، ولذا عندما رأى العزيز سبع بقراتٍ سمان يأكلهنّ سبع عجاف، لم يستطع أحد سواه تعبير هذا المنام. على أنّ بعض المنامات ليس لها تعبير، وإنّما هي مجرّد أضغاث أحلام، كما ينصّ القرآن الكريم، لهذا لا يمكن لي أن أقف على منابر المسلمين وأطرح عليهم سيلاً من المنامات الّتي لا يُعرف من رآها، وهل لها اعتبار أم لا، وهي ليست ذات اعتبار، وإن كانت قد تصلح لأن تكون بشائر أو نذراً، كما جاء في بعض الرّوايات. فعلينا أن نحاذر جيّداً من هذا الأمر.
 
ثالثاً: ومن المصادر غير المعتبرة بحسب اعتقادي، أو الّتي لا بدَّ من التأمّل فيها، هي محاولة تثقيف الأمّة بما يُعرف بأخبار العجائب والغرائب والكرامات. بدايةً، اسمحوا لي بأن أقول: إنّنا نؤمن بمنطق المعجزة والكرامة، فالقرآن الكريم حدّثنا عن معاجز الأنبياء، فلا بدَّ من أن نؤمن بذلك، ولا نتردّد فيه، فما نصّ عليه القرآن ـ مثلاً ـ نقبله بدون تردّد، لكن الّذي يحصل في كثيرٍ من الحالات هو التوسّع في نقل الكرامات، والإسهاب في تثقيف النّاس بها، والاستشهاد بها بهدف إثبات حقانيّة عقيدتنا أو مذهبنا، ولذا يتمّ الحديث عن أنّ فلاناً حصل معه كذا، وفلاناً شفي في المكان الفلانيّ وما إلى ذلك؛ هل هذه الطّريقة صحيحة؟ أنا لي عدّة ملاحظات على اعتماد هذا الأسلوب في التّثقيف العام:
 
1_ إنّ التّقدير الإلهيّ أو القانون الإلهيّ، قضى أن يجري هذا الكون وفق منطق السّنن وليس وفق منطق المعاجز والكرامات، إنّ المعاجز، وكذا الكرامات هي استثناء، حتّى بالنّسبة إلى الأنبياء، وليس من شرط النبيّ(ع) أن يقوم بمعجزة، ولا قامت حياة الأنبياء على أساس المعاجز، وإنما كانوا يعيشون حياةً طبيعيّةً، وأحياناً كانوا إذا ما طلب النّاس منهم معجزةً، لا يستجيب الله لطلبهم، بل يأتي الجواب: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}[الإسراء: 93]. إذاً هذه نقطة مهمَّة، وهي أنّ الإسلام يعلّمنا أنّ الحياة لا بدّ من أن تسير وفق منطق السّنن، منطق العلّة والمعلوليّة.
 
إنَّ الأمّة عندما ابتعدت عن الأخذ بمنطق السنن، وأصبحت تفتّش عن أدويةٍ لأمراضها من خلال التَّداوي بالقرآن أو بالأحراز، وتطلب النّصر بالدّعاء بدل إعداد القوّة، عندها تخلّفت وتأخّرت وأصبحت على هامش الأمم.. هذا أوّلاً.
 
2_ لا بدّ من التوثق من هذه المعاجز أو الكرامات قبل أن تطرح على الرّأي العام، فعندما يأتي شخصٌ ويقول لك: هناك شجرة في المكان الفلانيّ، يرشح منها الدّم في العاشر من محرّم كلّ عام، فلا تقبل ذلك ببساطة وسذاجة، بل توثّق من الخبر. أنا أذكر أنّ أحدهم جاء إلى أحد علمائنا الكبار، أحد الفقهاء، وقدَّم له كتاباً ألّفه حول قصَّة هذه الشّجرة الّتي يرشح منها الدّم في عاشوراء، وطلب منه أن يكتب له مقدّمةً لذلك الكتاب، فقال له الفقيه: أنا مستعدّ، لكن بشرط أن تجلس أنت تحت هذه الشَّجرة 365 يوماً، فإذا لم يرشح منها الدَّم  في كلّ هذه المدّة، باستثناء اليوم العاشر، ساعتئذٍ أفكِّر في أن أكتب لك مقدّمةً لكتابك، لذا لا بدَّ من التّوثّق من هذه الأمور. إنَّ كثيراً من الأمور تلقى على عواهنها، وهي لا أساس لها من الصحّة.
 
3_ إنّ منطق الأمور العجائبيّة، ربما لا يكون هو المنطق السّليم لإحقاق الحقّ ودحض الباطل، فغيرنا يطرح الكثير من هذه الأمور، وأنتم تسمعون بذلك وتشاهدونه على شاشات التّلفزة، مما يُحكى عن بركةٍ لتمثالٍ رشح منه الزَّيت وشفي منه فلان أو فلان، إلى غير ذلك من القصص العجائبيّة الّتي تنقل ويتداولها النّاس، وربما يتمّ في ضوئها تطويب بعض الكهنة، ولو أنّنا تجاوزنا أصحاب الأديان السّماويّة، وذهبنا إلى الهندوس، سنرى أمثال هذه القضايا الّتي قد تكون أحياناً مبنيّةً على علمٍ معيّن أكثر مما تكون كرامة.
 
ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّ حقّانيّة الدّين أو المذهب، هي في امتلاكه الحجّة، واعتماده على المنطق، وإنّ قوّة المنطق في رسالة الحسين، هي الّتي تثبت حقّانيّة هذه النّهضة، وليس حصول عجيبة أو كرامة مع فلان أو فلان. 
 
إنّ كلامي هذا لا يشكّل دعوةً إلى التّشكيك أو رفض كلّ ما ينقل إلينا من الكرامات، بل إنّي أدعو إلى التّعامل مع هذه الأمر وفق القاعدة المعروفة المنقولة عن ابن سينا: "كلّ ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان، حتى يذودك عنه قاطع البرهان". لكنّني في الوقت نفسه، أدعو نفسي، وأدعو غيري من الخطباء، إلى احترام عقول النّاس، وأن نثقّفهم بالثقافة المثمرة على أقلّ تقدير، فلا نطرح الأمور التي تثير انقساماً وبلبلةً في وسط من يستمع إلينا، وربما يسمنا الآخرون بالكثير من الصّفات السلبيّة، ولنكن على الأقلّ ممن يعمل بوصيّة رسول الله(ص): "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم".
 
4_ ومن المصادر غير المعتبرة في التّثقيف العاشورائيّ، اعتماد ما يعرف بلسان الحال، الّتي يكثر استخدامها على لسان الخطباء، حيث ينقلون الكثير من الأحداث والقصص والمحاورات بعنوان لسان الحال، أو بصيغة: كأنّي به يقول. ولي على هذه الوسيلة بعض الملاحظات:
 
الملاحظة الأولى: أنّه من الّذي يعرف لسان حال المعصوم ليحكي حاله؟! أنت عندما تريد أن تتكلّم بلسان حال إنسانٍ، فلا بدّ من أن تكون ملمّاً بحاله ومشاعره وتطلّعاته، هذا في الإنسان العاديّ، فما بالك بالمعصوم؟ فإذاأردت  أن تتحدّث عنه بلسان الحال، فإنّ عليك أن تعرف المعصوم معرفةً جيّدة، في فكره وعقله، وفي تطلّعاته ومشروعه، وفي مواصفاته السّامية، ومَنْ الّذي يجرؤ على القول: إنّه محيطٌ بحال الإمام الحسين(ع)، أو أنه ملمّ بما كان يفكّر فيه ويجول في خاطره ظهيرة العاشر من محرّم، حتى يتحدّث بلسان حاله؟! إنَّ الكثير مما ينقل إلينا بلسان حال الإمام(ع) إنّما يحكي ويعكس لسان حال المتكلّم أكثر من لسان حال المعصوم.    
 
على سبيل المثال: عندما يتحدّث بعض الشّعراء، ممن نحترم، ويتكلّم بلسان حال الحسين(ع) قائلاً:
 
سادةٌ نحن والأنام عبيدُ   ولنا طارف المجد والتّليد
 
فإنّنا نتساءل: هل هذا لسان حال الأئمّة من أهل البيت(ع)؟! هل يتحدَّثون بهذا المنطق؟! طبعاً لا، والاسترسال في قضيَّة لسان الحال خطرة جداً، لأنّنا أحياناً نعكس حالاً للمعصوم هو أبعد شيءٍ عنه وعن حاله ورسالته.
 
الملاحظة الثّانية: أنّ قضيَّة لسان الحال كانت مدخلاً لتسرّب الكثير من الأكاذيب إلى النّهضة الحسينيّة، مثلاً، لو أنّني سألتكم عن صاحب هذا البيت الشّعريّ:
 
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني
 
لأجابني كثيرون أنّه للإمام الحسين، وهذا خطأ شائع، وربما وقع فيه بعض العلماء والخطباء، فهذا بيتٌ من قصيدةٍ قالها الشاعر العراقيّ الشّيخ محسن أبو الحبّ، منذ مئة عامٍ تقريباً، لكن بما أنّه قيل بلسان الحال بادئ الأمر، أصبح بعد ذلك يحكى بلسان المقال. ولعلّ بعض الأحداث الّتي لا أصل لها هي من هذا القبيل، كما في قصّة عرس القاسم، أو قضيّة وجود ليلى في كربلاء، وأنّها دخلت الخيمة ونشرت شعرها، ودعت قائلةً: يا رادّ يوسف... إلخ. إنّ هذه القضيّة لا وجود لها في أيّ مصدرٍ من المصادر، فالعلامة المجلسي، رغم تتبّعه، يقول: لم أجد أيَّ نصٍّ عليها، وهكذا الشَّيخ عبّاس القمّي، بل إنّ المحدّث النّوري يقول إنّ هذه القضيّة الّتي تحكي قصّة ليلى هي كذبٌ في كذب، فربّما طرحت هذه القضايا بلسان الحال، وأصبحت تُتلى على المنابر بكرةً وعشيّة، وبمرور الوقت، غدت حقيقة، ولعلّ الكثير من الأمور الّتي لا مصدر لها في النّهضة الحسينيّة، انتقلت بهذه الطّريقة.
 
وختاماً أقول: إنَّنا معنيّون بتقديم الحسين الإنسان، وبالصّورة الّتي تليق به وبنهضته.
 
 انتماؤنا إلى الحسين يفرض علينا أن نقدِّمه في رسالته الإنسانيَّة، فهو ليس حسين المهانة والذلّة الّذي يردّد في آخر لحظات حياته: "يا قوم إنّي عطشان"!، بل إنّ الحسين الحقيقيّ هو حسين "هيهات منّا الذلّة". إنّ الحسين
الإنسانيّ والحقيقيّ ليس هو حسين الحقد، هو حسين الحبّ لله وللنّاس، كيف وهو الّذي قال للقوم: "أمهلونا سواد هذه اللّيلة لنصلّي لربّنا، فإن الله يعلم أنّي أحبّ الصّلاة". إنّ الحسين الحقيقيّ ليس حسين الموت والحزن، بل حسين الحياة، ورسالة الحسين هي رسالة الحياة. إنّ الحسين الإنسانيّ ليس هو حسين الدّمعة فحسب، بل حسين العاطفة والفكر والسّلوك.
 
*  محاضرة ألقاها سماحة الشّيخ حسين الخشن في اللّيلة التّاسعة من ليالي عاشوراء 1432هـ في مسجد الإمامين الحسنين(ع)
 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon